مكانة الحجاب بين فضائل العرب١
لن أنشغل في هذا المدخل بموضوع الحجاب بالذات، بقدر ما سأمهد لمناقشة الموضوع بتحديد المعاني والمفاهيم، مع فرش الأرضية التاريخية تمهيدًا وتأسيسًا حتى نستطيع أن نميز في التعامل مع قضية الحجاب بين الخيطين الأبيض والأسود. ولنتفق بدايةً حول معاني ما يُطرح من ألفاظ حول هذه القضية، ولنبدأ بمعنى الفضيلة كقيمة معيارية لسلوك المسلم الأخلاقي؛ إذ يضع مشايخنا الحجاب كفرض ديني، والفرض حسب الفهم الإسلامي يقف على الدرجات العليا على سلم القيم والسلوكيات التي تميز المسلم بالفضيلة والشرف، وهي التي تميزه عن بقية بني الإنسان من مختلف الملل والنحل؛ في كافة أنحاء المعمورة.
إذن لنتفق مبدئيًّا حول معنى الفضيلة كقيمةٍ أخلاقية معيارية لقياس السلوك؛ فالمعلوم في الفرع الفلسفي المعروف بعلم الأخلاق، أنه ليس لفرد أن يحدد السلوك الفاضل ليفرزه عن السلوك الرذيل غير الفاضل والشرير بالضرورة، مهما بلغت مكانة هذا الفرد. إنما المجتمع هو الذي يضع التعريفات والمواصفات والتفاصيل ويفرز بين نوعَي السلوك؛ لأنه لو كان ذلك بيد الفرد، فإن الفرد لا يريد أي قيود على سلوكه، ولا يشتهي سوى انطلاق رغباته وشهواته التي تحقق سعادته الشخصية بإشباع هذه الرغبات، بغض النظر عن غيره من أفراد جماعته أو مجتمعه، ومدى ما يحصل لهم من ضرر إزاء تحصيله لأغراضه وحده دونًا عنهم. لذلك فإن الجماعة هي التي تبحث عن تحديدات السلوك بغرض النفع العام للجماعة كلها، ودون أن تصاب بالضرر، ومع ما يتفق وظروفها وبيئتها وجغرافيتها، بغرض أساسي، هو البقاء وعدم الفناء، أو عدم الذوبان في جماعات أخرى لها نظم وتعريفات أخرى مختلفة لقيمتَي الفضيلة والرذيلة.
وعندما تضع الجماعة فضائلها المرغوبة لديها، فإنها تُلزم الفرد بالتنازل عن بعض رغباته مقابل قبول الجماعة لعضويته فيها ورضاها عنه.
ومن هنا فإن الفرد الذي يريد رضا جماعته، عليه أن يشتري ودها بالتنازل عن بعض رغباته، وأن يلتزم بتعريف الجماعة للفضيلة وتوصيفها للسلوك الفاضل، وذلك مقابل نياشين شرف تضعها الجماعة على صدره، فيقال عن فلانٍ رجلٌ أمين أو رجلٌ صادق، وعن فلانة بأنها امرأة طيبة أو زوجة صالحة. والفرد بذلك لا يتقاضى عما تنازل عنه وخسره مالًا أو عقارًا؛ لأن الفضيلة شأن معنوي؛ لذلك يكون مقابلُها بالضرورة شأنًا معنويًّا غير مادي، فتعطي الفرد السمعة الحسنة والتي قدَّرتها الجماعة منازل ومراتب اجتماعية لإشباع غروره، ومن ثَم شعوره بالسعادة، وعليه ترتقي مراتب الفرد الاجتماعية بمدى التزامه بفضائل مجتمعه وترفُّعه عن الصغائر المرذولة.
وباختلاف ظروف الجغرافيا بين بلاد الوفرة الخصيبة وبلاد الندرة الجافة الفقيرة، وبين بلاد السواحل وبلاد العمق القاري، يختلف أيضًا التاريخ، فتختلف المصالح المرجوة بين بيئة وأخرى وقدرها وزخمها، كما تختلف المعاني الإنسانية للشهامة والمروءة والفضيلة والرذيلة والخير والشر باختلاف تلك الظروف المجتمعية الاقتصادية الجغرافية، ومن ثَم يتم تعريف أي قيم وكل القيم بأنها معيارية؛ أي أداة قياس للسلوك تختلف من موطن لآخر ومن زمن لآخر، وإن صلح بعضها في مكان أو زمان بعينه، فإنه يكون خرابًا عاجلًا في زمان ومكان آخرَين.
نضرب لذلك مثلًا من المجتمع العربي في جزيرة العرب إبان العصرين الجاهلي الأول والجاهلي الثاني أو الآخِر، قبل الإسلام؛ فنجد العربي في جاهليته الثانية وقد دارت محاور حياته كلها حول التجارة، حتى قيل في المثل السائر في الدنيا: «إن كل عربي تاجر». وكانت التجارة في جزيرة العرب بدايةً لتحول عظيم بالمجتمع عن سابق نمطه الجاهلي الأول، نمط القبيلة المتنقلة وراء الكلأ وعيون الماء، التي كانت تعيش عالة على الطبيعة لا تُنتج إنما تسعى وراء منتَج الطبيعة النادر والشحيح في الصحاري، لتشرب ماءه وتتغذى على عطائه نباتًا أو بروتينًا حيوانيًّا يأتيها ناتجًا طبيعيًّا من تلاقح قطعانها. وفي مثل هذه البيئة حيث النادر الشحيح من الخيرات الطبيعية، عاش المجتمع العربي في جاهليته الأولى صراعًا قبليًّا دائبًا لا يهدأ ولا يتوقف على الخيرات الضنينة، حتى كان العربي يذبح العربي من أجل حَفْنة تمَرات أو إزار أو درع أو سيف أو سكين أو قوس، أو من أجل حيازة موطن الماء.
كان الصراع الاجتماعي إذَّاك صراع حياة أو موت؛ فهو صراع صفري؛ يفوز أحدهما ويخسر الآخر حياته وممتلكاته لصالح المنتصر، وفي مجتمع كهذا لا يكون ثمة معنًى للحديث عن الفضائل كالأمانة والنخوة والمروءة والشرف؛ لأن مثل هذه المعاني لا بد أن تفضي بصاحبها إلى الفناء جوعًا وعطشًا بالضرورة، أو التحول إلى العبودية لقبائل أخرى منتصرة.
أما كيف انتقل هذا المجتمع البُدائي الهمجي من جاهليته الأولى إلى جاهليته الثانية أو الأخيرة، فهو ما يمكن قراءته من قراءة تاريخ العالم في ذلك الزمان، وما كان من تأثير لأحداث العالم على جزيرة العرب، حتى نقلتها من عصر إلى عصر، ومن توحش إلى بشرية، ومن زمن السعي وراء الثمار والماء والصيد إلى زمن الاستقرار وإنشاء المدن والعمل بالتجارة، بل والقيام بعبء تجارة عالم ذلك الزمان، حتى أصبح العرب بفضل تلك الأحداث الدولية هم وسطاءَ ثم أصحابَ تجارة العالم القديم كله شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
خلال القرن الخامس الميلادي كانت تجري تحولات هائلة عالميًّا ومحليًّا، فقد دخلت إمبراطوريتا الفرس والروم حربًا طالت زمنًا حتى أصبحت سبعينية، وطاردت كلتاهما الأخرى في مستعمرات كلٍّ منهما، وفي كل خرم في العالم القديم، حتى قطعتا مسار طرق التجارة بين كلتيهما قطعًا تامًّا، مما أدى إلى كارثة اقتصادية عالمية ناتجة عن خنق طرق تجارة العالم.
ولعل أهم السلع التي عز شأنها سلعةٌ كانت مطلبًا للقتال العسكري، هي طيوب الهند وأفريقيا التي كانت هي مصادر علم الصيدلة، والعلاج للجرحى وغيرهم من مصابين بالأمراض. ولم يبقَ آمنًا من بين طرق التجارة الدولية غير طريق الصحاري الكبرى بجزيرة العرب؛ وهو المارُّ بمكة، وهو الطريق الوحيد الذي لم يرغب فيه لا الفرس ولا الروم، وتصادف أن أهم البضائع التي كانت تَرِد لهذا الطريق هو الطيوب الهندية التي كانت تصل من الهند وأفريقيا إلى موانئ اليمن.
ومن ثم تهيأت الفرصة السياسية الدولية والاقتصادية لتحوُّل مجتمعي عظيم في جزيرة العرب، التي تحوَّل عرَبُها عن أكل بعضهم بعضًا للقيام، في البداية، بالتجارات الصغيرة التي جعلت عرب الجزيرة يقومون من بعدُ بعبء تجارة العالم، مع نمو الثروات الخيالي الذي وصلَنا بعضٌ من خبره مع أسماء تجار بلغت ثرواتهم ثروات الأكاسرة والأباطرة، كما كان مثلًا شأن أبي أحيحة الأموي. وحمل العرب بضائع الصين والهند وأفريقيا من شواطئ اليمن إلى بلاد الإمبراطوريات في رحلة الصيف، وحملوا بضائع الإمبراطوريات عودًا إلى موانئ اليمن في رحلة الشتاء.
