الوكيل المُعتمَد
كان وقتُ ما بعد الظهيرة يقترب من نهايته سريعًا، وألقَت أمسيةٌ طويلة باردة من أمسيات الصيف الإنجليزي بسِتارٍ ضبابيٍّ داكنٍ على ريف كِنت الأخضر.
كان مَرْكب «داي دريم» قد انطلق مبحرًا، ووقفَت مارجريت بليكني وحدها على شفا الجرف أكثرَ من ساعة، تُراقب تلك الأشرعة البيضاء التي كانت تبتعد سريعًا آخذةً معها الشخص الوحيد الذي كان مهتمًّا بها حقًّا، والوحيد الذي تجرَّأتْ على محبته، والوحيد الذي كانت تعرف أنها يمكنها الوثوق به.
وعلى بُعد مسافةٍ قريبةٍ بعضَ الشيء إلى يسارها، كانت أضواءُ غرفة القهوة تتلألأُ بلونٍ أصفر في الضباب المتجمِّع، وبدا من وقتٍ إلى آخرَ لأعصابها المتألمة أنها تستطيع التقاط صوتِ لهوٍ صاخبٍ وأحاديثَ مَرِحة من هناك، أو حتى ضحكة زوجها البلهاء الدائمة التي كانت تسحقُ أذنَيها الحسَّاستين باستمرار.
كان السير بيرسي يتحلَّى باللباقة ورهافةِ الإحساس اللتين جعلتاه يتركها وحيدةً تمامًا إلى حدٍّ يكاد يكون قاسيًا. افترضَت أنه ربما فهم بطبيعته الوُدِّية الغبية أنها تريد البقاءَ وحدها، بينما اختفَت تلك الأشرعةُ البيضاء وسط الأفق الضبابي على بُعد الكثير من الأميال. ولأنه كان مفرِطَ الحساسية في مَفاهيمه عن اللباقة والذوق، لم يقترح حتى أن يبقى أحدُ الخَدَم المرافقين بالقرب منها؛ تَحسُّبًا لأن تحتاج إليه. كانت مارجريت ممتنَّةً لزوجها على كل هذا؛ فهي دائمًا ما كانت تحاول أن تشعر بالامتنان له على مراعاته، التي كانت دائمة، لمشاعرها، وعلى كرمه، الذي كان بلا حدودٍ حقًّا. حتى إنها حاولَت في بعض الأوقات أن تكبح أفكارها السَّاخرةَ اللاذعة عنه، التي كانت تجعلها — رغمًا عنها — تقول أشياءَ قاسيةً ومهينة، كان لديها أملٌ طفيف في أن تجرحه بها.
أجل! كثيرًا ما كانت تتمنَّى أن تجرحه، أن تجعله يشعر بأنها أيضًا تزدريه، بأنَّها أيضًا قد نسِيَت أنها كادَت تُحبه. كادت تُحب ذاك المتأنِّقَ التافه! الذي بدت أفكارُه عاجزةً عن تَجاوز الاهتمام بربطِ ربطة العنق أو الطراز الجديد لأحد المعاطف. عجبًا! ومع ذلك! … هبَّ طيفٌ غامضٌ من ذكرياتٍ جميلةٍ ومتوقدة ومنسجمة مع هذه الأمسية الصيفية الهادئة، وأتى إلى ذاكرتها على الأجنحة غيرِ المرئيَّة لنسيم البحر العليل، فتذكَّرَت الوقتَ الذي بدأ فيه يهيمُ بها أول مرة؛ بدا مخلصًا جدًّا آنذاك — عبدًا خاضعًا تمامًا — وكان في حبه لوعةٌ كامنة معيَّنة فَتَنتها.
ثم فجأةً، بدا أنَّ ذاك الحب، وذاك الإخلاص الذي كانت تنظر إليه طوالَ مدةِ تودُّدِه إليها على أنه إخلاصُ كلبٍ خانع، قد تلاشَيا تمامًا. فبعد أربعٍ وعشرين ساعةً من مَراسم زفافهما البسيطة في شارع سان روتش القديم، كانت قد أخبرته بالقصة، وسَرَدَت له أنها، بدون قصد، قد تحدَّثَت في مسائلَ معيَّنةٍ تخصُّ الماركيز سان قرياقوس أمام بعض الرجال — من أصدقائها — فاستخدموا هذه المعلومات ضد الماركيز التعيس، وأرسلوه هو وعائلته إلى المقصلة.
