مُتأنقُ عام ١٧٩٢
كان السير بيرسي بليكني، كما تُخبرنا سجلَّات ذاك الوقت، لا يزال أصغرَ من الثلاثين بسنةٍ أو اثنتَين في ذلك العام الميلادي ١٧٩٢. كان طويل القامة، أطولَ من المتوسط، حتى مقارنةً بالرجال الإنجليز، وكان عريضَ المنكبين ضخمَ البِنْية؛ ولذا كان من المفترض أن يوصَف بأنه حسَنُ المظهر للغاية، لولا نَظرةٌ بليدة معيَّنة في عينَيه الزرقاوَين العميقتين، وتلك الضحكة البلهاء الدَّائمة التي بدا كأنها شوهَت فمه القوي المحدد المعالم.
كان السير بيرسي بليكني، البارونيت، أحدَ أثرى أثرياء إنجلترا، ورائدًا لكل صيحات الأزياء الحديثة وصديقًا مقرَّبًا لأمير ويلز؛ وكان في ذلك الوقت قد مرَّ نحوُ عام على إبهاره المجتمع العصري في «لندن» و«باث»، بإحضار زوجةٍ فَرنسية حسناء ذكية رائعة إلى إنجلترا من إحدى رحلاته إلى الخارج. إذ كان، وهو البريطاني الأكثرُ بريطانيةً وخمولًا وبلادةً الذي دائمًا ما كان يجعل أيَّ امرأةً جميلة تتثاءب، قد فاز بزوجةٍ رائعة كانت مَطمعًا للكثير من المتنافسين عليها، كما يؤكِّد كلُّ المؤرخين.
كان الظهور الأول لمارجريت سان جوست في الأوساط الفنية الباريسية متزامنًا مع أشدِّ اضطرابٍ اجتماعي عرَفه العالم داخل أسوار باريس. كان عمرُها آنذاك يشارف على الثَّامنة عشرة، وكانت موهوبةً بقدرٍ جَمٍّ من الجمال والنبوغ، ولم يكن معها سوى أخٍ شابٍّ مخلص، وبذلك سرعان ما جذبت حولها في شقتِها السَّاحرة بشارع ريشيليو زُمرةً رائعة بقدرِ ما كانت حصرية؛ حصرية بمعنى أنها كانت تضمُّ أشخاصًا لهم وجهة نظرٍ واحدة فقط؛ فمارجريت سان جوست كانت ضمن مبادئها مؤمنةً بالمذهب الجمهوري إيمانًا راسخًا وعن اقتناع — كان شِعارها أنَّ الناس وُلِدوا سواسية — وكانت ترى تَفاوُتَ الثَّروات مجردَ صُدفة مؤسِفة، لكنَّ التفاوُت الحقيقي الذي كانت تعترف به، كان تفاوُتَ المواهب. فكانت تقول: «المال والألقاب قد تورَث، لكنَّ القدرات الفكرية لا»؛ ولذا كانت صالةُ بيتها الأخَّاذة مُخصَّصةً للإبداع والفِكر، للذكاء والفطنة، للرجال الأذكياء والنساء الموهوبات، وسرعان ما أصبح دخولُ تلك الصالة يُعتَبر في عالم المثقفين — الذي وجَد مرتكزًا له في باريس حتى في تلك الأيَّام والأوقات العصيبة — ضمانةً لمسيرةٍ مهنية فنِّية ناجحة.
وهكذا فإنَّ رجالًا أذكياءَ ورجالًا متميِّزين وحتى رجالًا ذَوي مكانة مرموقة قد أصبَحوا بمنزلة حاشيةٍ دائمة ولامعة حول ممثِّلة مسرح الكوميدي فرانسيز الشَّابة الرائعة، وحلَّقَت هي في باريس الجمهورية الثورية المتعطشة للدماء كمُذَنَّبٍ لامعٍ، ساحبةً وراءها ذيلًا من كل ما هو متميزٌ ومثيرٌ للاهتمام في أوروبا المثقَّفة.