وقاد هذا التحولَ المجتمعي العظيم المتسارع مع تسارع الأحداث العالمية الضخمة والهائلة، قبيلةُ قريش التي سكنت على منتصف الطريق التجاري المار بمكة، واستقرت فيها وتحولت بها من مجرد استراحةٍ جرداء إلى مدينة عامرة كبيرة، تُنيخ بها القوافل التجارية للراحة بضعة أيام قبل أن تتابع رحلتها الشمالية الشامية، حيث كان التجار يجدون كل مطالبهم من خيام فندقية إلى ملاهٍ ليلية ومراقص وخمارات، إضافة إلى ما يَلزم من أرباب قبائل جزيرة العرب كلهم، استضافت مكة لهم نماذج منحوتة في فِناء كعبتها حتى بلغ عددها بعدد أيام السنة، فيأتي العربي التاجر ليلهو ويتعبد ويستريح أيامًا جميلة يستمع فيها إلى شعر عكاظ ويبيع فيها ويشتري من سوق بدر، ثم يضع أسهمه في القافلة الكبرى السنوية في رحلة الشتاء والصيف، بينما يتم حفظ التجارة في رعاية الرب الأكبر للتجار، رب السماء، الأمين الحافظ للتجارات، الكريم مع عباده، فكانوا يُودِعونها الكعبة كمخزن في حراسة الله، وهو الإله الأعظم من كل الأرباب صاحبة التماثيل؛ لأن تلك إنما كانت شفعاء لهم عند رب السماء كي يستجيب لهم ويبارك لهم في تجاراتهم. ومن ثَم أصبحت مكة حينذاك مثل لاس فيجاس وسان فرانسيسكو اليوم، مرتعًا لكل التجارات والنزوات التي تمثلت أول تجارات في العالم؛ التجارة بالجنس والعبيد ما بين صويحبات الرايات الحمر إلى أسواق العبيد الكبرى.
وحتى تشتري قريش أمن تجارتها الدولية، فقد أشركت القبائل العربية الأخرى في تجارتها بنِسب تعود على أصحابها بقدر ما دفعوا في قوافلها. ومنحت آخرين جِعالات لوقوفهم على الطريق التجاري الطويل، لتجعلهم حراسًا للقوافل بدلًا من نهبها، حرصًا على استمرار سيولة الطريق كضامن لحياةٍ عربية أفضل، وإدراك من العربي ثاقب، بعد تجارِبَ اكتشف معها أنها أفضل طريقة للحفاظ على أمن هذا الطريق من كل سوء؛ لأنه الطريق العالمي الوحيد؛ وأن استمرار سيولة وأمن هذا الطريق سيكون ضامنًا لعدم احتلاله من قِبل إحدى الإمبراطوريتين؛ لأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوا فيها وسلبوا التجار مكاسبهم وفرضوا عليهم الضرائب الباهظة، وجعلوهم أذلة، وكان العرب في غنًى عن كل هذا، وأكثر غنًى بما حققوا من مكاسب قامت كلها على معاني وكلمة وفضيلة «الأمانة»، فكان كل تاجر حريصًا على أن يعرفه الآخر بأنه «الصادق الأمين»، وثابروا في هذا الشأن؛ لأن الصادق الأمين كان الناس يسلمونه تجاراتهم فيأخذ نِسبًا أعظم من قرنائه نظير الإشراف على قوافل التجارات وثمنًا لوعثاء الطريق ومشقته. وهكذا كان للمتغير الدولي دورُه في ظهور فضائل محلية من نوع جديد لم تكن معروفة ولا حتى مفهومة من قبلُ زمنَ الجاهلية الأولى، كالوفاء بالعهد؛ لأن التجارات عهود شفاهية أو مكتوبة، يكفي نقض بعضها حتى لا يثق الناس في مواثيقها كلها، فتخسر وتبور؛ لذلك كان عربي العصر الجاهلي الثاني حريصًا على الوفاء بالعهد الذي كان تطبيقه والالتزام به، حافظًا للمال المتداول بين أيدي كثيرة وقبائل عديدة، وضمانًا لحقوق المساهمين قبائل وأفرادًا وحراسًا في قوافل التجارة الدولية. وهي فضائل لم يعرفها العصر الجاهلي الأول، هذا ناهيك عن فضائل متلازمة مثل كرم الضيافة حتى لا يهلِك حاملو التجارات في فيافي الصحاري، لطوارئ الرياح ومشاكل المرض، سواءً للبشر أو للجمال، فيجدوا في القبائل المتبدية مراكز للراحة والاستشفاء، ولأن العائد يعود بفوائده على الكل، فكان للكريم على الطريق أُعطيات تُقتطع من عائد القافلة كلها بعد عودتها سالمة آمنة، ردًّا للكرم بكرم أعظم يحقق لصاحبه العائد المادي والتكريم المعنوي لفضله وكرمه، وردًّا من الجماعة للجانب المادي بالمادي مع تكريم صاحبه وإشهار شأنه بفضيلة الكرم. وبلغَنا من بينهم حاتمٌ الطائيُّ بكرمه الأسطوري وهاشمٌ جد النبي الذي كان يَهشِم الثريد لقومه أزمان المجاعات، لذلك لقبه العرب هاشمًا بينما اسمه الأصلي هو عمرو.
المهم، مع هذه التحولات في الجزيرة، بدأ ظهور الشعور القومي نتيجة التقاء العرب في الأسواق، ثم تقارب لغاتهم المختلفة للتفاهم، حتى صاروا يتفاهمون بلغة العاصمة التجارية مكة؛ لغة قريش، فكان أن بزغ شعور قومي يدفع العرب لاختيار أنفسهم شعبًا واحدًا له لغة واحدة وأب واحد هو يعرب بن عدنان، الذي يعود لإسماعيل بن إبراهيم الخليل، تقاربًا مع التوراة وتأثرًا بيهود الجزيرة وأساطيرهم عن آباء البشر الأولين. وهنا بدأ حلم العرب في توحد قبائلهم في دولة. بعد أن شعرت بالتآزر بعد أن كانت تأكل بعضها بعضًا في معادلة صفرية مستمرة. ومن كان يكسر هذه الفضائل المستحدثة كانت قبائلهم ترفضهم وتلفظهم خارجها بلا حماية ولا رعاية في مجتمع بلا شرطة ولا قانون، والنسب للقبيلة هو دعامة للفرد في مواجهة غوائل المجتمع البدوي، وقد شكل هؤلاء الملفوظون من قبائلهم مَن اشتُهروا بلقب الذؤبان وأحيانًا الصعاليك، وهم من مرقوا على قيم مجتمعهم غير معترفين بها ولا بفضائل جماعتهم. وعادة ما شكَّل هؤلاء خطرًا مستمرًّا على التجارات جاءت به حكايات القوافل، كفرز موضوعي ضروري بحسبانه تمردًا يتبنى مبادئ مخالفة، وما خالف فضيلة المجتمع فهو رذيلة، مقابل الفرز الأعظم للفضائل الكبرى الخادمة لمصالح الجماعة وكبار التجار وذوي الوجاهة مثل الوفاء بالعهد والأمانة والكرم.
•••
بمقاييس فضائلنا المعاصرة لن يكون مفهومًا كيف يكون القتل والغُنْم حلالًا طيبًا؟ وقد يقف العقل حائرًا يحاول أن يفهم ولإيمانه تثبيتًا؛ لأنه بمقاييس مواد معاهدة جنيف لا بد أن تجفو الروح السلب والقتل والغنائم، لكن الإسلام كان يعلم ما هو فاعل، كان هو الأعلم بزمانه وظروفه، وأن العربي لا يخضع لعربي إلا إذا كان ذا شأن عظيم كالنبوة المصحوبة بالقوة، فهذه القبائل لا توحدها وتضمها تحت سلطان دولة يثرب (المدينة) إلا القوة القاهرة لأَنَفة البدوي التي تجعله يرفض الخضوع لسلطانٍ من غير سلطان قبيلته.
عاد المجتمع العربي في جزيرته إلى فضائله القديمة التي كانت قد أصبحت في العهد الجاهلي الأخير رذائل منبوذة من المجتمع، نتيجة الطارئ الجديد الإسلامي، ولكنها لبست ثوبًا جديدًا أكثر تماسكًا وقوة، ثوب الدين الواحد الجامع، في شكل أوامر ونواهٍ وحدودٍ وجزاءٍ وعقابٍ دنيوي وأخروي، وهو ما مهد فيما بعدُ لاكتشاف التشريع القانوني الذي لم يعرفه العرب من قبل، إلا في شكل مواضعاتٍ اجتماعية فاضلة وغير فاضلة.
والمعنى في كل ما سلف أن الفضيلة معنًى يتطور ويتغير بتطور الزمن وتغير ظروف المجتمع محليًّا نتيجة ارتباطه بالمجتمع الإنساني وما يحدث على سطحه من أحداث تاريخية. ولا توجد فضيلة ثابتة تناسب كل المجتمعات، فما هو فضيلة في زمن، قد يكون من أشر الرذائل في زمن آخر داخل نفس المجتمع، وما هو رذيلة في مجتمع قد يكون فضيلة كبرى في مجتمع آخر، كذلك تتغير دلالات الفضيلة بتغير الزمن ومتطلباته.