كانت تكرهُ الماركيز. فقبل ذلك بسنواتٍ، كان أرماند، أخوها الغالي، يُحبُّ أنجيلا سان قرياقوس، لكن سان جوست كان من الطبقة العامية، وكان الماركيز مُفعمًا بتحيُّزاتٍ متغطرسةٍ متعجرفة لطبَقته. وفي أحد الأيَّام، غامَر أرماند العاشقُ المحترم بإرسال قصيدة قصيرة متَّقدة وملتهبة وعاطفية إلى محبوبةِ أحلامه. وفي الليلة التَّالية قبض عليه خَدَمُ الماركيز سان قرياقوس خارج باريس، وجلَدوه بطريقةٍ مخزية — أوسَعوه جَلدًا ككلبٍ حتى كاد يموت — لأنه تجرَّأ على رفع عينيه إلى ابنةِ أرستقراطي. كانت مثلُ هذه الحوادث في تلك الأيَّام، التي تسبق الثورة بنحو عامَين، تكاد تكون يوميةً في فرنسا؛ وقد أدَّى هذا النوع من الحوادث في الواقع إلى أعمال الانتقام الدامية، التي أرسلت أغلب تلك الرءوس المتغطرسة إلى المقصلة بعد ذلك ببضع سنوات.
تذكَّرَت مارجريت كلَّ ذلك؛ لا بد أن ما عاناه أخوها من جُرحٍ غائر في رُجولته وكبريائه كان مروِّعًا، ولم تُحاول قَط حتى أن تُحلِّل ما عانَتْه هي بسببه ومعه.
ثم جاء يوم الجزاء. وجد سان قرياقوس وأمثاله أسيادًا لهم مجسدين في نفس أولئك العامَّة الذين كانوا يحتقرونهم. تبنَّى أرماند ومارجريت، اللذان كانا مثقَّفَين وعقلانيَّين، بحماسةِ شبابهما عقائد الثورة الساعية إلى المثالية، بينما ظلَّ ماركيز سان قرياقوس وعائلته يُقاتلون شبرًا بشبرٍ للحفاظ على تلك الامتيازات التي وضَعَتهم في منزلةٍ اجتماعية أعلى من بقية البشر. وفي يومٍ ما، كانت مارجريت مع زُمرتِها، وكانت في ذلك الوقت متسرعةً وطائشة ولا تحسب عواقبَ كلامها، وكانت ما تزال تشعرُ بألم الإهانة الفظيعة التي عاناها أخوها على يد الماركيز، فتصادَف أنها سَمِعَت — وهي بينهم — أنَّ آل سان قرياقوس يتبادَلون مراسَلاتٍ خائنةً مع النمسا على أمَل الحصول على دعم الإمبراطور لقمع الثورة المتنامية في بلدهم.
في تلك الأيَّام كان اتهامٌ واحدٌ كافيًا؛ إذ أتَت كلماتُ مارجريت القليلة الطَّائشة عن ماركيز سان قرياقوس بثِمارها في غضون أربعٍ وعشرين ساعة. إذ اعتُقل جَرَّاءها. وفُتِّشَت أوراقه؛ فعُثِر في مكتبه على رسائل من الإمبراطور النمساوي يتعهَّد فيها بإرسالِ كتائبَ ضد سكَّان باريس. وحُوكِمَ بتهمةِ خيانة الأمة وأعدَموه بالمقصلة، بينما شاركته عائلتُه، زوجته وأبناؤه، هذا المصير البشع.
كانت مارجريت، التي كانت مذعورةً من عواقبِ طيشها الفظيعة، عاجزةً عن إنقاذ الماركيز، وأعلن جميع أفراد زمرتها، قادة الحركة الثورية، أنها بطلة، وعندما تزوَّجَت السير بيرسي بليكني، ربما لم تكن تُدرك إطلاقًا مدى صرامةِ رأيه في هذه الخطيئة التي ارتكبَتها بلا قصد، والتي لا تزال قابعةً بثقلها على روحها. اعترفَت لزوجها بكلِّ ما حدث واثقةً من أنَّ حبه الأعمى لها وتأثيرها اللامحدود عليه سيَجعلانه ينسى سريعًا ما قد يبدو مزعجًا لرجلٍ إنجليزي.