ثم حلت ذروة الأحداث. ابتسم البعضُ متساهلًا وسمَّاها «انحرافًا فنيًّا»، واعتبرها البعض بصيرةً حكيمة في ضوء الأحداث العديدة التي كانت تتزاحم بكثافةٍ وسرعة في باريس آنذاك، ولكن ظلَّ الدَّافع الحقيقي وراء تلك الذروة أُحْجيةً ولُغزًا غامضًا للجميع. على أي حال، تزوَّجَت مارجريت سان جوست السير بيرسي بليكني في يومٍ من الأيَّام، هكذا فقط، دون أن تُخطِر أيًّا من أصدقائها سلفًا، وبدون إقامةِ ليلةٍ لِعَقد القران أو عَشاء خِطْبة أو أيٍّ من ملحقات زفافٍ فرنسي عصري.
لم يجرؤ أحدٌ على تخمين الكيفية التي قُبل بها ذاك الإنجليزي الغبي البليد ضِمن دائرة المثقفين التي كانت تدور حول «أذكى امرأةٍ في أوروبا» كما أطلق عليها أصدقاؤها بالإجماع، وادَّعى ذَوو الميول الحقودة أنَّه يُقال إن المال يفتح كلَّ الأبواب.
حسنًا، هذا يكفي. تزوَّجَته، وربطتْ «أذكى امرأةٍ في أوروبا» مصيرَها بذاك «الأحمق اللعين» بليكني، وحتى أقرب أصدقائها لم يستطيعوا تحديدَ أيِّ دافعٍ وراء هذه الخطوة الغريبة سوى الانحرافِ التام عن الصواب. أمَّا أولئك الأصدقاء الذين كانوا أدرى، فضحكوا استهزاءً بفكرة أن مارجريت سان جوست قد تزوَّجَت أحمقَ لأجل المزايا الدنيوية التي قد يمنحُها إيَّاها. بل كانوا يعرفون أن مارجريت سان جوست لم تكن تهتمُّ بالمال، بل وأنها أقلُّ اهتمامًا بالألقاب؛ وفوق هذا، كان على الأقل ستة رجالٍ آخَرين من مختلِف أنحاء العالم ذَوي أصولٍ نبيلة كالسير بليكني، وإن لم يكونوا أثرياءَ بقدره، مستعدِّين تمامًا لإعطاء مارجريت سان جوست أيَّ مكانةٍ قد تختار أن تطمع فيها.
أمَّا السير بيرسي نفسُه، فقد اتفق الجميعُ على أنه غيرُ مؤهَّلٍ إطلاقًا للمسئولية الشَّاقَّة التي قرَّر أخْذَها على عاتقه. إذ بدا أنَّ مؤهلاته الأساسية لها تقتصر على هُيامه الأعمى بها، وثروته الطائلة والتقدير العالي الذي يحظى به في القصر الحاكم الإنجليزي، لكن مجتمع لندن ارتأى أنه، بأخذِ حدود قدراته الفكرية في الحُسبان، كان ينبغي له أن يجعل تلك المزايا الدنيويةَ من نصيبِ زوجةٍ أقلَّ جمالًا وذكاءً.
مع أنه كان شخصيةً بارزةً جدًّا في المجتمع الإنجليزي العصري في الآونة الأخيرة، فإنه أمضى أغلبَ حياتِه المبكِّرة في الخارج. كان والده الراحل السير ألجرنون بليكني قد ابتُلي بمصيبةٍ فظيعةٍ بأن رأى زوجته المحبوبة الشَّابة تُصاب بجنونٍ ميئوسٍ من علاجِه بعد سنتَين من حياةٍ زوجيةٍ سعيدة. كان بيرسي قد وُلد للتوِّ عندما وقَعَت الليدي بليكني الراحلةُ ضحيةً للمرض الفظيع الذي كان يُعدُّ آنذاك ميئوسًا من علاجه، وكان يُعدُّ بمنزلة لعنةٍ من الرب على العائلة كلِّها. أخذ السير بليكني زوجته الشَّابة المبتلاة إلى الخارج، ومن المرجَّح أن بيرسي تعلَّم وكبر هناك بين أمٍّ مخبولة وأبٍ مشتَّتٍ مهموم حتى بلَغ أشُدَّه. ثم مات والداه واحدًا تِلوَ الآخَر مباشرةً وتركاه رجلًا حُرًّا، ولأنَّ السير ألجرنون عاش حياةً بسيطةً ومنعزلة مُكرهًا؛ تضاعَفَت ثروة بليكني الطائلةُ عشر مرَّات.
