المركب الشراعي
توقف قلبُ مارجريت المتألم تمامًا. لم تسمع الرجال المتربِّصين يتأهبون للقتال، لكنها شعرَت بذلك. أخبرتها حواسُّها بأن كل واحدٍ منهم كان يجثم، وسيفه في يده، متأهبًا للانقضاض.
كان الصوت يقترب شيئًا فشيئًا؛ ووسط الاتساع الهائل لهذه الجروف المنعزلة، وضجيج همهمة البحر العالية بالأسفل، كان من المستحيل معرفةُ كم هو قريبٌ أو بعيد، أو من أي اتجاهٍ يأتي ذاك المغنِّي المبتهج، الذي كان يُغني «ليحفظ الربُّ الملك» بينما كان هو نفسه واقعًا في هذا الخطر المميت. كان الصوت خافتًا في البداية، ثم علا شيئًا فشيئًا؛ ومن وقتٍ إلى آخَر كان بعضُ الحصى الصغير ينفصل عن الأرض تحت وَقْع خطوات المغنِّي الثابتة، ويتدحرجُ إلى أسفل الجرف نحو الشاطئ في الأسفل.
شعَرَت مارجريت بينما كانت تستمع بأن حياتها نفسها تنسلُّ منها، كما لو أن ذاك المغنيَ سيُصبح أقربَ إلى الوقوع في الفخ كلما اقترب ذلك الصوت …
سمعَت بوضوحٍ صوتَ طقطقة بندقية ديجا بالقرب منها.
لا! لا! لا! لا! أوه، يا إلهَ السموات! لا يمكن لهذا أن يحدث! لتكُن مسئولةً عن دم أرماند! لتوصَف بأنها قاتلة! لِتدَع حتى ذلك الأخ الذي تُحبه يكرهها ويحتقرها بسبب هذا، لكن يا إلهي! أوه يا إلهي! ستُنقذ زوجها بأي ثمن!
بصرخةٍ جامحة هبَّت واقفةً على قدميها وانطلقَت مسرعةً من حول الصخرة التي كانت منبطحة عليها؛ رأت بصيصَ الضوء الأحمر الصغير من خلال تشقُّقات الكوخ، فركَضَت إليه وارتمَت على جُدرانه الخشبية وبدأتْ تطرق عليها بقبضَتَيها في نوبةِ اهتياج شبه جنوني وهي تصرخ:
«أرماند! أرماند! لأجل الرب أطلِق النار! قائدُك قريبٌ من هنا! إنه قادم! لقد وُشِي به! أرماند! أرماند! أطلق النارَ بحق السماء!»
أُمسِك بها وطُرِحَت أرضًا. تمدَّدَت هناك متأوِّهة، ومرضوضة، ولا مبالية، لكنها ظلَّت منخرطةً في مزيجٍ من النحيب والصراخ:
«بيرسي، زوجي، لأجل الرب اهرب! أرماند! أرماند! لِم لم تُطلق النار؟»
بفحيح قال شوفلان الذي امتنع عن ضربها بصعوبةٍ بالغة: «ليوقف أحدُكم صراخَ تلك المرأة.»
رُمي شيءٌ ما على وجهها؛ فلم تستطع أن تتنفَّس وأُسكِتَت رغمًا عنها.
كان ذاك المغني الجريء أيضًا قد صمَت، فمن المؤكد أن صرخات مارجريت المحمومة نبَّهَته إلى الخطر الوشيك المحدِق به. هبَّ الرجال واقفين على أقدامهم، لم يكن يوجد داعٍ إلى أن يُواصلوا التزام الصمت، فقد تردَّد صدى صرخات المرأة المسكينة المكسورةِ القلب عبر الجروف نفسها.
تمتم شوفلان بشتيمةٍ مُنذِرة بسوءٍ وخيمٍ على مارجريت؛ لأنها تجرَّأَت على إفساد خُطته الغالية، وصاح بالأوامر سريعًا:
«إلى الداخل يا رجالي، ولا تدَعوا أحدًا يهرب من ذاك الكوخ حيًّا!»
كان القمر قد بزغ مرةً أخرى من بين السحُب؛ وكان الظلام المخيِّم على الجروف قد رحل، وحلَّ مكانه مجددًا ضوءٌ فِضيٌّ ساطعٌ. اندفع بعضُ الجنود نحو باب الكوخ المهترئ، بينما لم يبقَ أحدٌ منهم لحراسة مارجريت.
كان الباب مواربًا؛ فدفعه أحدُ الجنود فاتحًا إياه، لكن الظلام كان يُخيم على كل شيءٍ، ما عدا الفحم المشتعل الذي كان يشعُّ ضوءًا أحمرَ خافتًا في أبعدِ أركان الكوخ. توقف الجنودُ تلقائيًّا عند الباب، كآلاتٍ تنتظر أوامرَ أخرى.