بالتأكيد بدا في تلك اللحظة أنه قد تلقَّى الاعترافَ بهدوءٍ شديد، بل وبدا أنه لم يكَدْ يفهمُ معنى ما قالته، لكن الشيء المؤكَّد برسوخٍ أشدَّ أنَّها لم تستطع بعد ذلك على الإطلاق أن ترى أدنى أثرٍ لذلك الحبِّ الذي كانت تعتقد يومًا ما أنه لها وحدها. صارا متباعِدَين تمامًا، وبدا أن السير بيرسي قد ترك حُبَّه لها على الرَّفِّ، كأنه قفازٌ لا يُلائمه. حاولَت استفزازه بصَقلِ ذكائها وبديهتها الحاضرة على حساب عقله البليد، ساعيةً لاستثارة غَيرته ما دامت لا تستطيع إذكاءَ حُبِّه، حاولَت تحفيزه على التعبير عمَّا بداخله، لكن بلا جَدْوى. ظل كما هو: سلبيًّا ومتشدقًا وناعسًا ومهذبًا على الدوام، رجلًا نبيلًا متأدبًا دون تغيير؛ كانت تملك كلَّ ما يمكن أن يُقدِّمه العالمُ وزوجٌ ثريٌّ لامرأةٍ جميلة، لكنها في هذه الأمسية الصيفية الجميلة، ومع اختفاء أشرعة «داي دريم» البيضاء في ظلال الغروب أخيرًا، شعرَت بوحدةٍ أشدَّ من تلك التي يشعر بها ذاك المتشردُ المسكين الذي كان يشقُّ طريقه بخُطًى منهَكةٍ متثاقلة بطول الجُرف.
أدارت مارجريت بليكني ظهرها للبحر والجرف بتنهيدةٍ ثقيلة أخرى، ومشَت ببطءٍ عائدةً نحو «استراحة صيَّاد السمك»، وبينما كانت تقترب، كانت أصواتُ ضحكات اللهو والمرح تزداد ارتفاعًا ووضوحًا. استطاعَت تمييز صوتِ السير أندرو اللطيف، وقهقهات اللورد توني الصَّاخبة وتعليقات زوجِها العابرة المتلكئة النَّاعسة، ثم أدركَت وَحْشة الطريقِ والظلام الذي كان يُحاصرها سريعًا؛ فسرَّعَت خطواتها … أحسَّت في اللحظة التَّالية بشخصٍ غريبٍ يتقدَّم نحوَها مسرعًا. لم ترفع مارجريت ناظِرَيها؛ فلم تكن متوترةً إطلاقًا، لأنَّ «استراحة صيَّاد السمك» صارت حينئذٍ قريبة جدًّا منها.
توقَّفَ الغريب عندما رأى مارجريت قادمةً باتجاهه بسرعة، وبينما كانت على وشك تجاوُزِه قال بصوتٍ منخفض جدًّا:
«المواطِنة سان جوست.»
أطلقَت مارجريت صيحةَ ذهولٍ صغيرةً، عندما سمعَت اسمها المألوف قبل الزواج يُلفظ بالقرب منها. رفَعَت عينَيها إلى الغريب، وبصيحةٍ مسرورة صادقة هذه المرةَ، مدَّت يدَيها نحوه بمشاعرَ فيَّاضة.
هتفَت: «شوفلان!»
قال الغريب وهو يُقبِّل أطراف أصابعها بملاطفة: «بشحمه ولحمه أيتها المواطنة، في خدمتكِ.»
لم تَقُل مارجريت شيئًا للحظةٍ أو اثنتين، بينما كانت تُعاين تلك الهيئةَ الضئيلة غير الجذَّابة أمامها بابتهاجٍ واضح. كان شوفلان آنَذاك أقربَ إلى الأربعينيَّات منه إلى الثلاثينيَّات، وكان شخصيةً ذاتَ مظهرٍ ذكي وفطن ونظرة فضولية كنظرة الثعلب في عينَيه العميقتين الغائرتين. كان هو الرجلَ الغريب نفسَه الذي شرب كأسًا وُدِّيةً من النبيذ مع السيد جيليباند قبل ذلك بساعة أو اثنتين.
قالت مارجريت بتنهيدة ارتياح طفيفة: «شوفلان … صديقي … أنا سعيدةٌ جدًّا برؤيتك.»