كان السير بيرسي بليكني قد سافر إلى الخارج كثيرًا قبل أن يجلب زوجته الفرنسية الجميلة الشَّابة إلى بلده إنجلترا. وكانت الأوساط المواكِبة لأحدث صيحات العصر آنذاك مستعِدَّةً لاستقبال كِلَيهما بأذرعٍ مفتوحة. كان السير بيرسي غنيًّا وكانت زوجته جميلةً ومهذبة ومثقفة، وقد أُعجِب أمير ويلز بكِلَيهما كثيرًا. وخلال ستة أشهر أصبحا هما الرائدَين المُعترَف بهما في عالم الموضة والأناقة وحتى طريقة التصرُّف. فمعاطف السير بيرسي كانت حديثَ البلدة، وكان يُستشهَد بتصرفاته التافهة البلهاء، وكان الشباب المُترَفُ الثريُّ في نادي «ألماكس» الاجتماعي أو شارع «بال مول» يُقلدون ضحكته الحمقاء. كان الجميع يعرف أنه غبيٌّ غباءً لا دواء له، ولكن لا أحد تقريبًا كان يستغرب هذا، نظرًا إلى أن آل بليكني كانوا جميعًا مشهورين بالبلادة على مَرِّ أجيال، ولأن والدته ماتت مخبولة.
وهكذا قبِلهُ المجتمع ودلَّلـه ورفع شأنه؛ لأن خيوله كانت الأفضلَ في البلاد، ولأنَّ نوعيات نبيذه وحفلاته كانت مُفضَّلة جدًّا. أمَّا زواجه ﺑ «أذكى امرأةٍ في أوروبا»، حسنًا! جاء المحتومُ بخطًى واثقةٍ سريعة. لم يُشفق عليه أحد؛ لأنه هو مَن اختار قَدَره. إذ كانت توجد في إنجلترا آنساتٌ كثيرات ذَوات أصولٍ رفيعة وجمالٍ كُنَّ على استعدادٍ تامٍّ لمساعدته في إنفاق ثروة بليكني وهُنَّ يبتسمنَ متساهلاتٍ أمام تصرُّفاته البلهاء وحماقته المرحة. وفوق ذلك، لم ينَل السير بيرسي أي شفقةٍ لأنه لم يَبدُ محتاجًا إلى ذلك؛ إذ بدا فخورًا جدًّا بزوجتِه الذكية، ولم يكن يهتمُّ كثيرًا بأنها لم تبذل جهدًا لإخفاء الازدراء الوديِّ الذي من الواضح أنها كانت تشعر به تجاهه، وبأنها حتى كانت تُسلي نفسها بصَقلِ بديهتِها السريعة الحاضرة على حسابه.
ولكن على أي حال، كان بليكني في الحقيقة أغبى من أن يُلاحظ السخرية التي كانت زوجتُه الذكية تنهال عليه بها، ولم يستطع المجتمعُ قَط إلَّا أن يُطلِقَ تكهُّنات غيرَ مؤكدة بشأنِ ما إذا كانت علاقته الزوجية بالباريسيةِ الفاتنة قد حقَّقَت كلَّ ما تصوَّرَته آمالُه وإخلاصه لها الذي كان يماثل إخلاص الكلاب.