هنا لا بد أن نلحظ بشدة استمرار فضيلة الوفاء بالعهد والحرص عليها في الزمن الإسلامي، متوارثة من زمن الجاهلية الثاني الذي تنتسب إليه أعظم مكارم العرب وفضائلهم في الأمثال والقصص التي وصلتنا عنهم. وقد حرص الخليفة عمر على العمل بهذه الفضيلة وخشي معاهدة صاحب الإسكندرية على شرط وعهد أن يعيد إليه بموجبه نساءَ وحريمَ بلاده المَسْبيَّات؛ فهو مما لا سبيل إليه، فلن يعيد أحد في مكة أو المدينة أو اليمن ما وصله من حريم مصر، وأخذَه نصيبًا وفيئًا حسبما كان يوزع عمر الفيء والجزية على العرب، كلٌّ حسب رتبته الاجتماعية ونسبه بين العرب؛ ففرض أولًا لهاشم، ثم لأصحاب بدر، ثم للسابقين، ثم للمهاجرين، ثم للأنصار، ثم لباقي قبائل العرب.
رفض الخليفة هذا الشرط المعاهد للصلح لأن استعادة النساء المصريات اللاتي تم توزيعهن متعةً للعرب مسألةٌ شديدة الصعوبة، وهو ما يعني مخالفة الوفاء بالعهد كفضيلة راسخة منذ العصر الجاهلي الثاني صانع المكرُمات، بينما لم يلحظ الخليفة بالمرة أن سبي النساء يخالف فضيلة اجتماعية متفقًا عليها بين دول العالم القديم اسمها الحفاظ على العِرض من الهتك. والأمر ببساطة، دون محاولة تغليف أو تجميل للتاريخ، أن هتك عِرض العدو لم يكن رذيلة في القانون الأخلاقي الإسلامي، وإذا كان الزمن قد تغير وأصبحت مشاعرنا اليوم لا تقبل سبي النساء ونكاحهن، فإن زمنهم كان سبيُ وهتكُ العِرض علامةَ رجولةٍ وفحولةٍ وقوةٍ وبطولة، ناهيك عن كون ركوب السبايا كان إعلان نصر وفوز لله وجنوده المسلمين، فكان كل قائد فاتح يتغنى بعدد ما سبى من نساء بلاد الحضارات ليوزَّعوا على عرب الجزيرة ويباعَ الفائض في أسواق النخاسة. كان ذلك علامة نصرٍ بِغض النظر عن الوسائل وعلاقتها بسلَّم القيم. كان السبي هو ضريبة الهزيمة على من لا يستجيب لأحد المطالب الثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، وما يتبع الحرب للمهزوم من تحوله من إنسان حر إلى عبد مملوك هو وما يملك من مال أو عَقار أو بهائم أو نساء، حسب قانون الحرب الإسلامي. كانت تلك هي ضريبة المعادلة الصفرية، وقد أدت شريعة الحرب الإسلامية إلى تحقيق مرادها، فكثيرًا ما دفعت إلى استسلام بلاد عظمى للإمبراطورية الطالعة دون استمرار المقاومة، لما شهدوه يحدث لبلادهم ونسائهم وأطفالهم، وعندما اكتشفوا أن عند العرب قانونًا يقول إن ما أخذه العرب عَنوة هو مِلك لمن أخذه، وهو غير ما يؤخذ بالاستسلام بعهود تُعفي المهزوم من العبودية المباشرة ليدفع ضريبة الرءوس جزية وهو صاغر. ما يذكرنا بما حدث منذ قريب في هجرة فلسطينية واسعة إلى خارج فلسطين بعد عدة غزوات قامت بها العصابات الإسرائيلية (الإرجون وشتيرن وغيرها) على دير ياسين وقِبية وكَفر قاسم، فكان أن ترك الناس كل ما يملكون وهربوا بجلودهم.
وما بين اليوم والأمس أربعة عشر قرنًا، ومع ذلك سمح الظرف العالمي باستعادة مبدأ كان مطلوبًا في زمنه وانتهى زمنه وأصبح قيمة مرفوضة؛ استعاده الظرف العالمي من مكمنه في سلة مهملات وقمامة التاريخ، ليقيم الإسرائيليون لهم دولة بغض النظر عن الوسائل بمقاييس اليوم؛ لأن الرذيلة لا بد، في السياق الموضوعي للأحداث، أن تتحول إلى فضيلة يتم تغليفها بكونها استعادة لأرضهم من العربي المحتل، وأنها حالة دفاع وطني مستمر ضد محيط متوحش يتنمر لها حسبما يقولون إن صدقًا أو كذبًا.
المعادلة الصفرية كانت تحافظ على حياة البعض بعد أن يتم قتل البعض ويأخذوا ما لديهم لاستمرار المحافظة على حياة البعض، وقد استدعى ظرف العالم وتكوين إسرائيل استدعاء تلك الفضيلة القديمة بمبرر إقامة دولة إسرائيل المباركة من الرب وحتمية قيامها حتى يصدق الواقع مع نبوءات الكتاب المقدس، لتكتسب المعادلة الصفرية قداسة ورعاية إلهية مباشرة لتصبح أعلى من الفضيلة، لكونها مقدسة.
•••
هنا لا بد أن يطرأ السؤال يطرح نفسه بلا تردد: إذا كان الإسلام قد أجاز وطء المَسْبيَّات ونكاحهن بلا عدد، وشراء الإماء لنكاحهن بلا عدد، وأعطى الزوج بالإضافة إلى حريمه أربعَ زوجات حرائر، وكلهن (إماءً وزوجاتٍ) حلال أحل من لبن الأم، والزوجات هن من ينجبن الأبناء الصرحاء الأحرار بالدم، أما لو أنجبت الجارية فيتم إعطاؤها لقبًا فيه شبه اعتراف وعدم اعتراف هو «أم ولد» فتقف في مرتبة بين الأمة وبين الحرة. فإذا كان للرجل كل هذا الحشد من النساء في آنٍ واحد، فما هو المقصود بالزنى كرذيلة في الإسلام؟ وما معنى هتك العِرض؟ وهل يمكن تصور كل هذه الأجساد في حضن رجل فرد ويفكر في الزنى؟ ولماذا؟ وهو لا بد أن يستدعي السؤال بالنتيجة: وهل كان ذلك متوفرًا لكل إنسان في دولة الإسلام منذ زمن النبي وحتى انتهاء دولة الخلافة العثمانية؟ هذا ما يحاول أن يوعز لنا به أنصار الدولة الإسلامية من الإخوان وأنصارهم، فيحكون لنا عن ازدهار زمن الخلافة الراشدة لإنها كانت تطبق الشريعة حتى كانوا يشترون الجارية بوزنها ذهبًا، دون أن يشعروا بأي مشكلة مع كون هذه الجارية كانت حرة في بلادها قبل أن تُخطف لتباع، وأن نهر الأموال الذي فاض على العرب لم يكن لتمسكهم بتطبيق الشريعة، ولكن لأنهم سلبوا البلاد المفتوحة وهتكوا عِرضها وسلبوها كنوزها وخيرها وحلبوها حلبًا.
لم ينسنا السؤال إبان الشرح، فهو ما زال يلح طالبًا إجابة: إذا كان للرجل أربع نسوة وعشرات أو مئات الجواري فلماذا يزني؟ ولا يَنِي المنطق يشعرنا بمدى حيرته إزاء هذا التساهل الشديد في حشدٍ هائل للنسوة في بيتٍ واحد لرجل واحد، مع تشديد عقوبة الزنى وتغليظها على الزناة، فهي أشد الحدود وأفظعها للحس الإنساني وأشد حدود الإسلام غلظة وفظاظة؛ فهي تحمل إلى جوار العقوبة هدف إطالة زمن معاناة الجاني وعذابه؛ كانت الرجم حيًّا حتى الموت، مع إشراك المجتمع في تطبيق العقوبة العلنية في حالة تنفيس بُدائي من ذوي الخطايا، ليرموا على المحكوم خطاياهم مع كل حجر راجم.
وكان ذو المَجاسد عامرُ بن جُشَم قبل الإسلام، وغيرُه من كبار القوم وعِلْيتِهم، قد شرعوا للعرب ما أخذ به الإسلام من بعدُ؛ وذلك مثل حد الزنى الذي أخذه ذو المَجاسد نقلًا عن حدود توراة يهود الجزيرة، ومثل تجريمه وأد القبائل الفقيرة للأطفال وبخاصة البنات، فأسماه العرب: «محيي الموءودات».
إن تفحُّص تلك الخريطة المجتمعية يعني أن نتذكر أن مجتمع بدو الجزيرة، كان مجتمع ندرةٍ شحيحًا، يستولي فيه القادرون على الخيرات بالغزو والسبي والشراء، وأن المرأة كانت سلعة ضمن تلك الخيرات، فتكون النتيجة مع قدرة حيازة نساءٍ أربع وما لا عدد له من إماء، أنه لن يتبقى لبقية الرجال فائض من النساء، وهؤلاء عادة هم غير القادرين والفقراء المُعْوِزون.