لا شك في أنَّ مارجريت سان جوست المسكينة، التي تشعر بالوحدة وسطَ أبَّهتِها وأصدقائها المُتكلفين، كانت سعيدةً برؤية وجهٍ مألوفٍ أعاد إليها ذِكريات تلك الأوقات السعيدة في باريس، عندما كانت كالملكةِ على رأس شلَّة المثقَّفين في شارع ريشيليو. لكنها لم تُلاحظ الابتسامةَ السَّاخرة الصغيرة التي كانت تحوم حول شفَتَي شوفلان الرفيعتين.
أضافَت مبتهجة: «ولكن أخبرني، بحقِّ السماء ما الذي، أو مَن الذي، جعلك تأتي هنا إلى إنجلترا؟»
كانت قد استأنفت سيرها نحو النزُل، واستدار شوفلان وسار بجوارها.
قال: «ربما أعيد إليكِ مُجاملتَكِ اللطيفةَ يا سيدتي الجميلة، وأسألك السؤالَ نفسَه. ماذا عنكِ؟»
قالت وهي تهزُّ كتفَيها: «أوه، أنا؟ أشعر بالملل يا صديقي، هذا كلُّ شيء.»
كانا قد وصَلا إلى رِواق «استراحة صيَّاد السمك» لكنَّ مارجريت بدَت كارهةً للدخول. فهواء المساء كان رائعًا بعد العاصفة، وقد وجدَت صديقًا يَزفِرُ هواءَ باريس، ويعرف أرماند جيدًا ويمكنه أن يتحدَّث عن كل الأصدقاء المَرِحين الأذكياء الذين تركَتْهم خلفها. لذا أطالت البقاءَ تحت السقيفة الجميلة، بينما كانت تأتي من نافذةِ غرفة القهوة الناتئة ذاتِ الإضاءة الساطعة أصواتُ ضحكاتٍ وصيحاتٍ مُنادية على سالي وعلى الجِعَة، وضربٍ للأكواب على الطَّاولات، وصلصلةِ أحجار النَّرْد مختلطةً بصوت ضحكة السير بيرسي البلهاء الخاليةِ من البهجة الحقيقية. وقف شوفلان بجوارها وهو يُحدِّق بعينيه الصفراوين الباهتتين الماكرتين إلى وجهها الجميل الذي بدا لطيفًا جدًّا وطفوليًّا في الشفَق الإنجليزي الصيفي اللطيف.
قال بهدوء وهو يأخذ بعضًا من السَّعُوط بين سبَّابته وإبهامه: «لقد فاجأتِني أيتها المواطنة.»
قالت بمرح: «حقًّا؟ يا إلهي يا صغيري شوفلان، كنتُ أظن أنك قد خمَّنتَ بفِطنتك أنَّ مناخًا مؤلَّفًا من الفضائل والضباب لن يُناسب مطلقًا مارجريت سان جوست.»
سأل بذعرٍ ساخر: «يا إلهي! هل الحال بهذا السوء؟»
أجابت: «تمامًا، بل وأسوأ.»
«هذا غريب! ظننتُ أن امرأةً جميلةً كانت ستجد حياةَ الريف الإنجليزيِّ جذَّابةً جدًّا.»
قالت وهي تتنهَّد: «أجل! أنا أيضًا كنت أظن ذلك.» وأضافت متأمِّلة: «النساء الجميلات لا بد أن يقضينَ وقتًا طيبًا في إنجلترا، في حين أن كلَّ الأشياء الممتعة محرَّمةٌ عليهن؛ إنهن يفعلن الأشياء نفسَها كلَّ يوم.»
«حقًّا!»
قالت بجِدِّية: «لن تُصدق هذا يا صغيري شوفلان، ولكن غالبًا ما يمرُّ عليَّ يومٌ كامل — يومٌ كامل — بدون أن أُصادف شيئًا مُغريًا واحدًا.»
ردَّ شوفلان بمُلاطَفة: «لا عجبَ أنَّ أذكى امرأةٍ في أوروبا متضايقةٌ من الملل.»
أطلقَت إحدى ضحكاتها الرخيمة المتماوجة الطفولية.
سألتْ بمكر: «لا بد أن الأمر سيئٌ للغاية، أليس كذلك؟ وإلا فما كنتُ سأسعَد برؤيتك.»
