اليهودي
استغرقَت مارجريت بعض الوقت لاستجماع حواسِّها المشتَّتة؛ فالحادثة القصيرة السَّابقة كلها قد استغرقَت أقلَّ من دقيقة، وكان ديجا والجنود ما يزالون على بُعد مائتَي ياردة عن نُزل «القط الرمادي».
وعندما استوعبَت ما حدث، ملأ مزيجٌ من السعادة والتعجُّب قلبَها. كان الحَدَث كلُّه متقنًا جدًّا وعبقريًّا جدًّا. وكان شوفلان لا يزال عاجزًا تمامًا، أشدَّ عجزًا بكثيرٍ ممَّا كان يمكن أن يكون عليه حاله لو أنه نال لكمةً قاضيةً من قبضته؛ وذلك لأنه الآن لم يكن يستطيع أن يرى ولا أن يسمع ولا أن يتكلَّم، بينما انسلَّ خَصمُه الماكر من بين أصابعه بكل هدوء.
غادر بليكني، وكان من الواضح أنه سيُحاول الانضمامَ إلى المُطارَدين في «كوخ الأب بلانشار». صحيحٌ أن شوفلان كان في تلك اللحظة عاجزًا، وأنَّه حتى تلك اللحظة لم يكن سكارليت بيمبرنيل الجريء قد وقع في قبضة ديجا ورجالِه. لكن كل الطرق وبقاع الشَّاطئ كانت خاضعةً لدورياتِ حراسة. كلُّ مكانٍ كان مُراقَبًا وكلُّ غريب كان يُبقى قيدَ الملاحظة. فإلى أيِّ مدًى يمكن لبيرسي أن يبتعد وهو متأنقٌ هكذا بملابسه الرَّائعة بدون أن يلاحَظ ويلاحَق؟
لامَت نفسها الآن بشدة على أنها لم تنزل إليه سريعًا وتُعطِه رسالةَ التحذير والحب التي ربما كان يحتاج إليها رغم كل شيء. فهو لم يكن يعرف شيئًا عن الأوامر التي أصدرَها شوفلان لأجل الإمساك به، وحتى الآن، ربما …
لكن قبل أن يكتمل تشكُّل هذه الأفكار في عقلها، سمعَت صوتَ إنزال الأسلحة في الخارج قرب الباب، وصوت ديجا يصرخ في رجاله قائلًا: «وقوف!»
كان شوفلان قد استردَّ بعضًا من حالته الطبيعية، وأصبح عطاسه أقلَّ عنفًا، ووقف على قدمَيه بصعوبةٍ بالغة. تمكن من الوصول إلى الباب في اللحظة التي سمع فيها قرع ديجا على الباب من الخارج.
فتح شوفلان الباب، وقبل أن يتمكن سكرتيره من قول أيِّ كلمة، استطاع أن يقول متلعثمًا بين عطستَين:
«الغريب الطويل … بسرعة! … هل رآه أيٌّ منكم؟»
سأله ديجا متفاجئًا: «أين أيها المواطن؟»
«هنا يا رجل! عبر هذا الباب! منذ أقلَّ من خمس دقائق.»
«لم نرَ شيئًا أيها المواطن! القمر لم يبزغ بعد، و…»
قال شوفلان بغضبٍ محتدِم: «وأنت متأخرٌ خمسَ دقائق يا صديقي.»
«أيها المواطن … أنا …»
قال شوفلان بنفادِ صبر: «أنت فعلتَ ما أمرتُك به، أعرف هذا. لكنك استغرقتَ وقتًا طويلًا جدًّا في ذلك. لحسن الحظ، لم يحدث ضررٌ كبير وإلا كانت العاقبةُ سيئةً عليك، أيها المواطن ديجا.»
شحب وجه ديجا قليلًا. كان سلوك رئيسه كله يعجُّ بالغضب والكراهية.
قال متلعثمًا: «الغريب الطويل أيها المواطن …»
«كان هنا، في هذه الغرفة، قبل خمس دقائق، يتناول العشاء على تلك الطَّاولة. اللعنة على وقاحته! لأسبابٍ واضحة، لم أجرؤ على القبض عليه وحدي. وبروجار أحمقُ للغاية، ويبدو أنَّ ذاك الإنجليزيَّ اللعين يملك قوةَ ثَور، وها هو انسلَّ أمام عينَيك مباشرة.»
«لا يمكنه أن يبتعد دون أن يُلاحظه أحدٌ أيُّها المواطن.»