وللحفاظ على ثروة الأغنياء من الحريم تم اشتراع هذا الحد القاسي منتقلًا من اليهودية إلى عرب الجاهليتين ثم إلى الإسلام؛ لأن رذيلة الزنى كان احتمال وقوعها أكثر من بقية الرذائل، كالسرقة مثلًا؛ فالشيء المسروق لا إرادة له، أما المرأة فإنها عندما تريد الزنى فإنها تتحرك وتسعى وتفكر وتحيك ظروف الواقع لتصل إلى سارقها، أو بالأحرى إلى سارق مالكها. ومع حيازة قلة من الرجال لمعظم النساء لجأ العرب الفقراء إلى المثلية وإتيان الحيوانات الأليفة، بل وتأليف حيوانات كالقردة وتدجينها لما في العلاقة الجنسية معها ما يشبه حال الإنسان، كتعويض للفقراء عن نساءٍ لا يحصلون عليهم إزاء مزايدة الأغنياء عليهم في المهور والقدرة الشرائية.
وقد استثمر الإسلام هذا الوضع الاجتماعي فأقر العودة لنظام الغزو والغُنْم والسبي الذي كان قائمًا في الجاهلية الأولى، كمحفز لغير القادرين للدخول في الإسلام والانخراط في جيوشه للحصول على الغنائم والسبايا والحصول على الإشباع الجنسي، وكان هذا الدافع الجنسي المتغول لدى الفقراء المغتلمين حافزًا يفسر بشديد الوضوح سر الاستماتة البطولية لجيوش المسلمين في القتال وانتصارهم رغم قلة عددها قياسًا على العدو، في كثير من معارك التاريخ الفاصلة. ومن ثَم كان تشريع السبي ونكاح السبايا ضرورة عسكرية موضوعية لتحقيق الانتصارات والفتوحات الإسلامية. كان تشريعًا يليق بزمانه، لكنه أبدًا لا يليق بزمننا، فليس صحيحًا بالمطلق أن شريعتنا صالحة لكل زمان ومكان؛ فهو وهم يجب أن نتخلص منه حتى نستطيع ابتداع ما يصالحنا مع زماننا، زماننا الذي ألغى كل هذه الألوان من الجنس الاغتصابي واعتبرها جرائم عظمى، ولم يُبقِ سوى على العلاقة القائمة على القبول والتراضي بين الطرفين كسبيل وحيد لمشروعية العلاقة. وكانت البداية من زمن الخديوي إسماعيل في معاهدة مع إنجلترا على منع بيع وشراء الرقيق السوداني، وأبراهام لنكولن الذي أصر على تحرير الرقيق حتى دخلت الولايات المتحدة أفظع حرب في تاريخها (الأهلية الأمريكية)، وبعدها تم اعتبار الرق وصمة عار في تاريخ البشرية الشرير.
واستمر الفقه الإسلامي في تحريم الزنى حتى لو تمت العلاقة بالتراضي والقبول من الطرفين؛ لأنه اعتداء على فرج يملكه آخر، هو اعتداء على الملكية، فالمرأة لا تملك نفسها، ومن ثم لا تملك جسدها لتمنحه أو تمنعه، فالمرأة لا بد أن تكون مملوكة لرجل، لأبيها أو لزوجها أو لأخيها أو حتى لابنها؛ وذلك حفاظًا على حقوق المالكين الذين كانوا في زمن الفتوحات هم العرب وحدهم، فلا أحد يملك شيئًا ولا حتى نفسه إذا كان ضمن المفتوحين، مما أنشأ أزمات جنسية في معظم الإمبراطورية العربية. كذلك استمر حد الزنى قائمًا ومستمرًّا للترويع والتخويف والترهيب، بينما استشرت ألوان الجنس اللاسوي كالمثلية والجماع مع البهائم والحيوانات المستأنسة لتفريغ طاقاتهم الجنسية، وهي أنواع من الجنس لم تضع لها علوم الفقه حدودًا مقررة واضحة متفقًا عليها، بل هي تكاد تكون بلا حدود، كلون من السماح غير المعلن.
ورغم كل متغيرات العالم الحديث والمعاصر الذي جرم الرق والسبي، أو اعتبار المرأة من الأشياء المملوكة، وألغى التعدد وجرَّم هتك العِرض وصنَّفه ضمن أبشع الجرائم «الاغتصاب». فإن فقهاء الإسلام عند موقفهم لا يرومون حراكًا ولا تغييرًا ولا تبديلًا، رغم أن الفضيلة والرذيلة بنت زمانها وظروفها ومجتمعها الذي أفرزها وتوافق عليها، والزمن كله غير الزمن والناس غير الناس، مما يلزم معه التواضع على دلالات جديدة لمعنى الزنى عندما يكون جريمة وفق مقتضيات عصرنا، وهو ما يعني التخلي عن فضائل الأمس التي هي بلا منازع رذائل اليوم، فلا شيء صالح لكل زمان ومكان. ففي زماننا وفي بلادنا، ونتيجة ضيق ذات اليد لملايين المسلمين، أفرز الواقع زواج المسيار والعرفي والمؤقت والمتعة والوهبة والغفلة، تحايلًا على تشريع جمَّده الفقهاء عند القرن الرابع الهجري، حتى قالوا: لم يترك السلف شيئًا للخلف ليجتهدوا فيه! ولا تجد البنت أو الشاب حرجًا على أنفسهم أو على إسلامهم ويقينهم بدينهم وهم يمارسون تلك الزيجات، فالمجتمع يجد حلوله رغم أنف أفراد من الفقهاء يريدون تثبيت الزمان.
وضمن هذا الثبات عند عشرة قرون مضت اضطُر الفقهاء للسكوت وليس التنازل عن حق ملكية الرقبة ومعاشرة الإماء نتيجة التوافق الدولي على تجريم الرق والاغتصاب، فحرمته السعودية في الستينيات بعد طول امتناع، وتبعتها موريتانيا في الثمانينيات، يقفون عند زمن المسلمة الحرة الشريفة الملزمة بلباس يناسب ظروف بيئتها يخمِّر فجوة الثديين، ليجعلوا منه ما أسموه حجابًا، لأن المقصود لم يكن تغطية الرأس، لأن غطاء الرأس كان قائمًا بالفعل حرصًا على الدماغ من الحرارة والآفات والقذارة. واليوم عندنا «السوستة» والحمد لله. ومع إلغاء الرق تحولت الصفات التي كانت للجواري إلى بنات غير المسلمين بإطلاق، فهن كالجواري لا يلزمهن حجاب لأنهن لسن من الأحرار؛ لأنهن سيكونُنَّ يومًا جواريَ للمسلمين لأن فريضة الجهاد لا تتوقف ما دام هناك فرد واحد في العالم لم يُسلم بعد. رتبتهن هي رتبة الإماء؛ فغير المسلمة غير حرة وبالتالي غير شريفة بالضرورة حسب الموروث العربي، وهي تحت طائلة السبي في أي وقت يتمكن فيه المسلمون من إخضاع الأرض كلها لدين الله الذي لا يقبل بغيره دينًا (الإسلام). لذلك لا بد أن تتميز الحرة اليوم (وهي المسلمة وحدها) كما كانت تتميز زمن الدعوة، بضرب الخُمر، لكنهم يأخذون الخمار كله، ما على الجيب وما على الرأس، ويخترعون له اسمًا جديدًا هو الحجاب، وهو شأن لم يفرضه القرآن على نساء المسلمين ولا أشار إليه ولا شرعه ولا قننه، وحتى لو كان فرضًا كما يقولون فهو لتغطية الجيب ولم يتحدث عن الرأس، فالخمار كان على الرأس كعادة بيئية صحراوية من الأصل.
•••
كان الحجاب شأنًا خاصًّا بنساء النبي وهو غير الخمار الذي يغطي الثديين، وتحجيب المرأة بالمعنى والصورة التي نراها متفشيةً اليوم، هو أحد أساليب عزلها عن الرجال، في مجتمع أصبح فيه مستحيلًا الفصل بين الرجال والنساء، ورغم ذلك فإن بعضهم يصر على تفعيل هذا الفصل، ويجدون من يستمع لهذا القرار المشيخي وينفذه، كالحال في قاعات الدراسة الجامعية وكثير من وظائف القطاعين العام والخاص.
إن قرضاوي لا يجد بأسًا في الاختلاط بين الذكر والأنثى، لكن فقط مع الشيخ، الذي هو وارث الفتيا، والحالُّ محل الرسول لتفقيه المسلمين في شئون دينهم؛ لذلك يشجع قرضاوي المسلمات على سؤال المشايخ دون حياء في الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة، لكنه يمنع الاختلاط البريء بين أبناء الجامعة الواحدة والصف الواحد وتبادلهم أطراف الحديث حول جدول مندليف أو نسبية آينشتين، وليس في الاحتلام والاستحاضة، دون أن يعمم ذلك المنع على الاختلاط الذي كان حادثًا زمن النبي، والذي كان حالة عامة، وليس حالة خاصة تسأل فيها نساؤنا المشايخ عن الاستمناء والاستحلام، عن شئون الفرج والنكاح فقط.
لم يكن اختلاطًا فقط بل اختلاط لمتبرجات مع رجال غرباء، كانت سُبَيعة بنت حارث الأسلمية زوجة لسعد بن خَولة العامري، وكان ممن شهد موقعة بدر وغفر الله له ولأصحابه من أهل بدر ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وتُوفي عنها زوجها في حَجة الوداع، فما إن طهُرت من نِفاسها حتى بادرت بالتبرج والتجمل والتزين وخرجت تمشي بين الرجال طلبًا للزواج، فتقدم لها أبو السنابل بن بَعكَك، وكهلٌ، وشابٌّ، فاختارت الشاب (رواه البخاري ومسلم).