أما شوفلان الذي كان متأهبًا لهجومٍ عنيف من الداخل، ولمقاومةٍ شرسة من الهاربين الأربعة تحت غطاء الظلام، فوقف لحظةً مشلولًا من شدةِ الذهول حينما رأى الجنود يقفون هناك منتصبين في هدوء، كالحرَس في مُناوبة، بينما لم يَصدر أيُّ صوتٍ من الكوخ.
توجَّه هو أيضًا نحو باب الكوخ ممتلئًا بتوجُّسٍ قلقٍ غريب، وألقى نظرةً خاطفة على العتمة وسأل بسرعة:
«ما معنى هذا؟»
أجاب أحد الجنود ببرود تام: «أظن أيها المواطن أن لا أحد موجود هنا الآن.»
صاح شوفلان متوعِّدًا بصوتٍ مُدوٍّ: «لم تتركوا أولئك الرجالَ الأربعة يهربون، أليس كذلك؟ أمَرتُكم ألَّا تتركوا أحدًا يهرب حيًّا! بسرعة، الحَقوا بهم جميعًا! بسرعة، في كل اتجاه!»
أسرَع الرجال، مُطيعين كالآلات، إلى أسفل الجرف الصخري نحو الشاطئ، وبعضُهم نحو اليمين واليسار بأسرعِ ما أمكنَ أقدامهم أن تحملهم.
قال شوفلان بشراسةٍ للرقيب الذي كان مسئولًا عن الرجال: «أنت ورجالك ستدفعون الثمنَ بأرواحكم أيها الرقيب»، وأضاف وهو يستدير نحوَ ديجا مزمجرًا: «وأنت أيضًا أيها المواطن، بسبب مخالفة أوامري.»
قال الرقيب متجهِّمًا: «أنت أمرتَنا بالانتظار أيها المواطن، حتى يصل الرجلُ الإنجليزي الطويل وينضمَّ إلى الرجال الأربعة في الكوخ. ولم يأتِ أحد.»
«لكنني أمرتُكم الآن، عندما صرَخَت المرأة، أن تقتحموا ولا تدَعوا أحدًا يهرب.»
«لكن، أيها المواطن، الرجال الأربعة الذين كانوا هناك قبلًا، قد رحَلوا منذ بعض الوقت، على ما أظن …»
قال شوفلان وهو يكاد يختنقُ من الغضب: «تظن؟ … أنت؟ … وتركتموهم يذهبون …»
اعترض الرقيب قائلًا: «أنت أمرتنا بالانتظار أيها المواطن، وبأن نُطيع أوامرك بحذافيرها وإلا فستقتلُنا. فانتظرنا.»
أضاف، بينما بدا شوفلان ثابتًا عاجزًا تمامًا عن الكلام من شدةِ الحَنق: «سمعتُ الرجال يتسللون خارج الكوخ، بعد دقائق قليلة من اختبائنا وقبل أن تصرخ المرأةُ بكثير.»
قال ديجا فجأةً: «أصغُوا!»
سمع صوت إطلاق نارٍ متكرر قادمًا من بعيد. حاول شوفلان أن يُلقيَ نظرة خاطفة بطول الشاطئ الواقع في الأسفل، ولكن من سوء حظه أن القمر ذا الضوء المتقطع اختفى مجددًا خلف كومةٍ من السحب، ولم يتمكَّن من رؤية شيء.
قال أخيرًا بتلعثُم: «ليذهب أحدُكم إلى الكوخ ويُشعل نارًا.»
أطاعه الرقيب ببلادة؛ فذهب نحو الفحم المشتعِل وأضاء مصباحًا صغيرًا كان يحمله على حزامه، كان واضحًا أن الكوخ فارغٌ تمامًا.
سأل شوفلان: «في أيِّ اتجاه ذهبوا؟»
قال الرقيب: «لا يمكنني أن أحدِّد أيها المواطن؛ فقد ذهبوا إلى أسفل الجرف أولًا، ثم اختفَوا خلف الجلاميد.»
«صه! ما كان ذلك الصوت؟»
أصغى الرجال الثلاثة بانتباه. كان يمكن سماعُ صوتٍ خافت يتردَّد صداه من بعيد جدًّا ويتلاشى بالفعل؛ صوت اضطرابٍ حاد سريع في الماء بفعل نصف دزينة من المجاديف. أخذ شوفلان منديله ومسح العرق المتصبِّب من جبينه.
قال لاهثًا: «المركب الشراعي!» ولم ينطق بحرفٍ آخر.