«هه؟»
«أرسلَ الكابتن جوتلي أربعين رجلًا لتعزيز مأمورية الحراسة؛ عِشرون منهم توجهوا نحو الشَّاطئ. وقد أكَّد لي مجددًا أن الحراسة ستستمرُّ طوال اليوم، وأن لا غريب يستطيع أن يبلغ الشَّاطئ أو يصل إلى مركبٍ دون أن يُلحظ.»
«هذا جيد. هل يعرف الرجال عملَهم؟»
«لقد تلَقَّوا أوامرَ واضحةً أيها المواطن، وأنا شخصيًّا تحدثتُ إلى أولئك الذين كانوا على وشك الانطلاق إلى مهمتهم. سيتبعون أيَّ غريبٍ يرَونه كظلِّه — بأشدِّ قدرٍ ممكنٍ من السرية — خصوصًا لو كان طويلًا أو محدودبَ الظهر كما لو أنه يُخفي طوله.»
قال شوفلان متلهِّفًا: «وبالطبع لن يُحاولوا القبضَ على شخصٍ بهذه المواصفات بأيِّ حالٍ من الأحوال. سنترك سكارليت بيمبرنيل الوقحَ ذاك ينسلُّ من بين أصابعَ خرقاء. لا بد أن ندعَه يصلُ إلى «كوخ الأب بلانشار» الآن، وهناك سنُحاصره ونُمسك به.»
«الرجال يفهمون هذا أيها المواطن، وكذلك أنهم حالما يلحظون غريبًا طويلًا، فلا بد أن يُلاحقوه كظلِّه، بينما يعود رجلٌ واحدٌ ليُبلغك.»
قال شوفلان وهو يفرك يدَيه راضيًا جدًّا: «هذا صحيح.»
«لديَّ أخبارٌ أخرى لك أيها المواطن.»
«ما هي؟»
«تبادل رجل طويل محادثةً طويلة منذ نحو ثلاثة أرباعِ السَّاعة مع رجلٍ يهودي، اسمه روبن، يعيش على بُعد عشرِ خطواتٍ من هنا.»
استفهَم شوفلان بلهفة: «أجل … وبعدئذٍ؟»
«كانت المحادثة كلُّها عن حِصانٍ وعرَبة، أراد الرجل الطويل أن يستأجرَهما، وكان من المقرَّر أن يكونا جاهزَين له بحلول السَّاعة الحادية عشرة.»
«فاتت تلك السَّاعة الآن. أين يعيش روبن ذاك؟»
«على مسيرة بضع دقائق من هذا الباب.»
«أرسِلْ أحدَ الرجال ليعرفَ ما إن كان الغريب قد غادر بعربة روبن.»
«أَمْرك أيها المواطن.»
ذهب ديجا لإملاء الأوامر اللازمة على أحد الرجال. لم تَفُت مارجريت أيُّ كلمةٍ من هذه المحادثة بين ديجا وشوفلان، وبدا أن كل كلمة قالاها كانت تضرب قلبها بيأسٍ فظيعٍ وتشاؤم كئيب.
لقد جاءت كلَّ هذا الطريق، بآمالٍ كبيرةٍ وعزمٍ راسخ على مساعدة زوجها، لكنها حتى الآن لم تكن قادرةً على فعل شيءٍ سوى مُشاهدة خيوطِ الشبكة القاتلة تُطبِق على سكارليت بيمبرنيل الجريء، وقلبها ينفطر من العذاب.
لن يتمكَّنَ الآن من الابتعاد كثيرًا دون أن تُلاحقه عيون الجواسيس وتشيَ به. أصابها عجزُها بشعور بالإحباط الفظيع. أصبحَت إمكانيةُ تقديمها أدنى مساعدةٍ لزوجها شِبهَ منعدمة، واستقر أملُها الأخير على أن يُسمَح لها بمشاركته مصيرَه، مهما كان في النهاية.
وفي الوقت الحالي، كانت حتى فرصتها في رؤية حبيبها مجددًا ضئيلة. لكنها كانت مُصرَّةً على مراقبة عدوِّه عن قرب، وقد امتلأ قلبُها ببصيصٍ خافت من الأمل في أن مصير بيرسي ربما يظلُّ معلقًا في يدَي القدَر ما دامت عاكفةً على مراقبة شوفلان.