كان التبرج لإظهار الجمال ليس هو المفهوم من تبرج الجاهلية الأولى المنصوح بعدم لجوء المرأة المؤمنة إليه؛ كان التبرجَ المسموح، كن يضعن الحمرة بسحق الأحجار الحمراء وعملها كمسحوق يشبه بودرة تجميل اليوم، وقد جملت أم السيدة عائشة بنتها بهذه الحمرة ليلةَ دخل بها الرسول.
المسألة كانت تغطية الثديين ليس إلا، لكن أن تلبس المرأة اللافت للنظر والمبرز للجمال فلم يكن شيئًا محرمًا؛ لأن هذه هي طبيعة المرأة التي فطرها الله عليها، ولن ترى لخلقة الله تبديلًا. كانت الأقراط الكبيرة والطويلة المطمعة من أكسسوارات التجميل ذات الأصوات واللافتة للنظر من زينة الصحابيات، وهو ما يأتينا ذكره في خبر أم هانئ بنت عم النبي التي تبرجت بمثل هذا القرط وقامت تسير بين الرجال مستعرضة جمالها، فتحركت غيرة عمر فقال لها: «إن محمدًا لا يغني عنك شيئًا.» فغضب النبي ليس لتبرج أم هانئ مطلقًا، ولا أشار حتى إليه، كل ما أغضبه أن يقول عمر إن شفاعة محمد لا تلحق أهل بيته. (رواه الطبراني).
إن زمن النبي ليس بالصورة التي يفهمها المسلمون البسطاء مأخوذة من فيلم ظهور الإسلام وفجر الإسلام والشيماء، ويدعمها مشايخنا في وعظهم وفتاواهم، وهم مَن أشرف على وضع اللمسات النهائية لصورة المجتمع الإسلامي الأول في تلك الأفلام. لم يكن مجتمع زمن الدعوة كما يقدمونه للمسلمين جيلًا من الملائكة، بل كان مجتمعًا طبيعيًّا يعيش فيه الصحابة كما يعيش البشر، ويعرف أن للمرأة أن تتجمل، فقد خُلقت بذلك غريزيًّا، ولم يكن أمرًا ممجوجًا ولا محرمًا. كذلك لم يمنع أو يحرِّم لقاء الرجال بالنساء، بل هو لم يحرِّم الغزل بينهما لأنه الرسالة الأولى للتواصل الإنساني بينهما، يروي البخاري عن عبد الله بن عباس أن أخاه الفضل كان رَدِيف رسول الله ﷺ فجاءته امرأة من خَثْعَم تستفتيه، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ولنلاحظ أن هذا الغزل بين صحابي وصحابية كان في حضرة سيد الخلق الذي أينما كان حاضرًا كانت السماء حاضرة، وفي أقدس الأماكن وأقدس الأزمان، في حجة الوداع.
ولم ينزعج رسول الله ﷺ، ولم ينهرهما، بل كان فقط يصرف وجه ابن عمه الفضل بأنامله الشريفة لينًا ولطفًا وتقديرًا منه لفطرة الله التي خلقنا عليها، ولم يصرف وجه الخَثْعَمية عن التملي من الفضل. وإما لم تكن هذه الخثعمية مخمَّرة ولا متنقِّبة ولا محجبة حتى بدت مفاتنها للشاب، أو كانت مخمَّرة ومع ذلك فإن الخمار لم يستطع أن يمنع نداء الطبيعة ولم يردع الفضل عن الغزل في حضور رسول السماء والزمن القدسي كله.
ولم يمنع الحجاب (إن كان قد حدث، وهو غير صحيح) المرأة من التطلع والمغازلة، فإن لها عيونًا ترى وآذانًا تسمع. وفي زمن الخليفة عمر اشتُهر نصر بن الحجاج السُّلَمي بجماله الأخاذ حتى فَتن نساء المدينة، وأصبح مثل كازانوفا تطلبه النساء ويقلْنَ فيه الشعر الماجن، الذي نختصره هنا لشدة مجونه، فهذه صحابية تدعو ربها أن يصلها بنصر بن الحجاج ليطفئ نارها وشوقها ولوعتها، وأخرى تنادي: من لي بابن الحجاج ولو ليلة واحدة، وهو ما اضطر الخليفة عمر، رأفةً بالأزواج من الصحابة، إلى إبعاد نصر إلى بلاد الشام.
المشكلة في مثل هذه الشهادات التي نقدمها هنا لنعلم هل كان هناك حجاب؟ وهل منع الحجاب نداء الطبيعة، زمن وجود النبي بنفسه بين المسلمين وفي حضرة أبواب السماء المفتوحة وفي أقدس الأماكن؟
المشكلة أن مسلم اليوم لا تقبل نفسه وروحه وربما عقله بمثل هذه الشهادات لأن وعاظنا صوروا له الزمن النبوي كما لو كان زمنًا ملائكيًّا روحيًّا لا مجال فيه للخطأ، كي يُلقوا فيه بكل جديدهم اليوم ويستمدوا منه ما يدعم مخترعاتهم اليوم كالحجاب ليلبس قدسية ذلك الزمان، لأنهم لا يتلقون وحيًا لكنهم يريدون لكلامهم القدسية، وهم يستمدونه من زمن الدعوة، لذلك جرى تقديس ذلك الزمن ليعطي فتاوي مشايخنا وقولهم قدسية الوحي، ولا يعرِّجون أبدًا لمثل هذه الأحداث، بل ويخفونها عن المسلمين عمدًا وقصدًا ورغبة منهم، عن سبق إصرار وترصد، كي يصنعوا المسلم الذي يريدون؛ الممتثل المطيع الذي لا يعرف سوى قول آمين.
وربما يأتي مسلم اليوم وهو يقرأ هذه الشهادات ليُلقي بنفوره على كاتب هذه الدراسة هنا وليس على مَن دوَّن الحدث، ولا على من صنع الحدث، ولا على المجتمع الذي حدث فيه الحدث؛ لأن مشايخنا يصوغون له إسلامًا غير ما كان في زمن النبوة الشريفة، حتى يلتقي مع ما يريدون الوصول إليه، وهو الإمساك بدماغ المجتمع كله وإجباره على الطاعة والتسليم بفروض لم تكن موجودة كالحجاب؛ وهو ما يعني أنهم جعلوا المسلمين أكثر طاعة لهم من الطاعة لدينهم ولزمنه القدسي، حتى فرضوا على أنفسهم بأوامر مشايخ آخر الزمان ما لم يفرضه الزمن القدسي.
بل ويبالغ المسلمون اليوم في عزل المرأة عن المجتمع، فقاموا يخترعون، إضافة إلى اختراع «الحجاب»، اختراعًا آخر يزري بمخترعه هو «النقاب» الذي يغطي كل الوجه ولا يترك سوى العينين، أو ثقبًا واحدًا لعين واحدة، وهو النقاب الذي كانت ترتديه المعلمة المسلمة الفرنسية وصاحبة القضية المشهورة التي رفعتها كي تدخل على تلاميذها الصغار بنقاب له عين واحدة، مما قد يرعب هؤلاء الأطفال. ثم هناك نقاب لا يسمح حتى بثقوب ولا للعين الواحدة، وهو ما أوجز الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور بشأنه، فاعتبره نوعًا من الاستعلاء على المسلمين، وأنه إعلان تميز، بل هو استعلاء على شرع الله ومزايدة على الله نفسه، وأن النقاب إذ يعطي المرأة فرصة التطلع إلى الآخرين وفرزهم واقتحامهم بعيونها، فإنها بنقابها تمنع عنهم ذات الحق.
المقصود أنه أيًّا كان الوضع، حجابًا أم خمارًا أم نقابًا، أو أن يكون أمامًا أو خلفًا في الصلاة التي هي وقت القداسة، أو في المسجد الذي هو قدس أقداس الإسلام، أو في حضور النبي بشخصه وكرامته، ومع كل الحرص على عدم التطلع فقد حدث التطلع، ومن زوجة سيد المرسلين نفسه، ولم يعاقبها بشيء عظيم، فقط فارقها؛ لأنه يعلم أنه مع كل الحرص فإن نداء الطبيعة عند البعض أكثر استصراخًا، وأنه شأن غريزي لا يمكن اقتلاعه.