كان واضحًا أن أرماند سان جوست ورفاقه الثلاثة كانوا قد تمكَّنوا من التسلل على طول جانب الجروف، في حين أن الرجالَ التزموا، كجنود الجيش الجمهوري المتمرس الحقيقيِّين، التزامًا أعمى بإطاعة أوامر شوفلان بحذافيرها خوفًا على حياتهم، وانتظروا الإنجليزيَّ الطويل الذي كان هو الصيد المهم.
ومن المؤكَّد أن المطارَدين الأربعة قد وصلوا إلى أحد الخلجان الصغيرة التي كانت تبرز إلى عُرض البحر من هذا الساحل على مسافات متباعدة، ولا شكَّ في أن مركب «داي دريم» كان يترقب وصولهم بعد هذه الخلجان، وأنهم صاروا آمنين الآن على متن المركب الشراعي الإنجليزي.
سُمع دويُّ بندقية مكتوم من عرض البحر، كما لو أنه يؤكد هذا الافتراض.
قال ديجا بهدوء: «المركب الشراعي أيها المواطن؛ لقد انطلق.»
احتاج شوفلان إلى كل أعصابه وحضور ذهنه حتى لا يستسلمَ لغضبٍ عديم الجدوى قد ينتقصُ من هيبته. لم يكن يوجد شكٌّ الآن في أن ذاك الرأسَ الإنجليزي اللعين كان قد استطاع مجددًا أن يَفوقه دهاءً تمامًا. فكيف تمكَّن من الوصول إلى الكوخ بدون أن يراه أحدٌ من الجنود الثلاثين الذين كانوا يحرسون المكان، كان ذلك أبعدَ ممَّا يستطيع شوفلان تصوُّرَه. من الواضح إلى حدٍّ كبير بالطبع أنه كان قد وصل إلى الجرف قبل الرجال الثلاثين، ولكن كان من المستحيل تفسيرُ الكيفية التي جاء بها إلى هنا بعرَبة روبن جولدشتاين طوال الطريق من كاليه بدون أن تلمحَه دورياتُ الحراسة الكثيرة المتيقِّظة. بدا حقًّا كما لو أنَّ قوةً إلهية تحرس سكارليت بيمبرنيل الجريء ذاك، وكاد عدوُّه الماكر يشعر بقُشَعريرة متطيرة مؤمنة بالخرافات تسري في جسده وهو ينظر حوله نحو الجروف الشاهقة وعُزلة هذا الشاطئ البعيد.
لكن هذا كان أمرًا واقعًا بالتأكيد! وفي عام ١٧٩٢، لم تكن توجد جنِّياتٌ ولا عفاريت. لقد سمع شوفلان وكلُّ رجاله الثلاثين بآذانهم صوتَ ذاك اللعين يُغني لِيَحفظ الربُّ الملك طوال عِشرين دقيقةً كاملة، بعدما اختبَئوا كلهم حول الكوخ، ولا بد أن الأربعة المطارَدين، بحلول ذاك الوقت، كانوا قد وصَلوا إلى الخليج، وصعدوا إلى متن قارب، وأقرب خليجٍ كان يبعد عن الكوخ أكثرَ من ميل.
فإلى أين ذهب ذلك المغنِّي الجريء؟ ما لم يُعِره الشيطان نفسُه أجنحة، لا يمكنه أن يقطع هذا الميل على جرفٍ صخري في غضون دقيقتين؛ وقد مضَت دقيقتان فقط بين أغنيته وصوتِ مجاديف القارب في عُرض البحر. لا بد أنه تخلَّف عنهم، وأنه يختبئ الآن في مكانٍ ما في الجروف، ما زالت الدورياتُ منتشِرةً في أرجاء المكان، وسيُلاحظونه بلا شك. شعَر شوفلان بالأمل مجددًا.
كان بضعةُ رجال ممن ركَضوا للعثور على المطارَدين يصعدون الجرف الآن ببُطء، ووصل أحدُهم إلى جانب شوفلان في اللحظة ذاتِها التي وُلد فيها هذا الأمل في قلب الدبلوماسي الداهية.
قال الجندي: «لقد تأخَّرنا كثيرًا أيها المواطن، وصلنا إلى الشاطئ قُبيلَ اختفاء القمر خلف كومة الغيوم مباشرةً. من المؤكد أن القارب كان يترقَّب وصولَهم خلف ذلك الخليج على بُعد ميل، لكنه كان قد انطلق منذ بعض الوقت عندما وصلنا إلى الشاطئ، وكان قد قطَع مسافةً داخل البحر بالفعل. أطلقنا النارَ عليه، لكن ذلك لم يكن مُجديًا بالطبع. كان منطلقًا باستقامةٍ وبسرعة نحو المركب الشراعي. رأيناه بوضوحٍ شديد في ضوء القمر.»