كان ديجا قد ترك شوفلان يَذْرع الغرفة ذَهابًا وإيابًا بنكَد، بينما انتظر هو شخصيًّا في الخارج عودةَ الرجل الذي أرسله للبحث عن روبن. وهكذا مرَّت عدةُ دقائق. كان واضحًا أن نفاد الصبر يلتهم شوفلان. بدا أنه لم يكن يثقُ في أحد؛ فتلك الحيلة الخادعة الأخيرة التي لعبها عليه سكارليت بيمبرنيل الجريءُ جعَلَته فجأةً يشك في النجاح، ما لم يكن موجودًا بنفسه ليُراقب عملية القبض على هذا الإنجليزي الوقح ويُوجِّهها ويُشرف عليها.
بعد حوالي خمس دقائق، عاد ديجا ووراءه يهودي مسن يرتدي معطفًا طويلًا فَضْفاضًا رثًّا متَّسخًا، باليًا مشحمًا بعرض الكتفَين. كان شعره الأحمر مصففًا على طريقة اليهود البولنديِّين، بخُصلة شعرٍ لولبية على جانبَي وجهه، وكان يحوي قدرًا كبيرًا من الشعر الرمادي، وكان وجهه مَكسوًّا بطبقةٍ عامة من السُّخام عند خدَّيه وذقَنِه؛ ممَّا أضفى عليه مظهرًا قذرًا وبغيضًا بشكلٍ استثنائي. كان ظهره يتَّسم بتلك الحدبة المعتادة التي كان بَنو عِرقه يتصنَّعونها بدافع التواضع الزائف في القرون الماضية قبل بزوغ فجر المساواة والحرية في مسائل الأديان، وكان يمشي خلف ديجا جارًّا قدمَيه بتلك المشية الفريدة التي ظلَّت سِمةً مميزة لدى التجَّار اليهود في قارة أوروبا إلى يومنا هذا.
أشار شوفلان، الذي كان يحمل كلَّ التحيُّز الفرنسي ضد العِرق المُحتَقَر، للرجل بأن يبقى على مسافةٍ بعيدة. كان الرجال الثلاثة يقفون أسفلَ مصباح الزيت المعلق بالضبط، وكانت مارجريت تراهم جميعًا بوضوح.
سأل شوفلان: «أهذا هو الرجل؟»
أجاب ديجا: «لا، أيها المواطن، لم نجد روبن؛ لذا يبدو أنَّ عربته قد غادرَت مع الغريب، لكن هذا الرجل هنا يبدو أنه يعرف شيئًا، وهو على استعدادٍ لبيعه بمقابلٍ مادي.»
قال شوفلان وهو يستدير مبتعدًا باشمئزازٍ عن النموذج الإنساني المقرف الواقف أمامه: «سحقًا!»
وقف اليهوديُّ جانبًا بتواضعٍ، متحليًا بصبر اليهود المميز، ومتكئًا على عصًا سميكةٍ معقودة، فيما كانت قبعته العريضةُ الحواف والمكسوَّةُ بالشحم تُلقي بظلٍّ عميق على وجهه المتسخ، في انتظار أن يتلطف نيافتُه النبيل بطرح بعض الأسئلة عليه.
قال شوفلان بنبرةٍ آمرة: «أخبرَني المواطن بأنك تعرف شيئًا عن صديقي؛ الرجل الإنجليزي الطويل الذي أتمنَّى لقاءه.» وأضاف سريعًا عندما تقدم اليهوديُّ خطوةً سريعةً ومتلهفةً إلى الأمام: «اللعنة! التزِمْ بمسافتك يا رجل.»
ردَّ اليهودي الذي كان يتحدث اللغة بتلك اللَّثغة المميزة التي تنمُّ على أصوله الشرقية: «أجل فخامتك، أنا وروبن جولدشتاين التقينا برجلٍ إنجليزي طويل على قارعةِ الطريق بالقرب من هنا مساءَ اليوم.»
«هل تحدَّثتَ إليه؟»
«بل هو الذي تحدثَ إلينا فخامتك. أراد أن يعرف ما إن كان يستطيع استئجارَ حصانٍ وعربةٍ للذَّهاب على طريق شارع سان مارتين، إلى مكانٍ أراد أن يصلَ إليه الليلة.»
«ماذا قلتَ له؟»
أجاب اليهوديُّ بنبرةٍ مجروحة: «لم أقُل أيَّ شيء، روبن جولدشتاين، ذاك الخائن اللعين، ابن الشيطان …»
قاطعَه شوفلان بفظاظة: «اختصر يا رجل، وأكمِل قصتك.»