«وهذا خلال سنةٍ من زواجٍ قائم على حُبٍّ رومانسي! …»
«أجل! … سنة من زواج قائم على حبٍّ رومانسي … هذه هي المشكلة بالتحديد …»
قال شوفلان بسخريةٍ نوعًا ما: «آه! … إذن فتلك الحماقة الشَّاعرية لم تصمد لمدة … أسابيع؟»
«الحماقات الشَّاعرية لا تدوم أبدًا يا صغيري شوفلان … تصيبنا كالحَصْبة … وتُشفى بالسهولةِ ذاتِها.»
تناول شوفلان بعضًا من السَّعُوط مرةً أخرى؛ بدا مدمنًا جدًّا لتلك العادة الضَّارة التي كانت منتشرةً آنذاك، وربما وجد أيضًا أن أخذ السَّعوط ستارٌ مُلائمٌ لإخفاء نظَراته السريعة الداهية التي كان يُحاول بها أن يقرأ ما في صدور أولئك الذين كان يتعامل معهم.
كرَّر قائلًا بالطريقة المُلاطِفة نفسِها: «لا عجب أنَّ أنشطَ عقل في أوروبا متضايقٌ من الملل.»
«كنت آمُل أن تكون لديك وصفةٌ لعلاج هذا الدَّاء يا صغيري شوفلان.»
«كيف لي أن أتطلَّع إلى النجاح فيما فَشِل السير بيرسي بليكني في تحقيقه؟»
قالت بجفاف: «هلَّا تركنا السير بيرسي خارجَ موضوع حديثنا الآن يا صديقي العزيز؟»
قال شوفلان بينما عادت عيناه الثاقبتان كعينَي ثعلبٍ متأهِّب ترمقان مارجريت بنظرةٍ خاطفة: «آه! يا سيدتي العزيزة، اعذريني، ولكن ليس من الصواب أن نفعل ذلك. لديَّ وصفةٌ مثالية جدًّا لعلاج أسوأِ أنواع الملَل، وكنتُ سأسعَد بعرضها عليك، لولا …»
«لولا ماذا؟»
«لولا السير بيرسي.»
«ما علاقته بهذا؟»
«علاقةٌ قوية، مع الأسف. الوصفة التي سأعرضها عليك يا سيدتي الجميلة لها اسمٌ عاميٌّ جدًّا: العمل!»
«عمل؟»
نظر شوفلان نحو مارجريت نظرةً طويلة متفحِّصة. بدا أن عينَيه الباهتتين الثَّاقبتين كانتا تقرَآن كلَّ فكرةٍ من أفكارها. كانا معًا وحدهما، وكان هواء المساء ساكنًا تمامًا، فيما كانت همساتُهما الخافتة تغرق وسط الصخَبِ القادم من غرفة القهوة. ومع ذلك، تحرَّك شوفلان خطوةً أو خطوتَين مبتعدًا عن السقيفة، وتلفَّتَ حوله بنظراتٍ سريعة مُدقِّقة، وبعدما اطمأنَّ إلى عدم وجود أحدٍ في نطاق سماع أصواتهما بالفعل، اقترب من مارجريت مرةً أخرى.
سألها وقد تغيَّر سلوكُه فجأةً واكتسى وجهُه النحيل الشبيهُ بوجه الثعلب بجدِّيةٍ فريدة: «هل تُسْدين إلى فرنسا خدمةً صغيرةً أيتها المواطنة؟»
أجابت بتهكُّم: «عجبًا يا رجل! ما أسرع ما تبدو جادًّا … حقيقةً لا أعلم ما إذا كنت أستطيع إسداء خدمة صغيرة إلى فرنسا؛ بالتأكيد هذا يعتمد على نوع تلك الخدمة التي تريدها هي، أو أنت.»
سأل شوفلان بغتةً: «هل سمعتِ من قبلُ بسكارليت بيمبرنيل أيتها المواطنة سان جوست؟»
ردَّت بضحكةٍ طويلةٍ مرحة: «سمعتُ بسكارليت بيمبرنيل؟ ربَّاه يا رجل! نحن لا نتحدث عن شيءٍ آخَر … لدينا قبَّعاتٌ مُصمَّمة على طريقة «سكارليت بيمبرنيل»، وخيولنا تُسمَّى «سكارليت بيمبرنيل»، وفي حفل عشاء أمير ويلز منذ بضعة أيام، كان يوجد سوفليه مَطهوٌّ على طريقة «سكارليت بيمبرنيل» …» وأضافت بمرح: «يا إلهي! طلبتُ من صانعة قبعاتي فستانًا أزرقَ مزركشًا بالأخضر منذ بضعة أيام، ولتحُلَّ عليَّ اللعنة إذا لم تَصِفه تلك المرأة بأنه «على طريقة سكارليت بيمبرنيل».»