كان في بيته الجميل في ريتشموند يؤدِّي دورَ الطرَف الأقلِّ شأنًا في علاقته بزوجته الذكية بمودةٍ هادئة؛ فكان يُغدِق عليها الحُليَّ ومظاهر الرفاهية بكل أنواعها، وكانت تأخذها بقدرٍ لا يُضاهى من التأدُّب والدماثة، مُوزِّعةً كرَمَ قصره الرَّائع بالتأدُّب نفسِه الذي كانت تستقبل به زُمرةَ المثقفين في باريس.
كان السير بليكني من الناحية الجَسَدية وسيمًا بلا شك؛ ودائمًا ما كان هكذا باستثناء النظرة الكَسولة المَلولة التي كانت ثابتةً لديه بحُكم العادة. دائمًا ما كان يلبس ثيابًا لا عيب فيها، وكان يرتدي أحدثَ صيحات أزياء «المتأنقين الفرنسيين» المُبالَغ فيها التي كانت قد تسلَّلَت للتوِّ من باريس إلى إنجلترا، جاعلًا إياها تبدو مناسبةً للذوق الحَسَن المثالي المتأصِّل بالفطرة لدى السادة الإنجليز. وفي هذه الأمسية الخاصَّة من سبتمبر، وبالرغم من الرحلة الطويلة التي خاضها بالعرَبة، وبالرغم من المطر والوحل، كان معطفُه مضبوطًا بلا أيِّ عيب على كتفَيه البديعتين، وبدَتْ يداه بيضاوَين إلى حدٍّ يكاد يكون أنْثَويًّا وهما تظهران من خلال الكشكشات المُتماوجة لأكمامه المصنوعة من أجودِ أنواع دانتيل «ميكلين»، أمَّا معطفه الساتاني القصير الباهظ للغاية، والصِّدار العريض الياقة، والبنطال الضيق المخطَّط المربوط أسفل الركبتَين، فكانت تُبرز هيئته العملاقة جاعلةً إياها تبدو مثالية، وبذلك كان من الممكن أن يُعجَب المرءُ إعجابًا شديدًا بالسير بليكني عندما يراه ساكنًا؛ لأنه عندئذٍ يكون بمنزلة نموذجٍ بديعٍ للرجولة الإنجليزية، إلى أن يزولَ هذا الإعجاب فجأةً بسبب التغَندُر والحركات المصطنَعة والضحكة البلهاء الدائمة.
كان قد دخل صالة استقبال النُّزل العتيقة الطراز متلكِّئًا، وهو ينفِض البللَ عن معطفه الفاخر الأنيق، ثم رفَع عدسةً بإطارٍ ذهبيٍ إلى عينه الزرقاء الكسولة وتفَقَّد رفقة الحاضرين، التي كان قد خيَّم عليها صمتٌ محرجٌ فجأةً.
قال، بعدما عرَف الشَّابَّين وصافحَهما: «كيف الحال يا توني؟ كيف الحال يا فولكس؟» وتابع مضيفًا وهو يكبح تثاؤبًا طفيفًا: «سحقًا يا رفيقَي العزيزين، هل رأيتما يومًا بغيضًا كهذا من قبل؟ اللعنة على هذا الطقس.»
بضحكةٍ قصيرةٍ غريبة تمزج بين الحَرَج والسخرية، كانت مارجريت قد التفَتَت نحو زوجها تتأمَّلُه من رأسه حتى أخمص قدميه بوميضٍ مبتهج في عينيها الزرقاوَين المرِحتَين.
قال السير بيرسي بعد برهةٍ أو اثنتين من الصمت لم ينبس فيهما أيُّ أحد ببنتِ شَفة: «عجبًا! تبدون مرتبِكين جميعًا. ما الأمر؟»
أجابت مارجريت: «أوه، لا شيء يا سير بيرسي، لا شيء يُزعج رِباطةَ جأشك؛ مجرد إهانةٍ لزوجتك فحسب»، ومع أنَّ إجابتها كانت ممزوجةً بقدرٍ معيَّن من المرح، فإنَّه بدا مصطنَعًا إلى حدٍّ ما.