قال شوفلان بنفادِ صبر متلهِّفًا: «قلتَ إنه كان قد رحل منذ بعض الوقت وإن أقربَ خليج يبعد ميلًا عن هنا.»
«أجل أيها المواطن! ركَضتُ طوال الطريق مباشرة نحو الشاطئ، مع أنني خمَّنتُ أن القارب سيكون منتظرًا في مكانٍ ما بالقرب من الخليج؛ لأن المدَّ كان سيصل إلى هناك في أقرب وقت. لا بد أن القارب قد رحل قبل أن تبدأ المرأة الصراخ ببِضع دقائق.»
قبل أن تبدأ المرأة الصراخ ببضع دقائق! إذن فآمال شوفلان لم تكن خادعة. ربما يكون سكارليت بيمبرنيل قد دبَّر وسيلةً لإرسال الهاربين أولًا إلى القارب، لكنه هو نفسه لم يكن لديه وقتٌ للوصول إليه؛ أي إنه ما زال على الشاطئ، وكل الطرق خاضعةٌ لحراسة مشدَّدة. على أي حال، لم يَضِع كلُّ شيءٍ بعد، ولن يَضيع، ما دام ذاك البريطانيُّ الوقح على التراب الفرنسي.
أمَر شوفلان بلهفةٍ وهو يدخل الكوخ ثانية: «أحضِر المصباح إلى هنا!»
أحضَر الرقيبُ مصباحه، واستكشف الرجلان المكانَ الصغير؛ وبنظرةٍ سريعة، لاحظ شوفلان محتوياته: المِرْجَل الموضوع بالقرب من ثقبٍ في الجدار، ويحتوي على آخِر الجمرات القليلة المحتضرة من الفحم المشتعل، وكرسيَّين صغيرين مقلوبين كما لو أن ذلك حدث وسط تعَجُّل مغادرة فجائية، ثم أدوات الصياد وشِباكه المُلقاة في أحد الأركان، وبجوارها شيءٌ صغيرٌ أبيض.
قال شوفلان للرقيب مشيرًا نحو القصاصة الورقية البيضاء: «التقِط تلك، وأحضِرها إليَّ.»
كانت قطعةً ورقيةً مجعدة، من الواضح أن المطارَدين نسوها هناك بينما كانوا متعجلين للهروب. كان الرقيبُ متهيبًا جدًّا من غضب المواطن ونفاد صبره، فالتقطَ الورقة وسلَّمها باحترامٍ إلى شوفلان.
قال الأخير باقتضاب: «اقرأها أيها الرقيب.»
«تكاد تكون غيرَ قابلةٍ للقراءة أيها المواطن … خربشة رديئة جدًّا. …»
كرَّر شوفلان بضراوة: «أمرتُك بأن تقرأَها.»
بدأ الرقيب على ضوء المصباح يفكُّ طلاسم الكلمات القليلة المخَرْبَشَة على عجل.
«لا يمكنني الوصولُ إليكم بدون المجازفة بحياتكم وتعريضِ نجاح عملية إنقاذكم للخطر. عندما تتسلَّمون هذه، انتظروا دقيقتين، ثم انسَلُّوا خارج الكوخ واحدًا تِلوَ الآخر، واتجِهوا إلى يساركم فورًا، وانزلوا بحذرٍ إلى أسفل الجرف، والتزموا بالناحية اليسرى طوال الوقت، حتى تصلوا إلى الصخرة الأولى التي ترَونها بارزةً إلى مسافةٍ بعيدة داخل البحر؛ خلفها في الخليج يوجد القاربُ الذي يترقَّب وصولكم … أطلِقوا صفيرًا حادًّا طويلًا … سيقترب منكم … اصعَدوا على متنه … سيأخذكم رجالي إلى المركب الشراعي، ومنه إلى إنجلترا وبرِّ الأمان، حالما تكونون على متن «داي دريم»، أرسِلوا القارب مجددًا إليَّ، أخبِروا رجالي بأنني سأبقى على الخليج المقابل مباشرةً لنزل «القط الرَّمادي» بالقرب من «كاليه». هم يعرفونه. سأكون هناك بأسرع ما يمكن … لا بد أن ينتظروني على مسافةٍ آمنة في عُرض البحر، إلى أن يسمعوا الإشارة المعتادة. لا تتلكَّئوا … والتزموا بهذه التعليمات بحذافيرها.»
أضاف الرقيب وهو يُعيد الورقة إلى شوفلان: «ثم يوجد توقيعٌ أيها المواطن.»