•••
في بلاد المسلمين، وفي الأسواق، وفي الحروب، بل وفي الحكم، كانت المرأة حاضرة إلى جوار الرجل في حوار خلاق مستمر، وعندما أقعدها الفقهاء في البيت مع بدء عصورنا المظلمة، وتخلينا عن أنوارنا، بل وقبرنا لها مع من قبرنا من معتزلة وجهمية ومرجئة ومتصوفة ومتشيعة … إلخ. كان الواقع ينطق بموقف القرآن الذي كان حاسمًا قاطعًا بصمته في مناطق كثيرة تركها ولم يتدخل فيها، لنضع نحن لأنفسنا ما يناسبنا من قواعد ونظم وقوانين، فسطا عليها الفقهاء وصادروا مناطقنا التي تركها الله لنا حرة مباحة، ليطلقوا من خلالها على المؤمنين فتاواهم وفروضًا مزعومة على المسلمين والمسلمات لم تكن في أصل المراد الإلهي القرآني لا بالإشارة ولا التلميح. وكم سطا مشايخنا على مساحاتنا الحرة التي تركها لنا رب السماء ليحاصروها بحديث مخترع هنا وسنة تنسخ القرآن هناك، فيرتكبون وهم يفعلون عظائم الكبائر في حق ديننا ودنيانا. ويستمر المسلمون يسمعون لهم ويتبعونهم إلى حتفهم بظِلْفهم، بدلًا من أن يحاكموهم بعدالة صادقة شفافة عما ارتكبوه في حقنا حتى بقينا هنا في قاع الأمم المتخلفة، بينما أهل الطاغوت هناك، حيث الصحة والسعادة والمرح والإنتاج والإنجاز والإبداع والنظافة والفن والجمال والابتكار والاكتشاف، مما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة علاقتنا بالرب وهل نحن بالفعل خير أمة أُخرجت للناس؟ وهل يرعى الرب أمته التي اختارها؟ الواقع يقول العكس: إنه يرعى شعوبًا أخرى لا تدين بالإسلام ولا تعرفه، وكشف لهم عن كنوز علمه دون المسلمين، فلا بد أن يكون السؤال هو: لماذا؟ … لماذا … هو السؤال الذي يجب أن يطرحه المسلم على نفسه وليس على ربه!
وأفاد الشيخ قرضاوي في تفسيره أن تلك ملابس كانت تناسب زمانها لا زماننا؛ حيث لم يعد عندنا جوارٍ، وأصبحت الكُنُف داخل البيوت، فانتفى شرط إدناء الجلابيب للتمييز بين الحرة والأمة. كذلك أكد على الظرفية البيئية للخمار، وهي غير موجودة اليوم. إذن عندما تغيرت الظروف فإن مجتمع العرب تغير متحركًا وأنشأ فضائله التي تلائم مطالبه، فتغير من جاهلية أولى بُدائية وحشية إلى قمة الفضائل في الجاهلية الثانية، لكن لتفرض ظروف الواقع متطلباتها فتتم العودة من الزمن الإسلامي إلى فضائل الجاهلية الأولى، ورغم ذلك يعجز المسلمون المعاصرون عن إنتاج فضائل جديدة تناسبهم للتعامل مع عصرهم وتنهض بمجتمعاتهم، كما فعل هؤلاء الأسلاف على ثلاث مراحل سريعة التتابع، مفضلين الاستمرار تحت مظلة فضائل القرن السابع الميلادي وما قبله في الجاهلية الأولى، فتضيع منهم البوصلة فيتجهون بعكس اتجاه التاريخ، ويرددون فضائل قديمة انتهى مفعولها وزمن العمل بها، فتأخذهم معها إلى مرحلة أدنى مما حققه الإنسان اليوم، وبدلًا من أن ينشئوا فضائل تناسبهم يستوردون فضائلهم من زمن الجاهلية الأولى ومن القرن السابع الميلادي؛ فيفجرون ويقتلون ويذبحون ويهزون العالم بغزوتَي واشنطن ونيويورك المباركتين. كان الغزو زمنَ الدعوة رغم عودته لقيم عصر أسبق، قيمة وفضيلة ضرورية لتوحيد العرب ليشكلوا قوة قوية ضاربة، كي يخرجوا من جزيرتهم ليملئوا الفراغ العالمي الناشئ عن تهاوي قوة الفرس والروم بعد حربهم السبعينية، وليستعمروا البلاد المحيطة بجزيرتهم بالقوة المسلحة، حتى أنشئوا إمبراطورية عظمى. لكن أن يتمسك مسلمو اليوم بفضيلة الجهاد فهو الأمر غير المفهوم مع معادلة القوة والضعف حيث نحن فيها الطرف الأضعف. حتى إن استعادة مفهوم الجهاد اليوم هو أبلغ تعبير عن هذا الضعف؛ إذ أصبح إرهابًا، والإرهاب عبر التاريخ هو سلاح الطرف الضعيف دومًا.
لأننا نتصور القوة كما تصورها بدو الجزيرة زمن الفتوحات، هي قوة القهر والغلبة لأخذ ما بيد الغير وفرض سيادتنا عليه، بينما القوة في زماننا تلازمها مجموعة محبوكة من العناصر الاقتصادية والسياسية والمجتمعية ترفع هذه القوة لتعبر عنها؛ لذلك فالتصور بأنه بالإرهاب سنحتل العالم كما حدث زمن الفتوح، لهو تصور شديد البُدائية والسذاجة والسطحية.
المسلمون يتمسكون بفضائل انقضى زمنها ولم تعد ذات معنًى، حتى إنها أصبحت تضر ولا تنفع، ويُلَبِّس عليهم مشايخهم تلك الفضائل كما في القول بفرض جديد هو الحجاب، الذي اخترعوه اختراعًا بعد المزج بين نصين قرآنيين؛ واحد يتكلم عن تخمير الصدر ويخص كل المسلمات، وآخر يتكلم فقط عن زوجات النبي وحدهن فيخصهن بساتر يحجبهن إذا تحدثوا مع الصحابة لأنهن لسن كغيرهن من النساء. ويصرون على اختراعهم هذا ويُعْلُونه كفضيلة تصل إلى درجة الفرض.
هذا علمًا أن الخمار نفسه كان فيه شيء من المغالاة؛ لأن الثديين في جزيرة العرب لم يكونا محل اشتهاء، بقدر ما كانا شيئًا وظيفيًّا مهمته الإرضاع، بدليل حديث السيدة عائشة الذي تمسكت به حول رضاع الكبير عشرًا، وكانت تطلب من قريباتها إرضاع من أراد استفتاءها في شأن دينه من الرجال. لكننا نسلم بالخمار كتوجيه سماوي لا يمكن الاعتراض عليه.
ولتتميز المسلمة عن غير المسلمة نسمع أن الحجاب هو مقابل العُرْي والتهتك في بلاد الغرب لتمييز المسلمة عن غير المسلمة؛ لذلك تم الربط بين عدم التحجب إن أرادته مسلمة وبين العُرْي والتهتك؛ لذلك كان شعار «الحجاب عفة وطهارة». لكن ما يرُدُّ هذا المعنى ويُبطله بالمرة هو أن العُرْي الكامل والتام زمن الصحابة الراشدين لم يكن يستدعي أية عقوبة، وهو ما توضحه حادثة المغيرة بن شعبة مع أم جميل، والتي شهدها أربعة عدول من الصحابة شهادة واضحة، وأن كلاهما كان عُريانًا كما ولدته أمه، وقد شهد ثلاثة من الأربعة أمام الخليفة عمر أنهم رأوا الفعل كاملًا بفخذي أم جميل مرفوعين كأذني حمار، وأن المغيرة كان يستبطنها (أي بطنه فوق بطنها)، وأن خصيتيه كانتا تتأرجحان جيئة وذَهابًا بين فخذي أم جميل، بما لازم ذلك من شهق وزفر، ورفع وخفض، بل إنهم رأوه يُدخل عضوه فيها ويخرجه كما المِيل في المُكحُلة. لكن الشهادة لم تكتمل لأن الشاهد الرابع زياد بن أبيه أقر بكل تلك التفاصيل لكنه لم يتمكن من رؤية عملية الإدخال والإخراج كالمِيل في المُكحُلة، فحكم الخليفة عمر ببطلان الدعوى وأقام حد القذف على الشهود الثلاثة، بينما لم يتم استدعاء أم جميل بالمرة كطرف في الجريمة، ولم تتم عقوبة المغيرة ولا أم جميل بسبب عُريهما ووجودهما على سرير واحد في خلوة بيت مغلق عليهما مع شهق وزفر ورفع وخفض وساقين كأذني حمار وخصيتين تتأرجحان لكن دون دخول المِيل إلى المُكحُلة. ولا نفهم هنا سر انزعاج مشايخنا من ملابس نساء الغرب حتى دمغوهن بالعُري والفساد والتهتك دون أن يتيقنوا من دخول المِيل في المُكحُلة هناك، أليس دمغهم بالعري هو ضرب من قذف المحصنات يستحق الحد الذي أقامه عمر على الشهود الثلاثة بالجلد؟
يصر سادتنا الكهنة على اختراعهم العجيب (الحجاب) ويصرون على فضيلة تحجيب المرأة دون أن يطلبوا معها بقية فضائل العرب الرواسخ؛ فهم لم يطلبوا حتى الآن فضيلة إعادة هتك العرض للمَسْبِيَّات، ولا فضيلة نكاح الإماء بعد شرائهن من الأسواق، بل ولا حتى طلبوا إقامة أسواق البيع الحلال للرقيق أبيض أو سودانيًّا (زَنجيًّا) بحسبانهم البنية التحتية لإقامة تلك الفضائل في المجتمع. ولا حتى احتجوا على إلغاء العقوبات البدنية كالجلد والقطع والرجم، وهو ما يعني أنهم ينتقون من دينهم (لو كان الحجاب دينًا، وهو غير ذلك)، فيختارون ما يريدون من هذا الدين دون فضائل أخرى! وكأنهم يُدينون فضيلة هتك العرض، أو كأنهم يستحون منها، أو كأنهم قد اختاروا اختيار عالمنا المعاصر، فتركوا الرق والسبي وهتك العرض والعقوبات البدنية لزمانه وذوق زمانه وظروف زمانه. وإلا فعليهم مواجهة تهمةٍ تحمل كل مسوِّغاتها القانونية التشريعية هي مخالفة معلومٍ من الدين بالضرورة، أما إن ارادوا الانتقاء والاختيار والفرز من هذا التراث، فعليهم إسقاط ما يسمونه عقوبةَ مخالفةِ معلومٍ من الدين بالضرورة، وإعطاء حق الانتقاء لغيرهم أيضًا.