كان واضحًا أن الضحكة التي صاحَبَت هذا التعليق تهدف إلى تأكيد جَسامة الحَدَث للسير بيرسي. ويبدو أنها نجحَت في ذلك؛ لأنه بعدما ردَّد الضحك، رَدَّ بهدوء قائلًا:
«عجبًا يا عزيزتي! مستحيل. بحقِّ الرب! مَن هو الرجل الوقح الذي تجرَّأ على مُهاجمتكِ؛ هه؟»
حاول اللورد توني التدخُّلَ لكن الوقت لم يُسعِفْه لأن الفيكونت الشَّاب كان بالفعل قد سبقه بسرعة.
قال مُستهِلًّا خُطبته القصيرة بانحناءةٍ متقَنةٍ وبإنجليزيةٍ ركيكة: «يا سيدي، أمي، كونتيسة تورناي دو باسيريف، أساءت إلى السيدة، التي هي زوجتُك، حسبما أفهم. لا أستطيع أن أطلب عفوَك عن أمي؛ لأنها لم تُخطئ، في رأيي. لكني على استعدادٍ لأقدِّم لك التعويضَ المعتاد بين الرجال الشرفاء.»
شَدَّ الشَّاب قامتَه النحيلة إلى أقصى ارتفاعها، وبدا متحمسًا جدًّا، وفَخورًا جدًّا ومنفعلًا جدًّا وهو يُحدِّق إلى مترين عجيبَين من البهاء متجسدًا في السير بيرسي بليكني، البارونيت.
قالت مارجريت بإحدى ضحكاتها المرحة المُعدِية: «يا إلهي، سير أندرو، انظر إلى تلك الصورة الجميلة؛ الديك الرومي الإنجليزي والدجاجة القزمة الفرنسية.»
كان التشبيه مِثاليًّا تمامًا، ونظر الديك الرومي الإنجليزي نحو الأسفل بحيرةٍ شديدة إلى تلك الدجاجة القزمة الفرنسية الصغيرة الجميلة الرقيقة التي كانت تحوم حوله بطريقةٍ متوعِّدة.
قال بيرسي أخيرًا وهو يضع عدستَه على عينه ويتفحَّص الفرنسي الشَّابَّ بتعجُّبٍ واضح: «عجبًا يا سيد! أين تعلمتَ التحدثَ بالإنجليزية بحقِّ الوقواق؟»
اعترَض الفيكونت قائلًا: «أيها السيد!» وهو يبدو مستاءً بعض الشيء من الطريقة التي تعامل بها الإنجليزيُّ ذو المظهر المتكاسل الملول مع سلوكه المتحمِّس للقتال.
تابع السير بيرسي بثبات: «أؤكِّد أنَّ هذا مذهل! مذهلٌ جدًّا! ألا تظن ذلك يا توني؛ هه؟ أقسم أنني لا أستطيع التحدثَ باللغة الفرنسية هكذا. أليس كذلك؟»
ردَّت مارجريت قائلة: «بلى، سأؤكِّد ذلك على ضمانتي! فالسير بيرسي لديه لكنةٌ إنجليزية غليظة جدًّا.»
تدخَّل الفيكونت قائلًا بجِدِّية وبلكنة إنجليزية أشدَّ ركاكةً من ذي قبل: «أيها السيد، يؤسفني القول إنك لم تفهم قصدي. أنا أعرض عليك التعويض الوحيد الممكن بين السَّادة النبلاء.»
سأل بيرسي برقَّة: «ما هو ذاك بحقِّ الشيطان؟»
أجاب الفيكونت الذي بدأ يفقد أعصابَه مع أنه ما زال حائرًا: «سيفي يا سيد.»
قالت مارجريت بمرَح: «يا لورد توني، أنت رجلٌ مُحبٌّ للتسلية؛ رِهانٌ بعشَرة مقابل واحدٍ على فوز الدجاجة القزمة.»
