الصديق
بعد ذلك بأقلَّ من ساعة، كانت مارجريت جالسةً داخل العربة التي تحملها بسرعةٍ نحو لندن، غارقةً في أفكارها.
كانت قد ودَّعَت سوزان الصغيرة وداعًا مفعمًا بالمحبة، وشهدَت الطفلة تُغادر سالمةً في عربتها عائدةً إلى البلدة مع خادمتها. وأرسلت ساعيًا برسالة اعتذارٍ محترمةٍ إلى صاحب السمو، ترجوه تأجيلَ زيارته المبجَّلة بسبب عملٍ طارئٍ وعاجل، وساعيًا آخَر سبقها إلى فيفرشام لتجهيز خيلٍ نشطةٍ من أجل التبديل.
ثم غيَّرَت ثوبها المصنوعَ من الموصلين وارتدت زيًّا قاتمًا مخصَّصًا للسفر ووشاحًا، وأخذت ما تحتاج إليه من المال — إذ كان سخاءُ زوجِها يضعُ المال دائمًا تحت تصرفها بالكامل — وانطلقت في طريقها.
لم تُحاول خداع نفسها بأيِّ آمالٍ جوفاءَ عديمة الجدوى؛ فسلامة أخيها أرماند مشروطةٌ بالقبض الوشيك على سكارليت بيمبرنيل. وحيث إن شوفلان كان قد أعاد إليها الرسالة التي تفضح أرماند، فمن المؤكد أنه كان مقتنعًا تمامًا في قرارة نفسه بأن بيرسي بليكني هو الرجل الذي أقسمَ أن يقبض روحه.
لا! لم يكن يوجد مجالٌ لأيِّ أوهام حمقاء! بيرسي، الزوج الذي أحبَّتْه لشجاعته التي أثارَت إعجابَها بحرارة، كان في خطرٍ مميتٍ وشيك بسببها. كانت قد وشَت به إلى عدوِّه — صحيحٌ أن ذلك حدث دون قصد — لكنها كانت قد وشَت به بالفعل، وإن نجح شوفلان في نصبِ فخٍّ له وهو غير مُدركٍ حتى الآن للخطر المُحدق به، فستكون السببَ في موته. موته! في حين أنها مستعدةٌ للدفاع عنه بدماء قلبها، والتضحية بروحها عن طيبِ خاطرٍ من أجله.
كانت قد أمرَت بأن تأخذَها عربتُها إلى نُزل «التَّاج»؛ وحالما وصلَت، أمرَت سائق العربة بأن يُطعِم الخيل ويُريحها. ثم طلبَت مِحَفَّة، وحُمِلَت إلى المنزل في بال مول حيث كان يقطن السير أندرو فولكس.
من بينِ كل أصدقاء بيرسي الذين انضَوَوا تحت رايته الجسورة، شعرَت بأنها ستُفضِّل الإسرارَ إلى السير أندرو فولكس. فهو دائمًا ما كان صديقًا لها، وفوق ذلك، حُبُّه لسوزان الصغيرة الآن جعله أقربَ إليها من ذي قبل. وإن لم يكن في المنزل، أو ربما غادر من أجل خوض المهمَّة الجنونية مع بيرسي، حينها ستتَّصل باللورد هاستينجز أو اللورد توني؛ لأنها كانت تريد عونًا من أحد أولئك الشباب، وإلا فستكون عاجزةً بالفعل عن إنقاذ زوجها.
لكنَّ السير فولكس كان في المنزل، وقد أدخل خادمُه سيادتها فورًا. صعدَت الدرَج إلى غرف الشابِّ الأعزب المريحة، وأُخِذت إلى غرفة طعامٍ صغيرة لكنها مفروشةٌ بشكلٍ فاخر. وبعد لحظةٍ أو اثنتين، ظهر السير أندرو بنفسه.
كان واضحًا أنه فوجئ كثيرًا عندما سمع هُويةَ ضيفته؛ لأنه كان ينظر بقلقٍ — بل وارتياب — إلى مارجريت وهو يُقدم تحيته بانحناءةٍ مُتقنة أمامها، وفق متطلبات آداب الذوق الصَّارمة آنذاك.
كانت مارجريت قد نحَّت كلَّ آثار توترها جانبًا؛ إذ كانت هادئةً تمامًا، وبعدما ردَّت على الشَّاب بتحيةٍ متقَنة، استهلَّت كلامها بهدوء شديد:
«سير أندرو، لا أريد إضاعةَ الوقت الثمين في الكثير من الكلام، يجب أن تأخذ بعضَ الأشياء التي سأخبرك بها على أنها مؤكَّدة بلا أيِّ جدال. وهي ليست مهمَّة. بل المهم هو قائدك ورفاقك، سكارليت بيمبرنيل … زوجي … بيرسي بليكني … إنه في خطرٍ مميت.»