«لقد أخذ الكلمات من على طرَف لساني فخامتك؛ عندما كنتُ على وشك أن أعرض على الإنجليزي الثريِّ حِصاني وعربتي لآخُذَه إلى أي مكان يختاره، كان روبن قد تكلم بالفعل، وعرض عليه فرسَه النحيلة المتضورة وعربتَه المحطَّمة.»
«وماذا فعل الإنجليزي؟»
«استمع إلى روبن جولدشتاين فخامتك، ووضَع يده في جيبه في اللحظة نفسِها، وأخرج قبضةً عامرةً بالذهب، وأراها لسليل بعلزبول ذاك، وأخبره بأنها كلَّها ستكون له وحده إذا كان الحصانُ والعربة جاهزَين في انتظاره بحلول السَّاعة الحاديةَ عشرة.»
«وبالطبع كان الحصان والعربة جاهزَين؟»
قال اليهودي بضحكةٍ مكتومةٍ خبيثة: «سحقًا! كانا جاهزين بعضَ الشيء، إن جاز لي التعبير يا صاحبَ الفخامة. ففرَسُ روبن كانت عرجاءَ كالعادة؛ وقد رفضَت أن تتزحزح في البداية، ولم يستطع إجبارها على التحرك إلا بعد بعضِ الوقت والكثيرِ من الركلات.»
«إذن فقد انطلقا؟»
«أجل، انطلقا منذ خمس دقائق تقريبًا. كنتُ مشمئزًّا من حماقة ذاك الغريب. وهو إنجليزيٌّ أيضًا! كان من المفترض أن يعرف أن فرس روبن لم تكن مناسبةً لتوصيله.»
«ولكن إذا لم يكن لديه خيار؟»
اعترَض اليهوديُّ بصوتٍ خشن مزعج قائلًا: «لم يكن لديه خيارٌ فخامتك؟ ألم أكرِّر عليه مائة مرة أن حِصاني وعربتي سيُوصلانه أسرعَ وأكثر راحةً من فرس روبن النحيلة الشبيهة بصُرة من العظام. لم يُصغِ إليَّ. فروبن أفَّاكٌ بارعٌ ولديه طرقُه في التملُّق. لقد خُدع الغريب. إن كان مستعجلًا، كان سيحصل على قيمةٍ أفضلَ مقابل نقوده بأخذِ عربتي.»
سأله شوفلان بلهجة آمرة: «إذن، لديك أنت أيضًا حصانٌ وعربةٌ؟»
«أجل! عندي يا صاحب الفخامة، وإن كنتَ فخامتك تريد أن تتجول …»
«هل يتصادف أنك تعرف في أي اتجاهٍ ذهب صديقي بعربة روبن جولدشتاين؟»
فرك اليهودي ذقنَه القذرَ مفكرًا. وخفق قلب مارجريت موشكًا على أن ينفجر. كانت قد سمعَت السؤال الآمر؛ ونظرَت بقلقٍ نحو اليهودي لكنها لم تستطع أن تقرأ وجهه القابع في ظلِّ قبعته ذات الحافات العريضة. راودَها إحساسٌ غامض وشعرت بأن هذا الرجل، بطريقةٍ ما، يحمل مصيرَ بيرسي بين يدَيه الطويلتَين المتسختَين.
خيَّم سكوتٌ طويل، بينما كان شوفلان ينظر عابسًا بنفادِ صبرٍ نحو الهيئة المحدودبة أمامه؛ وأخيرًا وضع اليهوديُّ يده ببطءٍ في جيب صدره، وأخرج من أعماقه الواسعة عدةَ قطعٍ فِضِّية. وحدق إليها مفكرًا، ثم قال بنبرة هادئة:
«هذا ما أعطانيه الغريبُ الطويل عندما غادر مع روبن لأُمسِك لساني بشأنه وشأن أفعاله.»
هزَّ شوفلان كتفَيه بنفاد صبر.
وسأله: «كم معك هناك؟»
أجاب اليهودي: «عِشرون فرنكًا يا صاحب الفخامة، وأنا طوال حياتي رجل شريف.»
أخرج شوفلان بلا تعليقٍ آخر بضع قطع ذهبية من جيبه، وأبقاها في كفِّه وتركها تُصلصل وهو يمدها نحو اليهودي.