لكن شوفلان لم ينتظر لحظة. إذ لفتَت انتباهَه عبارةٌ واحدة من هذه الخربشة المستعجلة البالغة الأهمية. «سأبقى على الخليج المقابل مباشرة لنزل «القط الرمادي» بالقرب من كاليه»؛ تلك العبارة قد تَعني النصر له.
صاح في رجاله الذين كانوا بحلولِ هذه اللحظة قد عادوا كلُّهم واحدًا تلو الآخَر من مطاردتهم بخُفَّي حُنين، وكانوا كلُّهم مجتمعين حول الكوخ مجددًا: «أيكم يعرف هذا الشاطئ جيدًا؟»
قال أحدهم: «أنا أيها المواطن؛ فقد وُلدتُ في كاليه، وأعرف كلَّ حجرٍ من هذه الجروف.»
«يوجد خليجٌ مقابلٌ مباشرةً لنزل «القط الرمادي»؟»
«يوجد أيها المواطن. وأعرفه جيدًا.»
«الإنجليزي يتطلَّع إلى الوصول إلى ذلك الخليج. وهو لا يعرف كلَّ حجرٍ من هذه الجروف؛ لذا قد يذهب إلى هناك عبرَ أطولِ طريقٍ غير مباشر، وبأي حال، سيَمضي بحذر خوفًا من دوريات الحراسة. على أي حال، ما زالت توجد فرصةٌ للإمساك به. ألف فرنك لكلِّ رجل يصل إلى ذاك الخليج قبل ذاك الرجل الإنجليزي ذي الساقَين الطويلتَين.»
قال الجندي: «أعرف طريقًا مختصرًا عبر الجروف»، واندفَع إلى الأمام بصرخةٍ حماسية، وتبعه رفاقه عن كثب.
تلاشى صوتُ خطواتهم الراكضة بعيدًا في غضون بضع دقائق. ظلَّ شوفلان يستمع إلى صوتهم للحظة؛ كان الوعد بالمكافأة يُحفز جنودَ الجمهورية. ومن جديد عاد بريق الكراهية والانتصار المتوقع يظهر على وجهه.
ظل ديجا واقفًا بجواره صامتًا هادئًا بانتظار أوامرَ أخرى، بينما كان اثنان من الجنود جاثِيَين على رُكبِهما بجوار جسد مارجريت الممدَّد على الأرض. ألقى شوفلان نظرةً شرسة على كاتم أسراره. فخُطَّته المحكَمة قد فشلَت، وكانت تكملتُها مليئةً بالمشكلات، فما زالت توجد احتماليةٌ كبيرة بأن يهرب سكارليت بيمبرنيل ذاك، وكان شوفلان، بذاك الغضبِ الجنوني الذي أحيانًا ما يُهاجم الطبائع القوية بشراسة، يتوق إلى أن يُنفِّس عن غضبه بصَبِّه على أحدٍ ما.
كان الجنديَّان يُثبتان مارجريت على الأرض، مع أن المسكينة لم تكن تُبدي أدنى مقاومة. فبِنْيتها المجهَدة كانت قد عبَّرَت عن نفسها أخيرًا بشكل قاطع، وكانت مارجريت ممدَّدةً هناك فاقدة الوعي تمامًا كأنها ميتة، فيما كانت عيناها مُحاطتَين بهالات بنَفسَجية عميقة تحكي عن ليالٍ طويلةٍ بلا نوم، وكان شعرها مُلبَّدًا ورطبًا حول جبينها، وشفتاها مفترقتين بانحناءةٍ حادة تنمُّ على شدة الألم البدني.
كانت أذكى امرأة في أوروبا، الليدي بليكني الأنيقة العصرية، التي أبهَرَت مجتمعَ لندن بجمالها وذكائها وبذخِها، تُجسد صورةً مثيرةً جدًّا للشفقة للأنوثة المنهَكة المعانية، وكانت ستجتذب عطفَ أيِّ شخصٍ ما عدا القلبَ القاسيَ الانتقامي لعدوها المحبط.
قال للجنديَّين بغِلٍّ شديد: «لا فائدة من فرض حراسة متواصلة على امرأةٍ شبه ميتة، في حين أنكما سمَحتُما لخمسة رجالٍ في غاية النشاط والحيوية بالفرار.»
فوقف الرجلان مُطيعَين على أقدامهما.
«من الأفضل لكما أن تُحاولا أن تجدا لي ذاك الممشى مجددًا وتلك العربة المتهالكة المتروكة على الطريق.»
ثم فجأةً بدا أن فكرةً نَيِّرةً خطرَت بباله.
«آه! بالمناسبة! أين اليهودي؟»
قال ديجا: «قريبٌ من هنا أيها المواطن. لقد كمَّمتُه وقيدتُ ساقيه معًا كما أمرتَ.»