لم يتحرَّك شوفلان بينما واصلَت ثرثرتها المرحة؛ بل ولم يُحاول حتى أن يوقِفَها حين دوَّت أصداءُ صوتها المنغَّم وضحكتها الطفولية عبر هواء المساء الساكن. لكنه ظلَّ جادًّا رَزينًا بينما كانت تضحك، وكان صوتُه الواضح القاطع الحادُّ خفيضًا جدًّا وهو يقول لها:
«إذنْ، لمَّا قد سمعت عن تلك الشخصية الغامضة أيتها المواطنة، لا بد أنك خمَّنتِ، وعرَفتِ، أن الرجل الذي يُخفي هُويتَه تحت ذلك الاسم المستعار الغريب هو ألدُّ أعداء جمهوريتنا الفرنسية … ألدُّ أعداء رجالٍ مثل أرماند سان جوست.»
قالت بتنهيدةٍ طفيفة جذَّابة: «عجبًا! أجرُؤ أنْ أُقسم إنه لكذلك … ففرنسا لها الكثيرُ من الأعداء الألدَّاء هذه الأيَّام.»
«لكنك أنتِ، أيتُها المواطِنة، ابنةُ فرنسا، ويجب أن تكوني على استعدادٍ لمساعدتها في وقتٍ تتعرَّض فيه لخطرٍ مميت.»
أجابت بفخرٍ: «وهبَ أخي أرماند حياتَه لفرنسا، أمَّا أنا، فلا أستطيع فِعْل شيء … هنا في إنجلترا …»
ألحَّ بجدِّية أكبر، بينما بدا فجأةً أنَّ وجهه النحيل الشبيهَ بالثعلب صار مثيرًا للرهبة ومُفعمًا بالهيبة: «كلا، بل أنتِ … هنا في إنجلترا أيتها المواطنة … أنتِ الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا … اسمعي! لقد أرسلَتني الحكومة الجمهورية إلى هنا مُمثِّلًا لها، وسأُقدم أوراق اعتمادي للسيد بِيت في لندن غدًا. إحدى مهامِّي هنا أن أعرف كلَّ شيءٍ عن عُصبة سكارليت بيمبرنيل هذه، التي أصبحَت تهديدًا مُستمرًّا لفرنسا منذ أن أخَذَت على عاتقها مساعدة أرستقراطيِّينا الملاعين — خوَنة بلادهم وأعداء الشعب — للهرب من العقاب العادل الذي يستحقُّونه. تعرفين جيدًا، كما أعرف أيتها المواطنة، أنهم حالما يصلون إلى هنا، أي أولئك المهاجرون الفرنسيُّون، يحاولون إثارةَ شعورٍ عامٍّ مُعادٍ للجمهورية. فهم مستعدُّون للانضمام إلى أي عدوٍّ لديه الجُرأة الكافية لمهاجمة فرنسا. الآن، خلال الشهر الماضي، نجح عشَراتٌ من هؤلاء المهاجرين، الذين كان بعضُهم متَّهَمًا بالخيانة فحسب، والبعض الآخر أدانته لجنةُ السلامة العامة بالفعل، في عبور القنال. وكل حالات هروبهم تمَّت بتخطيطٍ وتنظيم وتنفيذ من جماعة الشباب الإنجليز الوقحين هذه، التي يتزعَّمُها رجلٌ يملك عقلًا يبدو واسعَ الحيلة بقدرِ غموض هُويته. لم تُفلِح كلُّ الجهود المضنية التي بذَلَها جواسيسي لاكتشاف هُويَّته؛ ففي حين أنَّ بقية أفراد الجماعة هم الأيادي، يُعَد هو الرأسَ الذي يعمل بهدوءٍ تحت هذا الاسم المستعار الغريب على تدمير فرنسا. أنوي ضرب ذلك الرأس؛ ولهذا أريد مساعدتكِ، وأستطيع من خلاله لاحقًا أن أصلَ إلى باقي العصابة؛ إنه شابٌّ وقحٌ من المجتمع الإنجليزي، وأنا متيقِّن من ذلك.» وألحَّ عليها مُناشدًا: «اعثري على ذاك الرجل من أجلي أيتها المواطنة! اعثري عليه من أجل فرنسا.»