إذا كانت تحمل أدنى شكٍّ في صحة استنتاجاتها قبل هذا اللقاء، فقد صارت متيقنةً تمامًا الآن؛ وذلك لأن السير أندرو ذَهِل تمامًا وأصبح شاحبًا جدًّا، وكان عاجزًا تمامًا عن أيِّ محاولةٍ لإبداء ردٍّ مُراوِغ ذكي.
تابعَت بهدوء: «لا يهم كيف عرَفتُ هذا يا سير أندرو، فحمدًا للرب أنني عرفت، وأنَّ أوان إنقاذه ربما لم يَفُت. مع الأسف لا أستطيع فعل هذا وأنا وحيدةٌ تمامًا؛ ولذا جئتُ إليك أطلب المساعدة.»
قال الشَّاب محاولًا الاستفاقةَ من الصدمة: «ليدي بليكني، أنا …»
قاطعته: «هلَّا سمعتني أولًا؟ الوضع كالآتي. عندما سرقَ مُوفَدُ الحكومة الفرنسية أوراقكم تلك الليلةَ في دوفر، وجدَ بينها بعضَ الخطط التي ستُنفذونها أنتم أو قائدكم لإنقاذ كونت تورناي وآخرين. لقد سافر سكارليت بيمبرنيل — زوجي بيرسي — لتنفيذ هذه المهمة بنفسه اليوم. وشوفلان يعلم أنَّ سكارليت بيمبرنيل وبيرسي بليكني شخصٌ واحد. وسيتبعُه إلى كاليه، وهناك سيُمسك به. وتعرف كما أعرف المصيرَ الذي ينتظره على يد الحكومة الثورية الفرنسية. لن يُنقذه تدخلُ إنجلترا؛ ولا حتى تدخل الملك جورج نفسه. فروبسبيير وعصابته سيحرصون على أن يكون أوان التدخل قد فات. ليس هذا فحسب، بل إنَّ القائدَ الموثوق سيكون وسيلةً، بلا وعيٍ منه، للكشف عن مكانِ اختباء كونت تورناي وجميع أولئك الذين، حتى الآن، يضَعون آمالهم عليه.»
تحدَّثَت بهدوءٍ وعقلانية مجردةٍ من الانفعال وعزمٍ ثابتٍ لا يلين. كان هدفها أن تجعل ذلك الشَّابَّ يثق بها ويساعدها؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا بدونه.
كرَّر محاولًا كسْبَ الوقت للتفكير في أفضلِ ما يمكن فعله: «لا أفهم.»
«حقًّا! لكني أعتقدُ أنك تفهم يا سير أندرو. من المؤكد أنك تعلم أنني أقول الحقيقة. واجِه هذه الحقائق. بيرسي أبحر إلى كاليه، وأفترضُ أنه سَيرسُو في مكانٍ منعزلٍ من السَّاحل، وشوفلان يتعقَّبُه. لقد غادر مسرعًا إلى دوفر وسيعبر القنال الليلة على الأرجح. ما الذي سيحدث برأيك؟»
كان الشَّابُّ صامتًا.
«بيرسي سيصلُ إلى وجهته، غيرَ مدركٍ أنه مُلاحَق، وسيعثر على تورناي والبقية؛ من بينهم أرماند سان جوست أخي، سيعثر عليهم واحدًا تِلوَ الآخَر، وهو لا يعرف على الأرجح أن أثقَب عينين في العالم تُتابعان كلَّ تحركاته. وهكذا يكون قد وشى بأولئك الذين وثقوا به ثقةً تامة، وعندما لا يبقى شيءٌ يستفيدونه منه، ويكون على وشك العودة إلى إنجلترا مع أولئك الذين ذهب لإنقاذهم بشجاعة، ستُغلَق أبواب الفخِّ عليه وسيُرسَل إلى المقصلة لإنهاء حياته النبيلة.»
ظل السير أندرو صامتًا.
قالت بانفعالٍ عاطفي: «أنت لا تثق بي، أوه يا إلهي! ألا يمكنك أن ترى أنني جادةٌ كالموت؟» وأضافت بينما أمسكَت يداها الصغيرتان بكتفَي الشَّابِّ فجأةً مجبرةً إيَّاه على النظر مباشرةً في عينيها: «يا رجل، يا رجل. أخبرني، هل أبدو كأحقرِ شيءٍ على الأرض؛ امرأة يمكن أن تخون زوجها؟»
قال الشاب أخيرًا: «لا سمح الله أن أنسبَ إليكِ مثلَ هذه الدوافع الشريرة يا سيدة بليكني، لكن …»
«لكن ماذا؟ … أخبرني … أسرِعْ يا رجل! … حتى الثواني ثمينة!»