ومن المكان الملاصِق لهم مباشرة، وصل أنينٌ حزين إلى أذُنَي شوفلان. تبع كاتمَ أسراره، الذي قاده إلى الجانب الآخر للكوخ، حيث كان سليلُ بني إسرائيل التعِسُ مكوَّمًا في حالةٍ من الاكتئاب التام، فيما كانت ساقاه موثقَتَين معًا بإحكام وكان فمُه مكممًا.
بدا وجهه في ضوء القمر الفضيِّ مروَّعًا تمامًا من شدة الرعب؛ فعيناه كانتا مفتوحتَين على اتساعِهما وشبه زجاجيتَين، فيما كان جسده كلُّه يرتجف كما لو كان مصابًا بالحمَّى، بينما أفلتَ عويلٌ بائسٌ مثير للشفقة من بين شفتَيه الشاحبتين. كان واضحًا أن الحبل الذي أصلًا قد لُفَّ حول كتفَيه وذراعيه قد انفك؛ وذلك لأنه كان مُلقًى على الأرض مكومًا متشابكًا بالقرب من جسده، ولكن بدا أن اليهوديَّ لم يكن واعيًا لذلك إطلاقًا؛ لأنه لم يُحاول التزحزح قِيدَ أَنمُلة من المكان الذي كان ديجا قد تركَه فيه أصلًا؛ كدجاجةٍ مذعورة تنظر إلى خطٍّ مرسوم بالطبشور على طاولة، معتبرةً إياه حبلًا يعيق حركتها.
أمر شوفلان الجنديَّين: «اجلبا البهيم الجبان إلى هنا.»
من المؤكد أنه كان يشعر بغِلٍّ مُفرط، ولما لم يكن لديه أسبابٌ منطقية للتنفيس عن غضبه بصبِّه على الجنود الذين لم يفعلوا شيئًا سوى الامتثال لأوامره بحذافيرها، شعر بأن سليل العِرْق المحتقَر سيكون كبشَ فداءٍ ممتازًا. وبازدراءٍ فرنسيٍّ حقيقيٍّ للعرق اليهودي الذي نجا عبر القرون السالفة حتى يومِنا هذا، لم يقترب منه كثيرًا، لكنه قال بسخرية لاذعة بينما أحضَر الجنديَّان الرجل العجوز البائس إلى ضوء القمر الكامل:
«أظن، بما أنك يهودي، أنك تتذكَّر الاتفاقاتِ والصفقات جيدًا؟»
أمَره مجددًا: «أجِب!»، حين بدا أن شفَتَي اليهودي المرتعدتين أشدُّ خوفًا من أن تتكلما.
قال البائس المسكين متلعثمًا: «أجل، سيادتك.»
«إذَن فأنت تتذكَّر الاتفاق الذي عقَدْناه أنا وأنت في كاليه، عندما تعهدتَ بأن تُدرك روبن جولدشتاين وحصانه الهزيل وصديقي الغريبَ الطويل؟ هه؟»
«ﻟ… ﻟ… لكن … سيادتك …»
«لا تُجادل، أقول لك هل تتذكَّر؟»
«أ… أ… أ… أجل … أجل سيادتك!»
«ماذا كان الاتفاق؟»
خيَّم صمتٌ مُطبِق. نظر الرجل التعسُ حوله إلى الجروف الشاسعة، والقمر في الأعلى، ووجوه الجنود المتبلِّدة، وحتى إلى المرأة المسكينة الهامدة بالقرب منه، لكنه لم يقل شيئًا.
زمجر شوفلان متوعدًا بصوتٍ مُدوٍّ: «هل ستتكلم؟»
بالفعل حاول البائس المسكين لكن من الواضح أنه لم يستطع. ولكن من المؤكَّد أنه كان يعرف ردَّ الفعل المتوقَّعَ من الرجل الصارم أمامه.
تجرَّأ متوسلًا: «سيادتك …»
قال شوفلان ساخرًا: «بما أن ذُعرك قد شلَّ لسانك، فيجب أن أُنعِش ذاكرتك. لقد اتفقنا فيما بيننا على أننا إن أدركنا صديقي الغريبَ الطويل، قبل أن يصل إلى هذا المكان، فستأخذ عشْرَ قطع ذهبية.»
أفلَت أنينٌ خافتٌ من بين شفتَي اليهودي المرتعشتين.
أضاف شوفلان بتشديدٍ بطيء: «لكن، إن خدَعتَني ولم توفِ بوعدك، فستُضرب ضربًا مبرحًا، ضربًا سيُعلمك ألَّا تكذب.»