استمعَت مارجريت إلى خطابِ شوفلان المتَّقِد بدون أن تتفوَّهَ بكلمة، أو تأتيَ بأي حركة تقريبًا، أو حتى تجرؤ على التنفُّس. كانت قد أخبرته من قبل بأن هذا البطل الرومانسيَّ الغامض كان حديثَ المجتمع الرَّاقي الذي تنتمي إليه؛ كانت الإثارة قد داعَبَت خيالها وقلبها من قبلُ بالفعل حين راودَها التفكير في ذلك الرجل الشجاع الذي استطاع، دون أن يَشتَهِر شخصيًّا، أن يُنقذ مئات الأرواح من مصيرٍ رهيبٍ، ووحشي في كثيرٍ من الأحيان. صحيحٌ أنها لم تكن تحمل سوى القليل من الشفقة الحقيقية تجاه أولئك الأرستقراطيِّين الفرنسيين المتغطرسين، الوقِحين في فخرِهم الطبَقي، الذي كانت كونتيسة تورناي دو باسيريف مثالًا نموذجيًّا له، لكنها، مع أنَّها جمهوريةٌ وذات عقليةٍ ليبرالية مترسِّخةٍ ضمن مبادئها، كانت تكرهُ الطرق التي اختارتها الجمهوريةُ الحديثة لترسيخ نفسها، وتحتقرُها. لم تكن قد ذهبَت إلى باريس منذ شهور؛ ولم يصل إلى مسامعها شيءٌ سوى أصداءٍ خافتةٍ عبر القنال عن أهوال عهد الإرهاب، وشلَّالات الدماء المراقة فيه، التي بلَغَت ذروتها في مَذابح سبتمبر. لم تكن تعرف روبسبيير ودانتون ومارات في ثوبهم الجديد بعدما أصبحوا قضاةً دَمويِّين يستخدمون المقصلةَ بكل وحشية. انتفضَت روحها رُعبًا من هذه التجاوزات، وخشيَت أن يصبح أخوها أرماند — مع أنه جمهوري معتدل — قُربانًا لها يومًا ما.
ثم عندما سمعت أول مرةٍ بعُصبة الشباب الإنجليز المتحمِّسين، الذين أقدَموا، بدافع المحبة الخالصة لإخوتهم في الإنسانية ليس إلَّا، على انتشال نساءٍ وأطفال وشيوخ وشبَّان من موتٍ مروِّع، كان قلبُها قد توهَّج فخرًا بهم، والآن، بينما كان شوفلان يتكلَّم، تعاطفَت روحُها هي شخصيًّا مع القائد الغامض الذي يتزعَّم تلك العُصبةَ الصغيرة المتهوِّرة، والذي كان يُخاطر بحياته يوميًّا، مُقدِّمًا إياها بلا ثمن وبلا تَباهٍ، من أجل الإنسانية.
كانت عيناها رطْبتَين عندما انتهى شوفلان من الكلام، وكان الدَّانتيل الذي يُغطي صدرها يعلو ويهبط بفعل تنفُّسِها المنفعِل والسريع؛ لم تَعُدْ تسمعُ ضجيج الشرب القادمَ من النُّزُل، ولم تنتبه إلى صوت زوجها أو ضحكتِه البلهاء، بل شرَدَت أفكارُها باحثةً عن البطل الغامض! آه! ها هو رجلٌ ربما كانت ستُحبُّه لو أنها صادَفَته؛ فكلُّ شيءٍ فيه بدا أنه يجذب خيالها الرومانسي: شخصيته، قوته، شجاعته، ولاء أولئك الذين يعملون تحت إمرته في خدمةِ الهدف النبيل ذاتِه، وفوق كل ذلك غموضُ هُويَّته الذي كان يُتوِّجه كأنه هالةٌ من العظَمَة الرومانسية.
«اعثُري عليه من أجل فرنسا أيتها المواطنة!»
أيقظها صوتُ شوفلان القريبُ من أذنها من أحلامها. اختفى البطل المجهول، وعلى بُعد أقلَّ من عشرين ياردةً منها، كان منهمكًا في الشراب والضحك رجلٌ أقسَمَت على الوفاء والولاء له.