إن حد الزنا قد وُضعت له شروطه الصعبة التي وُضعت له خصوصًا دون بقية الحدود، وهو وجود أربعة شهود عدول يرونه كالمِيل في المُكحُلة، بحسب تفاسير الكبار من لوامع الفقه؛ لأنه أشد الحدود وأكثرها قسوة وفظاظة، كما لو كان يريد أن يجعل إثبات واقعة الزنا أمرًا مستحيلًا.
أنصاري آخر هو عويمر بن أبيض العَجْلاني دخل بيته فوجد رجلًا ممتطيًا زوجته. وبقية الخبرين أن الزنى قد تأكد ليس بأربعة شهود حسب كتاب الله، ولكن الزانيتين أنجبتا ولدين كل منهما هو الأشبه بالمتهم بالزنى. ولم يكن ذلك دليلًا فهو ليس بأحد القرائن والشروط الواردة لإقامة حد الزني. وهو ما يعني أنه رغم أنهم صحابة وصويحبات رسول الله وأنهم عاشوا الزمن القدسي وفي أطهر البقع على الأرض، ورغم أن الشريعة قائمة ومطبقة بتمامها وكمالها تطبيقًا ليس له شبيه قبله ولا بعده، ومع ذلك ورغم كل ذلك، فإن هذا لم يمنع من الفعل الذي يخشاه مشايخ أيامنا ويطلبون له الحجاب، كما لو كان الحجاب أكرم من وجود سيد المرسلين بنفسه، أو كما لو أن الحجاب سيمنع ما لم يتمكن نبي الأمة من منعه زمن تطبيق الشريعة.
بل إن مدينة رسول الله كانت تعاني من مشكلة جنسية مستفحلةٍ زمنَ النبي، عندما كان ينتهز الرجال القاعدون بالمدينة فرصة خروج الأزواج في جيش النبي للغزو، ليعتلوا نساءهم في حالة مستعرة منتشرة، مما كان يهدد الجيش الغازي بتقاعس الرجال عن الخروج، والبقاء حماية لملكياتهم من فروج النساء. ولم يجد النبي حلًّا للمشكلتين يمكن أن يرضي الناس، فوضع للمشكلة الأولي حلًّا هو الملاعنة؛ أي إن من يرى زوجته مركوبة لرجل فعليهما أن يتلاعنا، وسيصيب الله الجاني من بعد ذلك بلعنته، وكان التلاعن يتم في حضرة النبي كأفضل شاهد عدل (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ومالك في الموطأ). أما حل المشكلة الثانية التي عرفها التاريخ الإسلامي بمشكلة «المُغِيبات»؛ أي من غاب عنها زوجها في الغزوات، فقد لعن الرسول بنفسه من يفعلها ودعا عليه دعاء حارقًا مع التهديد بأن من سيقع بيده من «نَبِيب التَّيْس»، وهي الصفة التي أطلقها على من يزني بالمُغِيبات، فإنه سينكِّل به نيابة عن الزوج المثلوم في شرفه. فهل ما يقوله لنا مشايخنا عن الحجاب، سيحجُب عن بلادنا وبنات المسلمين فعل الطبيعة ونداء الغريزة، بما لم يحدث ولا حتى زمنَ النبي ذاته وبمعرفته وبحضوره وبحضور السماء والوحي والصحابة وأمهات المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرًا؟!
وإعمالًا لذلك فإن الدافع النفسي لتنفيذ الأمر بالمخالفة في المظهر، هو مخالفة عن الدول المتقدمة لإبراز وجودنا، بغض النظر عن تقدمنا من تخلفنا، والإصرار على هذا الشيء المسمى بالحجاب هو فقط للإعلان بالتميز، هو أداة إعلان تؤكد للعالم وجود المسلمين في الدنيا، في عالم لا يرى وجودًا لغير المنتجين المنجزين المكتشفين المخترعين؛ لذلك نعلم أنه لا يرانا لأننا لا في العير ولا في النفير؛ لذلك نقحم على عيونه رؤية حجابنا وتميزنا بمظهرنا باللحى والجلابيب القصار، نريده أن يرانا بتميز مظهري ليس من أساس الدين كما قال شيخهم. ورغم ذلك ذهب شيخهم هذا إلى حد رفع دعوى ضد حكومة فرنسا لمنعها الحجاب في مدارسها. المهم أننا لا نعلم أننا لا نوجد إلا بالقدر الذي يسمح به المتفوق لنا فيه بالوجود وبالظهور؛ فهم من يمتلكون أدوات وآليات وأجهزة الظهور والوجود.
إذن لم يكن هناك حجاب بالمعنى المفهوم اليوم، وكان ضرب الخمار على الجيب وإطالةُ الثوب لدواعي أمنية فرضتها ظروف هذا المجتمع حيث لا شرطة ولا قانون. وعندما تتجول اليوم داخل جامعة القاهرة، أو داخل المترو اليوم ستجد أكثر الإعلانات وضوحًا وتكرارًا هو أن الحجاب عفة وطهارة، وهو إعلان بغض النظر عن عمده لإهانة غير المحجبات واتهامهن بعدم العفة والطهارة، فإنه إعلان يؤذي الإسلام نفسه في أمهات المؤمنين؛ لأنهن وحدهن من ضُرب عليهن الحجاب دون نساء العالمين، وهن بنص الآيات لسن كغيرهن من النساء، فهل كان ضرب الحجاب عليهن لأنهن كن غير عفيفات ولا طاهرات، وهن سيدات الدنيا والآخرة؟ إنهم، وهم بسبيل حجب العقل في بلادنا، لا يتورعون عن التمادي، بعد اختراع ما يُسمى بالحجاب، إلى إهانة أمهات المؤمنين بشعارهم الإعلاني الذي هو بكل المقاييس خطيئة حقيقية من العيار الثقيل، ولا حل معها سوى الاعتراف أن الحجاب لم يُقصد به حماية الأخلاق ولا طلب الفضيلة، فلا يعقل أن تكون نساء النبي أمهات المؤمنين غير فاضلات حتى يجبرهن النص القرآني على التزام الفضيلة بالحجاب، وهن الفاضلات القانتات العابدات المؤمنات أمهات كل المسلمين بما في الأمومة من كل معاني الطهارة والسمو. فإذا انتهينا إلى أن الحجاب كما هو معلن عنه اليوم لم يكن شيئًا معلومًا في ديننا ولا في تاريخ الدعوة والراشدين، وإذا كان المطلوب من المرأة تخمير صدرها فالسوستة والأزرار تقوم مقام ذلك اليومَ، ولم يكن المطلوب تخمير الرأس بحسبانها عادة قديمة لم يقل فيها الإسلام رأيه، وكما أن الزمن قد جعل المسلم يتخلى عن العمامة، وكانت العمائم هي تيجان العرب، كعادة لم تعد مطلوبة؛ فهو ذاته ما ينطبق على تخمير الشعر والرأس بالنسبة للمرأة كعادة انتهى زمنها وبيئتها، ناهيك عن كون الحجاب واللحية لا يغيران القلب ولا يطهران الروح، فإذا كان الدين غايتهم فليحدثونا عما يطرق الروح ويلمس القلب ويطهر النفس، ويأخذ بيد المسلمين نحو الحضارة بدلًا مما يرزحون تحته من تخلف مَقِيت.
إن مشايخ اليوم يفرضون على المسلمات شيئًا مزورًا اسمه الحجاب ويضعونه ضمن فروض الدين، وهي الزيادة في الدين التي يتم بها تعريف البدعة المكروهة. وحتى لو ذهبنا مذهب مشايخنا بالفرض الجدلي، نجد أنهم يفرضون على مجتمعنا فضيلة (إن كانت كذلك) تم وضعها لزمن غير زماننا ولبشر يختلفون عنا ولمجتمع مباين بالمرة لمجتمعنا بالكلية، وفي ظروف غير ظروفنا، ومكان لا علاقة لنا به في عاداته وتقاليده ونظمه من قريب أو بعيد، إلا في كونه مكانًا توجد فيه مقدساتنا الجغرافية ليس أكثر.
إذن، وإعمالًا لما سلف، تصبح المهمة الأهم هي تحصين ديننا عن الانتهازية لكل من أراد مصلحة أو صراعًا سياسيًّا، ليستخدم ديننا في تحقيق مآربه التي عادة ما تكون بعيدة عن الدين وأغراضه ومراميه، بل ربما تكون ضد مصالح بني الله في الأرض من مواطنين بسطاء، ويتم تجييشهم ضد مصالحهم بل وضد مقاصد دينهم بدينهم نفسه، عن طريق المحترفين والوسطاء الانتهازيين الذين لا يرعون لديننا حقه من احترام وتوقير.