سأل بحزمٍ وهو يُحدِّق بتدقيقٍ إلى عينيها الزرقاوين: «هل ستُخبرينني يدُ مَن التي ساعدَت في إرشاد السيد شوفلان إلى المعلومات التي تقولين إنه يعرفها؟»
قالت بهدوء: «يدي، أعترفُ بذلك، لن أكذب عليك؛ لأنني أتمنى أن تثقَ بي تمامًا. لكن لم تكن لديَّ فكرة — كيف كان لي أن أعرف؟ — بشأن هُوية سكارليت بيمبرنيل … وكانت سلامةُ أخي هي جائزتي إن نجَحتُ.»
«في مساعدة شوفلان في تتبُّع سكارليت بيمبرنيل؟»
أومأت إيجابًا.
«لا فائدة من إخبارك كيف أجبرني. أرماند أكثرُ من مجرد أخٍ لي، و… و… كيف كان لي أن أُخمِّن؟ … لكننا نضيع الوقت هنا، يا سير أندرو … كلُّ ثانيةٍ ثمينة … أقسم بالرب! … زوجي في خطر … صديقك! رفيقك! ساعدني في أن أنقذه.»
شعر السير أندرو بأنه أصبح في موقفٍ صعب جدًّا. القسَم الذي أخذه على نفسه أمام قائده ورفيقه كان قسمًا يقتضي الطاعةَ والتزام السرية، ولكن من المؤكَّد أنَّ هذه المرأة الجميلة، التي تطلب منه أن يثقَ بها، جادةٌ وصادقة؛ ومن المؤكد كذلك أنَّ صديقه وقائده في خطرٍ وشيك و…
قال أخيرًا: «ليدي بليكني، يعلم الرب أنك حيَّرتِني، حتى إنني لا أعرف ما يتوجَّب عليَّ. أخبريني بما تُريدينني أن أفعل. يوجد تسعةَ عشر واحدًا منَّا مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل سكارليت بيمبرنيل إن كان في خطر.»
قالت بطريقة جافة: «لا حاجة إلى حياة أحدٍ الآن يا صديقي، فبراعتي العقلية وأربعُ خيولٍ سريعة ستؤدي الغرضَ الضروري. لكن يجب أن أعرف أين يُمكنني أن أجدَه.» أضافت، وقد امتلأت عيناها بالدموع: «أصْغِ إليَّ، لقد أذللتُ نفسي أمامك، واعترفتُ بخطَئي لك، هل يجب أن أعترف بضعفي كذلك؟ أنا وزوجي كنا مُتجافيَين؛ لأنه لم يثِقْ بي، ولأنني كنتُ عمياء جدًّا لدرجةٍ أعجزَتني عن أن أفهم. لا بد أن تقر بأن الغطاء الذي عصَب به عينيَّ كان سميكًا جدًّا. فهل غريب أنني لم أرَ من خلاله؟ لكن الليلة الماضية، وبعد أن قُدتُه إلى خطرٍ مُميتٍ عن غيرِ قصد، زال عن عيني فجأةً. إن لم تُساعدني يا سير أندرو، فسأظلُّ أسعى جاهدةً إلى إنقاذ زوجي. سأبذل كلَّ قدرةٍ أملكها من أجله، لكنني قد أكون عاجزة؛ لأنني قد أصلُ بعد فوات الأوان، وعندئذٍ لن يبقى لك شيءٌ سوى الندم طوالَ الحياة و… و… ولن يبقى لي سوى قلبٍ مفطور.»
قال الشَّاب وقد تأثَّر بالجدية اللطيفة النابعة من هذه السيدة الجميلة الرَّائعة: «لكن يا سيدة بليكني، هل تعلمين أنَّ ما تعتزمين فِعلَه هو عملُ الرجال؟ … فلا يمكنكِ أن تُغادري إلى كاليه وحدكِ. ستُعرِّضين نفسكِ لأشدِّ المخاطرات المحتملة، وفرصك في إيجاد زوجك الآن — حتى لو أعطيتُكِ إرشاداتٍ دقيقةً جدًّا إلى مكانه — ضئيلةٌ للغاية.»
تمتمَت هامسةً: «أوه، أتمنى أن توجد مخاطرات! وأتمنى أن توجد أخطارٌ أيضًا! فلديَّ خطايا كثيرةٌ أُكفِّر عنها. لكنك مع الأسف قد تكون مخطئًا. فعيونُ شوفلان مُسلَّطةٌ عليكم كلكم؛ لذا لن يكاد يُلاحظني. أسرِع يا سير أندرو! … العربةُ جاهزةٌ ولا توجد لحظةٌ لنُضيعها. لا بدَّ أن أصلَ إليه!» وكرَّرَت بهمةٍ تكاد تكون وحشية: «لا بد! لأُنبِّهه إلى أنَّ ذلك الرجل يتعقَّبُه. ألا يمكنك أن ترى … ألا يمكنك أن ترى، إنني يجبُ أن أصل إليه … حتى … حتى إن كان أوان إنقاذه قد فات … على الأقل … لأكون بجانبه … في النهاية.»