«لم أفعل سيادتك؛ أُقسم بإبراهيم …»
«وبكل رُؤَسَاء الآبَاءِ، أعرف. من سوء الحظ أنهم كلهم ما زالوا في عالم الأموات، على ما أعتقد، بحسبِ عقيدتك، ولا يمكنهم مساعدتُك كثيرًا في ورطتك الحاليَّة. الآن، أنت لم تَفِ بحصتك من الاتفاق، لكنني مستعدٌّ للوفاء بحصتي.» أضاف وهو يستدير ناحية الجنديَّين: «اسمعا، اضربا هذا اليهودي اللعين بإبزيمَي حِزامَيكما.»
وبينما كان الجنديَّان يفكَّان حزامَيهما الجلديَّين الثقيلَين بطاعة، أطلق اليهوديُّ نواحًا كأنَّه كان كافيًا لاستدعاء كلِّ رُؤَسَاء الآبَاءِ من العالم الآخر وكلِّ مكان بالتأكيد؛ ليُدافعوا عن سليلهم من وحشيةِ هذا المسئول الفرنسي.
ضحك شوفلان بخُبث، قائلًا: «أظن أنني أستطيع الاعتمادَ عليكما أيها الجنديَّان المواطنان في تلقينِ هذا العجوز الكاذب أشدَّ وأعنف ضربٍ مبرح تعرض له على الإطلاق.» وأضاف بجفاءٍ جامد: «لكن لا تقتُلاه.»
أجاب الجنديَّان بالبرودِ المعتاد: «سمعًا وطاعةً أيها المواطن.»
لم ينتظر ليرى أوامرَه تُنفذ؛ إذ كان يعرف أنه يستطيع الوثوقَ في أن هذَين الجنديَّين — اللذَين ما زالا يشعران بألمِ تقريعه لهما — لن يُحاولا تلطيفَ سلوكِهما عندما تترك لهما حريةُ التصرف مع طرَفٍ ثالث.
قال لديجا: «بعد أن ينال ذاك الجبانُ المتثاقل عقابه، يمكن للرجلَين أن يقودانا إلى مكان العربة، ويمكن لأحدهما أن يقودها بنا عائدَين إلى كاليه.» ثم أضاف بفظاظة: «يمكن لليهوديِّ والمرأة أن يعتنيَ كِلاهُما بالآخَر إلى أن نُرسل أحدًا إليهما في الصباح. لن يتَمكَّنا من الذَّهاب بعيدًا جدًّا بحالتهما الحاليَّة، ولا يمكننا أن نَشغل أنفسنا بهما الآن.»
لم يفقد شوفلان كلَّ الأمل. كان يعرف أن رجاله كانوا مُحفَّزين بأملِ الحصول على المكافأة. وأن سكارليت بيمبرنيل الغامضَ المتهوِّر ذاك، بعدما صار وحيدًا مُلاحَقًا من ثلاثين رجلًا، من غير المتوقَّع وَفْق كلِّ القواعد المنطقية أن يهرب مجددًا.
لكن يقينه في ذلك كان أضعفَ الآن؛ فجُرأة ذاك الإنجليزيِّ قد خدعَته مرة، في حين أنَّ نصره الوشيك انقلب إلى هزيمةٍ بسبب غباء الجنود الحمقى وتدخُّلِ امرأةٍ. لو لم تُضِع مارجريت وقته، ولو كان لدى الجنود مثقال ذرة من الذكاء، لو، لو … إلى آخرِ قائمةٍ طويلة من التمنِّيات المتحسِّرة؛ وقف شوفلان ساكنًا للحظة، ثم ضمَّ نحوَ ثلاثين شخصًا في لعنةٍ طويلةٍ جارفة. كانت الطبيعة الشاعرية الصامتة ذاتُ الجوِّ العليل، والقمر المنير، والبحر الفضيِّ الهادئ كلُّها أشياءَ توحي بالجمال والسكون، فيما لعَن شوفلان الطبيعة، ولعن الرجال والنساء، وفوق ذلك كلِّه، لعن كلَّ الغامضين الإنجليز المتطفلين ذَوي السيقان الطويلة لعنةً واحدةً هائلة.
كان عويلُ اليهودي من خلفه وهو يُكابد عقابَه بلسمًا على قلبه، مع أنه كان مُثقَلًا بغِلٍّ انتقامي. ابتسَم. صار أهدأَ عندما رأى أن إنسانًا آخرَ على الأقل ليس متصالحًا إطلاقًا مع الجنس البشري، مثله تمامًا.
استدار وألقى نظرةً أخيرة على الجزء المنعزل المجهور من الساحل، حيث يوجد الكوخ الخشبي، الذي صار مغمورًا الآن بنور القمر، مسرح أكبرِ إخفاقٍ مرَّ به قائدٌ في لجنة السلامة العامة على الإطلاق.