سأله بهدوء: «كم قطعةً ذهبيةً في كف يدي؟»
كان واضحًا أنه لم يكن يريد إرهابَ الرجل، بل استمالته من أجل أغراضِه الخاصَّة؛ لأن أسلوبه كان لطيفًا ودمثًا. فمن المؤكد أنه خشي إذا هدَّدَه بالمقصلة وما شابه من طرُق الإقناع الترهيبية الأخرى أن يُربك عقلَ الرجل المسن ويُشوِّش أفكاره، وارتأى أنَّ الطمع في المكسب من المرجَّح أن يكون أنفع من رهبة الموت.
ألقت عينا اليهودي نظرةً سريعةً متحمسةً على الذهب في يدِ مُحدِّثه.
وأجاب متزلفًا: «على الأقل خمسة، إن جاز لي القول يا صاحب النيافة.»
«تظنُّها كافيةً لفك لسانك الشريف؟»
«ما الذي ترغب في معرفته فخامتك؟»
«ما إن كان حِصانك وعربتك قادرَين على أخذي إلى حيث أستطيع إيجادَ صديقي الغريب الطويل الذي غادر في عربة روبن جولدشتاين؟»
«حصاني وعربتي قادران على أخذ سيادتك إلى حيثما تشاء.»
«إلى مكانٍ يدعى «كوخ الأب بلانشار»؟»
قال اليهوديُّ بذهول: «هل خمَّنتَ سيادتك؟»
«هل تعرف المكان؟»
«أعرفه سيادتك.»
«أيُّ طريقٍ يؤدي إليه؟»
«شارع سان مارتين سيادتك، ثم ممشًى من هناك إلى الجروف.»
كرَّر شوفلان بفظاظة: «أتعرف الطريق؟»
أجاب اليهوديُّ بهدوء: «كل حَجرٍ وكل ورقةِ عُشبٍ فيه سيادتَك.»
وبلا كلمةٍ أخرى، رمى شوفلان القطع الخمس من الذهب واحدةً تِلو الأخرى أمام اليهودي، الذي انحنى أرضًا، وجمَعها بمشقةٍ بالغة وهو جاثٍ على يدَيه ورُكبتَيه. تدحرجَت إحداها بعيدًا، وتكبَّد بعض العناء لإيجادها لأنها كانت قد دخلَت تحت الخِزانة. انتظر شوفلان بهدوءٍ بينما زحَف الرجل على الأرض ليجد قطعةَ الذهب.
وعندما عاود اليهوديُّ الوقوف على قدميه مجددًا، قال شوفلان:
«متى سيكون حِصانك وعربتك جاهزَين؟»
«إنهما جاهزان الآن سيادتك.»
«أين؟»
«على بُعد أقلَّ من عشَرة أمتارٍ من هذا الباب. هل تتفضَّل فخامتك وتنظر؟»
«لا أريد أن أراها. إلى أيِّ مدًى يُمكنك أن تقودني بها؟»
«حتى كوخ الأب بلانشار سيادتك، وأبعدَ ممَّا أخذَت فرسُ روبن صديقَك. أنا متيقنٌ من أننا، على بُعد أقلَّ من فرسخَين من هنا، سنُصادف روبن الخبيثَ ذاك، وفرسه وعربته والغريبَ الطويل كلهم مكوَّمين وسط الطريق.»
«كم تبعد أقربُ قريةٍ من هنا؟»
«على الطريق الذي سلكه الإنجليزي، ميكْلون هي القرية الأقرب، لا تبعد أكثرَ من فرسخَين عن هنا.»
«أيمكنه أن يحصل على وسيلةِ نقلٍ جديدةٍ إن أراد الابتعادَ أكثر؟»
«يمكنه … إن استطاع أصلًا الوصول إلى ذلك الحد.»
«أتستطيع أنت؟»
قال اليهودي ببساطة: «هلَّا جرَّبت فخامتك؟»
قال شوفلان بهدوءٍ شديد: «هذا ما أنوي فعله، لكن تذكَّرْ أنك إن خدعتَني، فسآمرُ أقوى جنديَّين عندي بأن يضرباك حتى تُفارق أنفاسُك جسدَك القبيح للأبد. لكن إن وَجَدْنا صديقي الإنجليزي، على الطريق أو في كوخ الأب بلانشار، فستكون لك عشرُ قطعٍ ذهبيةٍ أخرى. هل تقبل الاتفاق؟»
حكَّ اليهودي ذقنَه مفكرًا مجددًا. نظر إلى المال في يده ثم إلى مُحدِّثه المتجهِّم، ثم إلى ديجا الذي كان واقفًا في صمتٍ خلفه طوال هذا الوقت. وبعد سكوتٍ لحظي، قال بتروٍّ:
«أقبل.»