«ربَّاه يا سيدتي، يجب أن تأمريني. وبكل سرورٍ سأقدِّم أنا أو أيٌّ من رفاقي حياتَنا من أجل زوجكِ. أمَّا إن كنتِ ستذهبين بنفسكِ …»
مدَّت يدها إليه: «لا يا صديقي، ألا ترى أنني سأُجنُّ إن تركتُك تذهب بدوني؟ هل ستثق بي؟»
قال ببساطة: «إني أنتظر أوامرك.»
«استمع إذن. عربتي جاهزة لأخذي إلى دوفر. هلَّا تبعتَني بأقصى سرعةٍ تملكها خيولك. سنلتقي بعد حلول الليل في «استراحة صيَّاد السمك». سيتجنَّبُها شوفلان، لأنه معروفٌ هناك، وأظن أنها آمَنُ مكان. سأقبل أن تُرافقني إلى كاليه بسرور … فكما تقول، قد لا أستطيع الوصولَ إلى السير بيرسي مهما أعطيتَني من إرشاداتٍ دقيقةٍ إلى مكانه. سنستأجر مركبًا شراعيًّا في دوفر ونعبر خلال الليل. وستكون متنكرًا، إن لم يكن لديك مانع، على أنَّك خادمي، وبذلك لن يكتشف أمرك، على ما أظن.»
أجاب الشَّاب بجدية: «أنا كُلي في خدمتكِ يا سيدتي. أومِنُ، بإذن الرب، بأنكِ ستُبصرين مركب «داي دريم» قبل أن نصل إلى كاليه. فمع وجود شوفلان في أعقابه، كلُّ خطوةٍ يخطوها سكارليت بيمبرنيل على التراب الفرنسي محفوفةٌ بالخطر.»
«بمشيئة الرب يا سير أندرو. لكن الآن، سأودِّعُك. سنلتقي الليلةَ في دوفر! سيكون هذا سباقًا بيني وبين شوفلان عبر القنال الليلة، والجائزة هي حياةُ سكارليت بيمبرنيل.»
قبَّل يدَها ورافقها إلى مِحَفَّتها. وبعد رُبع ساعة كانت قد عادت إلى نزل «التَّاج» حيث كانت عربتُها وخيولها جاهزةً في انتظارها. وفي اللحظة التَّالية انطلقَت تهدر عبر شوارع لندن، ثم مباشرةً نحو طريق دوفر بسرعةٍ جنونية.
لم يكن لديها الآن وقتٌ لليأس. كانت منخرطةً في سعيٍ فِعلي، ولم يكن لديها متسع للتفكير. وبوجود السير أندرو فولكس رفيقًا وحليفًا لها، عاد الأمل يتَجدَّد في قلبها.
سيكون الربُّ رحيمًا. لن يسمح بارتكابِ جريمةٍ رهيبةٍ كهذه؛ بأن يموتَ رجلٌ شجاعٌ على يد المرأة التي تُحبه وتعشقه، والمستعدة بكلِّ سرور للتضحية بحياتها من أجله.
شرَدَت أفكار مارجريت مجددًا إليه، ذاك البطل الغامض الذي كانت تُحبه دائمًا بلا وعيٍ منها عندما كانت هُويَّته غيرَ معروفةٍ لها. والمضحِك أنها في تلك الأيَّام كانت تصفُه بأنه مَلِكُ فؤادها الغامض، والآن قد عرَفَت فجأةً أن ذلك الشخص الغامض الذي عشقَته، والرجل الذي أحبَّها بهُيام، شخصٌ واحد، فما العجب في أن بِضْع رُؤًى سعيدة قد بدأَتْ تُداعب خيالها؟ تساءلت متحيرةً عمَّا ستقوله له عندما يلتقيان وجهًا لوجهٍ لأول مرة.
كانت قد مرَّت بكَمٍّ هائل من القلق النفسي، وكمٍّ هائلٍ من الانفعال والإثارة خلال السَّاعات القليلة الماضية؛ لذا سمحَت لنفسها برفاهيةِ احتضان هذه التخيُّلات القليلة الأكثر إشراقًا وإثارةً للتفاؤل. وتدريجيًّا، عمِلَت قعقعةُ عجلات العربة، بصوتها الرتيب المتواصل، على تهدئة أعصابها، فأُغلِقت، لا إراديًّا، عيناها اللتان تؤلمانها من التعب والدموع الكثيرة المذروفة وغير المذروفة، وراحت في نومٍ مضطرب.