ومن أوليات هذا التحصين لديننا من اللعب به، إبعاده عن مزالق الصراع السياسي وآلياته التي لا تحترم أي فضائل، إنما فقط تحترم المصالح التي هي محل الصراع الحقيقي، وضمن هذا التحصين يجب أن نعترف جميعًا أن الفضائل هي منتج الجماعة، وأنها منتج بشري متطورة متغيرة بتطور الزمان وتغير المكان، وأنها منتج بشري وليست منتجًا إلهيًّا؛ لأنها لو كانت ذات منشأ إلهي، لمنحها الله لعباده كجزء من خلقتهم الغريزية، وإما أن الله قد أهمل خليقته فخلقها منزوعة الفضائل ليبلونا ويختبرنا، وفي هذه الحال لن يبقى معنًى لتعبير القرآن {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، كذلك لا يمكن تصور أن الله خلق بني آدم ونسي مسألة الفضائل ولم يتذكرها إلا عند إرساله آخر أنبيائه، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
هذا بينما الفضيلة منتج اجتماعي ينشأ في المجتمع كنتيجة لقصور هيمنة السلطات على كامل سلوك الأفراد سرًّا وعلانية، خفاء وجهرًا. فإن أمكنها السيطرة على السلوك غير المرغوب العلني وردعه وعقابه بقوانين الجماعة، فإن ما يتم فعله في الخفاء هو الأكثر وقوعًا والأكثر ضررًا لسريته، ومع ذلك لا يستتبع ذلك العقوبة المادية القانونية لعدم توفر الأدلة. لهذا قامت الجماعة تصنع لها رادعًا يتم تكوينه في الطفولة مع الأسرة، حيث يبدأ الضمير في التكوين والتشكل وفق ما تراه الجماعة سلوكًا فاضلًا أو رذيلًا ويصبح الضمير المتشكل وفق رغبات الجماعة هو سلطة ردع داخلي معنوية تسير جنبًا إلى جنب مع سلطة الردع السلطوي المادي.
وهذا الرادع المعنوي سيقوم من بعدُ بتمييز الفضائل وفرزها عن الرذائل حسبما عرفها المجتمع ووضع لها مواصفاتها، ويصبح الضمير هو سلطة الجماعة الداخلية كضابط لسلوك الأفراد بما يوافق مطالب المجتمع، ليصبح «ملتزمًا» أدبيًّا ومعنويًّا بدستور خفي ينوب عن المجتمع يتم زرعه في الطفل منذ مولده لصالح المجموع.
ويترتب على هذا أن نفهم أن القواعد الأخلاقية التي تميز الفضيلة عن الرذيلة كانت سابقة للدين في الوجود؛ لأنها نشأت مع أول تشكيلات اجتماعية بشرية في أبسط صورها. وإذا كانت الشرطة هي من يقوم بمراقبة السلوك العلني للأفراد، فإن من سيقوم بمراقبة الضمير لضمان عدم انحرافه لا بد أن يكون بدوره شيئًا خفيًّا كالضمير، ومن نوعه اللاحسي. ومن ثم قامت الجماعات تنسب ما تواضعت عليه من أخلاقيات تحقق مصالحها إلى أربابها الخفية، والتي أهم ما بها هو حماية المجتمع بحماية الفضيلة. فراعي الأخلاق يحب أن يكون من غير طينة المادة، يجب ألا يكون ملموسًا محسوسًا، يجب أن يكون بغير شبيه أو مثيل، ليقوم الخيال البشري بمحاولة تصوره كقوة عظمى يمكنها معرفة ما بداخل الصدور ولا يمكن لأي صورة لهذه القوة أن تتطابق مع صورتها المتخيَّلة لدى فرد آخر، لعدم وجود أي معطيات مادية تساعد على تكوين الصورة المتخيَّلة، لهذا تكون هذه القوة الخفية هي المجهول؛ ولذلك كان مذهب الفيلسوف عمانويل كانط أن وجود الله كفرض نسلم به كضرورة؛ لأن الله هو الضامن للنظام الأخلاقي، وهذا النظام الأخلاقي هو الدال عليه. هذا بينما بشرت السنوات الأخيرة في عمر الإنسانية بظهور فضائل إنسانية عامة لا تنشغل بثواب أو عقاب، إنما هي فضائل نفعلها لذاتها ولجمالها ولخيريتها مع أي إنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو جنسه، فضائل لا تريد مقابلًا سوى وجه الإنسان الكريم. كناتج ضروري لتواصل العالم حتى أصبح قرية واحدة فاحتاجت عقدًا أخلاقيًّا جديدًا يتناسب مع ما وصلت إليه ماديًّا وعلميًّا.
زمان عندما كنا نحن السادة، كنا نفرض على غير المسلمين الغيار والمخالفة في الملبس كي نفرزهم عن المسلمين، وعندما سقطت سيادتنا ولم يعد بيدنا قدرة إلباس العالم كله ملابس نميزه بها عن المسلمين، فقد قررنا من جانبنا التميز بملبس خاص بنا استدعيناه من عمق الماضي لا هو حجاب كحجاب نساء النبي ولا هو خمار كخمار الصحابيات، هو شيء اخترعناه بخلطة هجينة بين شأنين لا يلتقيان. نحن نريد المخالفة في المظهر لإثبات أننا موجودون وأننا متميزون ليس بقدر مساهمتنا في حضارة الإنسان ولكن بالحجاب. هذا ناهيك عن الجانب النفسي الذي يشعر بالفراغ واليتم العالمي، بحيث يشعرون عندما يرون زيهم المتشابه أنهم قوة وهم كثر وأنهم ليسوا وحدهم، وكرمز لكل الفضائل العربية المتعلقة بالشرف والطهارة السلوكية، بغض النظر عن الواقع العملي لهذا الشرف وتلك الطهارة.
•••
إن مشايخنا ودكاترة أزهرنا وجامعاتنا تركوا تفسير الطبري والنسفي وابن كثير والرازي والزمخشري وغيرهم من أعمدة التاريخ الإسلامي بعد ظهور العلم الحديث، واضطُروا إلى محاولة إعادة تفسير نصوص الدين بما يلائم المكتشفات الجديدة؛ مما يعني أن القديم قد أثبت فشله اليوم، فلماذا يصرون على قديم الخمار الذي كان مجرد زي له ظرفه البيئي، ولا يبحثون عن جديد يتناسب مع وضع المرأة في عالم اليوم حتى يجعلوا من الإسلام دينًا عالميًّا حقًّا يقبله الجميع ويناسب الجميع.
الإسماعيليون والموحدون والقرامطة رفضوا تعدد الزوجات وجعلوا الزواج الأحادي هو الشرع الإسلامي السليم، ونحن نضرب بموقف وزير الثقافة حائط الحريات، ونفتي جميعًا بالحجاب كفرض، فنكذب على الله وعلى أنفسنا وعلى المسلمين البسطاء الطيبين، في تجارة سياسية منكرة، كثيرًا ما افترت على ديننا الجميل الواقعي الأكثر اعترافًا بحاجة الإنسان، الذي هو يسر وليس عسرًا.
وعندما تتحول فضائلنا وقيم ديننا إلى مظهر مادي يتمثل في لحية أو جلباب قصير أو حجاب أو خمار أو نقاب، يكون المسلم قد تحول عن الإيمان الصادق إلى الإعلان المنافق، الإعلان عن نفسه أو عن نفسها كأرقى من بقية المجتمع، طالبة من المجتمع الاعتراف بطهارتها ونقاوتها وعفتها وشرفها بسبب هذه القطعة من القماش. وهو حسبما يرى علم النفس لون من الآليات الدفاعية عندما تكون الحقيقة الباطنة غير الإعلان، فلا أحد يدفع عن نفسه جريمة طوال الوقت دون أن يسأله أحد عن جرمه، فإن فعل فسيكون مرتكبًا للجريمة أو مشتهيًا لها لدرجة تحققها الداخلي.
ولأن العمود الأساسي في المبدأ السني الحنبلي هو أنه «لا يدخل ابن آدم الجنة بعمله» إنما يدخلها بأداء الطقوس والالتزام بالمظاهر التعبدية وبرحمة ربك، في حديث منسوب لنبي الإسلام؟! أي بأداء المظهر بغض النظر عن عفن المخبر، والكل يعلم بما يحدث في السر، والكل يتجاهل أنه يعلم، المهم أن تمارس لعبة الإخفاء فلا تقع في جرم مشهود، فيذبحك الآخرون ممن أتقنوا فنون لعبة الخفاء.
وعندما يصبح الالتزام الأخلاقي في بلاد المسلمين وسيلة تجارة وكسب مادي بأن تشتري لسيارتك من «قطع غيار الإسلام» وتأكل في «مطعم الرحمن» وتنتمي إلى «حزب الله» وتشرب «مكة كولا» ملتزمًا بإعلانات لا تستحي لا من الدين ولا حتى من رب الدين. وعندما يصبح الدين في السياسة أو في التجارة، فإن الفضيلة تكون قد ماتت وتعفنت ويكون الضمير قد أصبح جيفة، ويكون رب الدين نفسه، كحامٍ للأخلاق ودالٍّ عليها، قد سئم ما وصلت إليه أحوال عباده، فتركهم حتى يلقوا مصير أمم سادت ثم بادت.