لكن السير بيرسي كان يُحدِّق ناعسًا نحو الفيكونت لحظةً أو اثنتَين عبر جَفْنَيه شِبه المُقفلَين، ثم كبح تثاؤبًا آخَر، ومَدَّ أطرافه الطويلة ثم أدار ظهره له على مهَل.
تمتَم قائلًا بنبرةٍ مَرِحة ودِّية: «لِيُحبِبك الربُّ يا سيد. سُحقًا أيها الشَّاب، ما نفع سيفك لي؟»
كان ما خَطَر ببال الفيكونت وشَعر به في تلك اللحظة، عندما عامله ذاك الإنجليزيُّ ذو الأطراف الطويلة بهذه الوقاحة الجليَّة، يمكن أن يملأ مجلداتٍ من الخواطر العقلانية … لكنَّ ما قاله تلخَّص في كلمةٍ وحيدةٍ واضحة؛ لأنَّ البقية علقَت في حنجرته بسبب غضبه العارم:
قال متلعثمًا: «مبارزة أيُّها السيد.»
التفتَ بليكني مرةً أخرى، ونظر نحو الأسفل من قامته العالية إلى الشَّابِّ السريع الغضب الواقفِ أمامه، لكنه لم يفقد سماحته الرابطة الجأش ولو ثانيةً واحدة. ضحك ضحكتَه البهيجة البلهاء، ودفن يدَيه الرشيقتين الطويلتين في جيبَي معطفه الواسعَين قائلًا بتأنٍّ:
«مبارزة؟ عجبًا! أهذا ما قصَده؟ سحقًا! إنك همجيٌّ صغيرٌ متعطشٌ للدماء. هل تريد أن تُحدِث جُرحًا غائرًا في جسد رجلٍ يحترم القانون؟ …» وأضاف وهو يقعد بهدوءٍ باسطًا ساقَيه الطويلتَين الكسولتَين أمامه: «أنا شخصيًّا لا أخوض المبارزات أبدًا يا سيد. المبارزات شيءٌ مزعج لعين، أليس كذلك توني؟»
لا شكَّ في أنَّ الفيكونت كان قد سمع بشكلٍ غيرِ واضح أن القانون في إنجلترا قد فَرَض رادعًا صارمًا جدًّا على عادة المبارزة بين السَّادة النبلاء؛ ولكن لأنه رجلٌ فرنسي تستند مفاهيمه عن الشجاعة والشرف إلى قاعدةٍ مدعومةٍ بقرونٍ طويلة من التقاليد، ظل يرى أنَّ مشهدَ رجلٍ نبيلٍ يرفض بالفعل أن يخوضَ مبارزةً يعدُّ بمثابة تصرُّف شائن فادح. تساءل في قرارة نفسِه متحيرًا عمَّا إن كان ينبغي أن يصفع الإنجليزيَّ الطويلَ السَّاقَين على وجهه ويدعُوَه بالجبان، أم أن سلوكًا كهذا قد يكون غيرَ لائقٍ في وجود سيدة، وعندئذٍ تدخَّلَت مارجريت بابتهاج.
قالت بصوتِها الرقيق العذب الرخيم ذاك: «أترجَّاك يا لورد توني، أترجَّاك أن تُحِلَّ الوئام بينهما. فالفتى يتفجَّر غضبًا.» وأضافت بقليلٍ من السخرية الواقعية: «وقد يُحدث إصابةً في جسد السير بيرسي.» ضحكَت ضحكةً قصيرةً ساخرة، لكن هذه الضحكة لم تُزحزح رباطةَ جأش زوجها الهادئةَ إطلاقًا. قالت: «لقد ولَّى زمان الديك الرومي الإنجليزي. بوسع السير بيرسي استفزازَ كلِّ القدِّيسين المعروفين وهو محتفظٌ بهدوئه.»