قال شوفلان: «اذهب وانتظر في الخارج إذن، وتذكر أن تفيَ بالمطلوب منك في الاتفاق، وإلا أقسم بالرب أنني سأُنفِّذ وعيدي.»
وبانحناءةٍ أخيرة خانعةٍ ومتذللة جدًّا، جرَّ اليهودي قدمَيه خارجًا من الغرفة. بدا شوفلان مسرورًا بالمقابلة؛ لأنه فرك يدَيه معًا بتلك الإيماءة المعتادة التي تنمُّ على رضًا خبيث.
قال لديجا أخيرًا: «معطفي وحذائي الطويل الرقبة.»
ذهب ديجا إلى الباب، ومن الواضح أنه أعطى الأوامرَ اللازمة؛ لأنه سرعان ما دخل جنديٌّ من الباب حاملًا معطفَ شوفلان وحذاءه الطويلَ الرقبة وقبعته.
خلع شوفلان جُبَّته التي كان يرتدي تحتها بنطالَ ركوبٍ وصِدارًا قُماشيًّا ضيقَين، وبدأ يبدِّل ملابسه.
قال لديجا: «أما أنت أيها المواطن فعُد، في هذه الأثناء، إلى الكابتن جوتلي بأسرعِ ما يُمكنك وأخبِرْه بأن يُعطيك دُزينةً أخرى من الرجال، وأحضرهم معك إلى شارع سان مارتين، حيث ستلحقون بعربة اليهودي وأنا بداخلها قريبًا على الأرجح. سيكون لدينا عملٌ مثير عمَّا قريبٍ جدًّا، إن لم أكن مخطئًا، في كوخ الأب بلانشار. سنُحاصِر صيدَنا هناك؛ لأن سكارليت بيمبرنيل الوقح ذاك لديه ما يكفي من الجُرأة — أو الغباء، لا أستطيع أن أحدِّد — للالتزام بخطته الأصلية. لقد ذهب للقاءِ تورناي وسان جوست وبقية الخونة، مع أنني ظننتُ للحظةٍ أنه ربما تراجع عن فعل ذلك. عندما نجدهم، سيكونون عُصبةً من الرجال اليائسين المحاصرين وسيُضْطَرُّون إلى الدفاع عن أنفسهم بضراوة. أظن أنَّ بعض رجالنا سيسقطون صرعى، فأولئك الملَكيُّون مُبارِزون جيدون، وذاك الإنجليزي ماكرٌ كشيطان، ويبدو قويًّا جدًّا. ولكننا سنكون خمسةً ضدَّ كلِّ واحد منهم على الأقل. يمكنك أن تتبع العربة عن قربٍ مع رجالك في شارع سان مارتين عبر ميكلون. سيكون الإنجليزي متقدمًا علينا، ولن ينظر خلفه على الأرجح.»
بينما كان يُملي هذه الأوامرَ المقتضبة الموجزة، كان قد أكملَ تبديل ملابسه. وضع زيَّ القسيس جانبًا، وصار مرتديًا ملابسه الدَّاكنة الضيقة مجددًا. وأخيرًا التقط قبعته.
قال بضحكةٍ مكتومة وهو يتأبط ذراعَ ديجا بأُلفةٍ غير معتادةٍ ويقوده نحو الباب: «سيكون لديَّ سجينٌ شائق أضعُه بين يديك. لن نقتله فورًا يا صديقي ديجا، هه؟ إن لم أكن مخطئًا، فكوخ الأب بلانشار مكانٌ منعزل مهجور على الشَّاطئ، ورجالنا سيستمتعون بالقليل من التسلية العنيفة هناك مع الثعلب الجريح. انتقِ رجالَك بعنايةٍ يا صديقي ديجا … من الصنف الذي يتلذَّذُ بذاك النوع من التسلية، هه؟ لا بد أن نرى سكارليت بيمبرنيل ذاك ذابلًا قليلًا — أليس كذلك؟ — منكمشًا ومرتعدًا، هه؟ … قبل أن نُقدِم أخيرًا على …» أتى بحركة معبِّرة بيده، وهو يضحك ضحكةً خسيسة شريرةً ملأت روحَ مارجريت برعبٍ مقزز.
قال مرةً أخرى وهو يقود سكرتيره أخيرًا إلى خارج الغرفة: «انتقِ رجالك بعناية، أيها المواطن ديجا.»