كان جسد مارجريت بليكني الفاقدُ الوعيِ ممدَّدًا على فِراشٍ صُلب من الحصى مقابل صخرة، وعلى بُعد بِضع خطواتٍ منها، كان اليهوديُّ التعس يتلقَّى على ظهره العريض جلداتِ حِزامَين جلديَّين متينَين ممسوكين بذراعَي جُنديَّين قويَّين متبلِّدَي الحسِّ من جنود الجمهورية. كانت صرخاتُ بنيامين روزنباوم قادرةً على إيقاظ الأموات من قبورهم. لا بد أنها أيقظَت جميع النوارس من النوم، وجعلتها تنظر إلى الأسفل باهتمامٍ كبير نحو أفعال أسياد الخليقة.
وحين أصبحَت تأوهاتُ اليهودي أوهنَ وبدا أن المسكين البائس قد فقدَ وعيه، قال شوفلان آمرًا: «هذا يكفي، لا نريد أن نقتله.»
أطاعه الجنديَّان وارتدَيا حِزامَيهما بينما ركَل أحدُهما اليهوديَّ بقسوةٍ على أحد جانبيه.
قال شوفلان: «اتركاه هناك، واسبِقاني الآن إلى العربة بسرعة، سأتبَعُكما.»
مشى إلى حيث كانت مارجريت ممدَّدةً، وحدق نحو الأسفل إلى وجهها. كان من الواضح أنها استعادت وعيها، وكانت تُحاول بوَهْنٍ شديدٍ أن ترفع نفسها. كانت عيناها الزرقاوان الواسعتان تنظران إلى المشهد المضاء بالقمر من حولها نظرةً خائفةً مذعورة، واستقرَّتا بمزيجٍ من الرعب والشفقة على اليهودي الذي كان مصيره التعس وصراخه العنيف هما أُولى الإشارات التي بدَأت تُدركها مع استعادةِ وعيها؛ ثم لمحت شوفلان في ثيابه الداكنة الأنيقة، التي بدَت خاليةً من أي تجعيد تقريبًا بعد الأحداث المثيرة التي شهِدَتها الساعاتُ القليلة الأخيرة. كان يبتسم متهكِّمًا وكانت عيناه الباهتتان تُحدقان من الأعلى إليها بغلٍّ شديد.
وبملاطفةٍ زائفةٍ مصطنعة، انحنى ورفع يدَها المتجمدة كالثلج إلى شفتيه، ما أصاب جسدَها المنهك بقُشَعريرةِ اشمئزازٍ لا توصَف.
قال بأرقِّ نبرةٍ عنده: «يؤسفني جدًّا يا سيدتي الجميلة، أنَّ ظروفًا خارجة عن إرادتي تُجبرني على تركِك هنا حاليًّا. لكنني سأذهب مطمئنًّا بمعرفة أنني لا أتركك بلا حماية. فصديقُنا بنيامين هنا، مع أنه في حالةٍ سيئةٍ قليلًا الآن، سيُثبت أنه مدافعٌ شهم عن شخصك الجميل، لا شك عندي في ذلك. في الفجر سأرسل شخصًا يُرافقكِ، وحتى يحينَ ذلك الوقت، فأنا متيقنٌ بأنك ستجدينه مخلصًا، مع أنه ربما يكون بليدًا قليلًا.»
لم تقْوَ مارجريت إلا على أن تُشيح بوجهها عنه. كان قلبها محطمًا بالألم الشديد. ففِكرةٌ واحدةٌ مروعة قد عادت إلى رأسها مع وعيها المستجمع: «ماذا حلَّ ببيرسي؟ ماذا عن أرماند؟»
لم تعرف شيئًا مما حدث بعد أن سمعَت الأغنية المبتهجة، «ليحفظ الربُّ الملك»، التي اعتقدَت أنها إشارة الموت.
اختتم شوفلان كلامه قائلًا: «أما أنا، فمضطرٌّ على مضضٍ شديد إلى أن أترُكَكِ الآن. إلى اللقاء سيدتي الجميلة. سنلتقي قريبًا في لندن كما أتمنى. هل سأراكِ في حفلِ حديقة أمير ويلز؟ لا؟ آه، حسنًا، إلى اللقاء! أرجو أن تبعثي بتحيَّاتي إلى السير بيرسي بليكني.»
وبابتسامة ساخرةٍ أخيرة وانحناءة، لثَم يدَها مرةً أخرى، واختفى بعيدًا في غياهبِ الممشى في أعقابِ الجنود، متبوعًا بديجا المتبلِّد الإحساس.