لكن بليكني المَرِح الوَدود كدأبه دائمًا كان قد انضمَّ بالفعل إلى الضحك على نفسِه.
قال وهو يلتفتُ إلى الفيكونت بدماثة: «كان ذلك بارعًا جدًّا، أليس كذلك؟ زوجتي امرأةٌ ذكية، يا سيد … ستكتشف ذلك إن عشتَ مدةً كافية في إنجلترا.»
هنا تدخَّل اللورد أنتوني ووضع يدَه على كتف الفيكونت بوُدٍّ، قائلًا: «السير بيرسي مُحقٌّ يا فيكونت، سيكون من غير المناسب أن تبدأ مسيرتَك في إنجلترا باستفزازه إلى مبارزة.»
تردَّد الفيكونت لحظةً أطول، ثم هزَّ كتفَيه هزةً طفيفة تنمُّ عن استيائه من ميثاق الشرف الغريب المُتَّبَع في هذه الجزيرة المغطَّاة بالضباب، وقال باحترامٍ لائق:
«آه، حسنًا! إذا كان السيدُ راضيًا، فلستُ متضايقًا. أنت حامينا يا سيدي. إن كنتُ قد ارتكبتُ خطأً، فأنا أتراجع.»
ردَّ بليكني بتنهيدةِ ارتياح طويلة: «أجل، افعل!» وأضاف متمتمًا في قرارة نفسه: «تراجع إلى هناك. جروٌ لعينٌ متحمِّس. بربِّك يا فولكس، إن كان هذا هو نوعَ البضائع التي تجلبها أنت وأصدقاؤك من فرنسا، فنصيحتي لكم أن تُلقوها وسط القنال يا صديقي، وإلَّا فسأتناقش مع بِيت العجوز بخصوص ذلك، وأجعله يفرض ضريبةً مانعة بسرعة، ويضعكم في المخازن مع ما هَرَّبتم.»
قالت مارجريت بدلالٍ وغُنخ: «عجبًا يا سير بيرسي، فروسيتك تُضلِّلك، نسيتَ أنَّك أنت نفسك قد استوردتَ حُزمةَ بضائع من فرنسا.»
نهض بليكني ببطء، ثم انحنى انحناءةً عميقة متقَنة أمام زوجته، وقال بكياسة بالغة:
«لقد حصَلتُ على أفضلِ ما في السوق سيدتي، وذَوقي حسَنٌ دائمًا.»
ردَّت بسخرية: «أحسنُ من فروسيتك مع الأسف.»
«يا إلهي يا عزيزتي! كُوني منطقية! هل تظنِّين أنني سأسمح بأن يكون جسدي وسادة دبابيس لكلِّ فرنسي حقير صغيرٍ لا يُعجبه شكلُ أنفكِ؟»
ضحكَت الليدي بليكني وهي تنحني له انحناءةً لطيفة حلوة: «ربَّاه يا سير بيرسي! لا داعيَ إلى أن تخاف! فليس الرجالُ هُم مَن لا يُعجبهم شكلُ أنفي.»
«اللعنة على الخوف! هل تطعَنين في شجاعتي يا سيدة؟ لا أرتاد الحَلْبة دون سببٍ وجيه، أليس كذلك، يا توني؟ لقد صارعتُ ريد سام من قبل، و… ولم ينَل مُبتغاه أيضًا …»
قالت مارجريت بضحكةٍ طويلة ومبتهجة تَردَّد صَداها بطولِ عوارض البلُّوط المائلة القديمة في الغرفة: «يا إلهي يا سير بيرسي، ليتني رأيتُك حينَئذٍ … ها! ها! ها! ها! لا بد أن منظرك كان جميلًا … و… وأن تخاف من فتًى فرَنسيٍّ صغير … ها! ها! … ها! ها!»