قالت وقد عادَت لا مُبالاتها الساخرة المصطنعة: «عجبًا يا رجل! أنت مذهل. أين سأبحث عنه بحقِّ السماء؟»
همس شوفلان ملمِّحًا بخُبث: «أنتِ تذهبين إلى كل مكانٍ أيتها المواطنة، الليدي بليكني هي مِحورُ مجتمع لندن، هذا ما أخبروني به … أنتِ ترَين كل شيء، وتسمعين كل شيء.»
ردَّت مارجريت وهي تُقيم ظهرها لتقف منتصبةً بطولها الكامل وتنظر إلى الأسفل بشعورِ ازدراءٍ طفيفٍ نحو الهيئة الضئيلة الهزيلة أمامها: «تمهَّلْ يا صديقي. تمهَّل! يبدو أنك نسيتَ وجودَ مترين من قامة السير بيرسي بليكني، وصفٍّ طويل من الأسلاف، حائلًا بين الليدي بليكني والشيء الذي تقترحه.»
ألحَّ شوفلان بجدِّية: «لأجل فرنسا أيتها المواطنة!»
«اصمُت يا رجل، أنت تتحدَّث هراءً بأيِّ حال؛ لأنك حتى لو عرَفتَ هُوية سكارليت بيمبرنيل هذا، فلن تتمكَّن من فعل شيءٍ له؛ فهو إنجليزي!»
قال شوفلان بضحكةٍ قصيرةٍ جافَّة مزعجة: «سأُجرِّب حظي في ذلك. بأي حال يُمكننا أن نُرسله إلى المقصلة أولًا لنُهدئ حماسه، وبعدئذٍ، عندما تحدث ضجةٌ دبلوماسية بخصوص الموضوع، يمكننا أن نعتذر — بتواضعٍ — للحكومة البريطانية، وإن لزم الأمرُ فسندفع تعويضاتٍ للعائلة المفجوعة.»
قالت وهي تبتعد عنه كأنه حشرةٌ مزعجة: «ما تقترحُه مروعٌ يا شوفلان. أيًّا ما تَكُن هُوية الرجل، فهو شجاعٌ ونبيل، ولن أشارك أبدًا — هل تسمعني؟ — أبدًا في فعلةٍ خسيسةٍ كهذه.»
«تُفضِّلين أن تتعرَّضي للإهانة من كل أرستقراطي فرنسي يصلُ إلى هذا البلد؟»
كان شوفلان قد سدَّد بدقَّةٍ عندما أطلق هذا السهمَ الصغير. إذ صارت وَجْنتا مارجريت الناضرتان أشدَّ شحوبًا بقليلٍ وعضَّت شفَتَها السُّفلى؛ لأنها أرادت ألَّا يرى أن السهم قد أصاب هدفه.
قالت أخيرًا بلا مبالاة: «لا صلة لهذا بالمسألة. يمكنني أن أدافع عن نفسي، لكنني أرفضُ أن أؤدِّيَ أي عملٍ قذرٍ لك … أو لفرنسا. لديك وسائلُ أخرى تحت تصرُّفِك، عليك استخدامها يا صديقي.»
ودون إلقاءِ نظرةٍ أخرى على شوفلان، استدارت مارجريت بليكني، وسارت مباشرةً نحو النُّزل.
قال شوفلان بينما أضاءَ سيلٌ من الضوء الآتي من الممرِّ هيْئتَها الأنيقة المكتسيَةَ بثيابٍ غالية: «هذه ليست كلمتَكِ الأخيرةَ أيتها المواطنة، سنلتقي في لندن، آمُل ذلك!»
قالت متحدثةً إليه وهي تدير عنقها لتنظر إليه: «سنلتقي في لندن، لكن هذه هي كلمتي الأخيرة.»
فتحَت بابَ غرفة القهوة واختفت عن ناظِرَيه، لكنه بقي في مكانه أسفلَ الرِّواق للحظة أو اثنتين، وأخذ بعضًا من السَّعُوط. وصحيحٌ أنه تلقى توبيخًا واستهزاءً، لكنَّ وجْهَه الداهية الشبيهَ بوجه الثعلب لم يبدُ خَجِلًا ولا محبطًا؛ بل على العكس، اكتسَت ثنايا شفَتَيه النحيفتَين بابتسامةٍ غريبة شِبْه ساخرةٍ وراضية تمامًا.