كرَّر السير بيرسي الضحك بروحٍ وَدودة: «ها! ها! ها! ها! ها! ها! عجبًا يا سيدتي، إنك تُشرفينني! سحقًا! سَجِّل ذلك يا فولكس! لقد جعلتُ زوجتي تضحك! أذكى امرأةٍ في أوروبا! … يا إلهي! لا بد أن نشرب كأسًا احتفالًا بهذا!» وطرَق على الطَّاولة القريبة منه بقوةٍ وحيوية قائلًا: «هاي! يا جيلي! بسرعة يا رجل! هنا يا جيلي!»
عاد الانسجام مجدَّدًا. وعاد السيد جيليباند إلى حالته الطبيعية بمشقةٍ بالغة بعد كلِّ المشاعر التي مر بها خلال آخرِ نصف ساعة.
قال السير بيرسي: «صَحن من شراب البنش يا جيلي، ساخنٌ ومُركَّز، هاه؟ لا بد من شَحْذ الظرف الذي للتو جعل امرأةً ذكيةً تضحك. ها! ها! ها! أسرِع يا جيلي الطيب!»
تدخَّلَت مارجريت قائلةً: «لا، لا يوجد وقتٌ يا سير بيرسي. سيكون الربَّان هنا قريبًا، ويجب أن يصعد أخي على متن مركب «داي دريم (حلم اليقظة)»، وإلَّا فسيُفوِّت المَدَّ المواتي.»
«وقت، يا عزيزتي؟ يوجد متسع من الوقت لأي سيدٍ نبيل كي يَثْمل ويصعد على متن المركب قبل تحوُّل المد.»
قال جيليباند باحترام: «أظن يا سيدتي أن السيد الشَّاب قادمٌ الآن مع رُبَّان مركب السير بيرسي.»
فقال بليكني: «هذا صحيح، وعندئذٍ يمكن لأرماند الانضمامُ إلينا في شُرب هذا الصحن البهيج.» وأضاف ملتفتًا نحو الفيكونت: «هل تظنُّ يا توني أنَّ طفلك المؤذيَ الوقح ذاك سينضمُّ إلينا في شُرب كأس؟ أخبره بأننا نشرب عربون صُلح.»
قالت مارجريت: «في الحقيقة، أنتم جميعًا رفقةٌ مَرِحة وبهيجة جدًّا لدرجة أنني واثقةٌ بأنكم ستُسامحونني إن ذهبتُ لأودعَ أخي في غرفةٍ أخرى.»
كان الاحتجاج على ذلك سيبدو تصرُّفًا وقحًا. فكلٌّ من اللورد أنتوني والسير أندرو شعَر بأن الليدي بليكني لا تستطيع إطلاقًا أن تكون منسجمةً معهما في هذه اللحظة. كانت مَحبتُها لأخيها أرماند سان جوست عميقةً ومؤثرةً إلى أقصى حدٍّ. كان قد أمضى عدةَ أسابيعَ معها في منزلها الإنجليزي، وكان سيعود ليخدم بلاده في وقتٍ كان فيه الموت هو المكافأةَ المعتادة للتفاني الدَّائم.
ولم يُحاول السير بيرسي أيضًا استبقاءَ زوجته. وبالملاطفة المتكلَّفة التي ميَّزَت كلَّ تصرفاته، فتَح لها بابَ غرفة القهوة، وقدَّم لها أفضلَ وأكمَل انحناءةٍ وَفْق عُرف الآداب العامة السائدِ آنذاك، بينما خرَجَت مُسرعةً من الغرفة بدون أن تمنحَه سوى نظرةٍ عابرةٍ ممزوجة بقليلٍ من الازدراء. وكان السير أندرو، الذي بدا تفكيره أشدَّ تركيزًا وألطفَ وأكثرَ تعاطفًا بالفطرة منذ أن التقى بسوزان تورناي، هو الوحيدَ الذي لاحظ النظرةَ الغريبة الممزوجة باشتياقٍ شديد وعشقٍ عميق يائس، التي تابع بها السير بيرسي الأبلهُ التافهُ زوجتَه الذكية وهي تغادر.