مملكة الأقزام
قضَتْ معاهدة فونتنبلو بتنازُل نابوليون عن عرش فرنسا وحرمان أسرتِه من حقوق الإرث، وتعهَّدَتْ له إزاءَ ذلك أن يكون صاحبَ السلطة المطلقة في جزيرة ألب.
وقد ظنَّ الإمبراطور أنَّه يُسمَح لماري لويز أن تُرافِقَه في هذا المنفى بعد إقامتها حينًا للتداوي في بارم أو بلازانس أو إحدى مدن الاستشفاء في إيطاليا، فاستُشير كورفيزار في ذلك فكان رأيُه مخالِفًا، واضطُرَّ نابوليون أن يُسافِرَ بدونها، يصحبه بعض أعوانه الأمناء وأربعة من ضباط الدُّوَل المتحالِفة لحراسته في الطريق.
وكان الناس يستقبلون الموكب الإمبراطوري أين حلَّ بالشتائم والتهديد، حتى كاد البعضُ يَفْتِك بالإمبراطور عند وصوله إلى أورجون.
فأثَّرتْ مظاهِرُ البغضاء هذه في صحته، وسبَّبتْ له اضطرابًا في المعدة وقيئًا، فاضطُرَّ الموكب إلى البقاء حينًا في فريجوس قبل متابعة السفر.
على أن نابوليون في طريق المنفى لم يكن يَحلُم إلَّا بقضاء بقية العمر في إمارته الجديدة مُنصَرِفًا إلى العلوم والآداب، فكان يُعلِّل النفس بإنشاء مرصد فَلَكي ومعمل كيماوي وحديقة للنبات ومكتبة عمومية؛ ولهذا أرسل برتران يستشير مونج وبرتوله ولابلاي ويطلب منهم اختيار أساتذة وعلماء لكلِّ هذا.
ووصل نابوليون إلى مرفأ فراجيو في ٣ مايو، فكان همُّه الأول بعد الاستراحة أن يمتطي جوادَه ويطوف في مملكته الجديدة، ثم اتَّخَذ تلك النزهةَ عادةً فصار ينهض كلَّ يوم قُبَيْل الفجر ويسير في أنحاء الجزيرة مخترقًا سهولها وحزونها غير مبالٍ بحرارة الشمس المحرقة ولا شاعر بتعب التجوال، حتى قال فيه المندوب الإنكليزي القائم بمراقبته: إنَّه يريد أن يحقِّق الحركة الدائمة، أو إنَّه يَجِدُ لذةً في إنهاك قُوَى مَن يُرافِقه، وإنَّه أبعد مِن أن يقوم بالمشاريع التي عرَّض بها عند وداع فونتنبلو ما دامتْ صحته تُساعِده على الجَوَلان طول النهار ولا تترك له سبيلًا إلى الجلوس والكتابة.
وكانتْ هذه الرياضة البدنية أنفَعَ علاج للإمبراطور بتهييجها وظائف الجلد ومساعدتها على إفرازه، إلا أنَّها لم تَمْنَعْه بعد حين من أن يشكو شدةَ المناخ ويتألَّم منه، فأخذ يتنقَّل من مكان إلى آخَر جاعِلًا مسكنَه حينًا في الجنوب وحينًا في الشمال وآنًا في جهة الشرق وآونة في الغرب، وكان حيث أقام يعمل على تحسين منزله وتجديد ما فيه، حتى إذا تمَّ له ذلك ولم يَعُدْ للجديد من رونق أحسَّ بالملل يتطرَّق إلى فؤاده، فانزوى في غرفته ساعات متواصلة لا يأتي فيها بحركة كأنه محمول على أجنحة الحلم أو مأخوذ بشبه نوم لطيف، على أنَّ صحته لم تتأثر كثيرًا من هذه التقلُّبات، ولم تَبْدُ عليه علائم التَّعَب والانحطاط، بل غاية ما هنالك أنَّه أقلُّ من ركوب الخيل، واستعاضَ عنه بالخروج في مركبته.
كيف كانتْ حياة هذا المنفيِّ العظيم الذي صار مَلِكًا على الأقزام بعد أن مَلَكَ العالَمَ؟!
إنَّه مثَّل دَوْرَه تمثيلًا صحيحًا، فلم يترك حقًّا من حقوق الملك لم يستَوْلِ عليه، ولا واجبًا من واجباته لم ينهضْ إلى قضائه، فكانتِ الجزيرة كقفير النحل تعجُّ بالحركة عجًّا فلا يسمع فيها إلَّا أصوات المطارق بين هدم وبناء، وقد صدرتْ أوامرُه إلى كلِّ جانب بتطهير البيوت والثكنات وتنظيف الطُّرُق والشوارع، وإلْزام السكان بوضْع الأقْذار في آنيةٍ خاصَّة تفرغ في الليل ومعاقبة مَن يطرح من بيته شيئًا في الشارع، ومنع كل غريب من دخول الجزيرة قبل أن يُفتَّش صحيًّا، وتنشيف المستنقعات، ووقاية مياه الشرب، وتشييد أحواض كبيرة يُخزَّن فيها الماء لأيام الحاجة، ومراقبة الأمراض السرية، وهذا يُعلِّم الناس العائشين في الأقذار معنى النظافة، فانتعشتِ الجزيرة بعد الموات وازدهرتْ فيها الحياة، وذاق السُّكَّان للمرة الأولى طعم العيش الرغيد.
وكان نابوليون قليل الثقة بالأطباء إلَّا أنَّه يَمِيل إلى الطب ويهتم بكل ما يتصل به، فلم تُحرَم المستشفيات نصيبًا من عنايته، بل كان يؤمُّها كلَّ صباح فيَصِل أحيانًا قبل الطبيب، وكان يستفهم عن كل داء وعن طريقة مداواته، ويُظهِر تفضيلَه لوسائل العلاج البسيطة على غيرها.
وكانتْ لجنة الإدارة تجتمع مرتين في الشهر لتجمع المعلومات اللازمة وتُطْلع المليك عليها وعلى كل ما يحدث في المستشفى، وقد بلغ من اهتمامه بالصحة والمستشفى العسكري أن حبَّب إليه بقيةَ المرضى الذين كانوا في المستشفى المدني، فطلبوا الدخول إليه، وانتهى الأمر بإقفال هذا الأخير.
هذه الحياة المملوءة عزمًا ونشاطًا وإبداعًا، وهذه القوة التي كانتْ تُنفَق بلا حساب في هذه القطعة الحقيرة من الأرض فتحتْ لبعض الإنكليز والفرنسويين من أتباع لويس الثامن عشر بابًا جديدًا للسُّخْرية والتشفِّي، فمَلَئوا الأرضَ نشراتٍ وصُوَرًا تمثِّل نابوليون في حالات مضحكة ومخزية؛ هذا يُسمِّيه البهلوان الذي يُقلِّد محمدًا والذي يحكم اليوم على العبيد والقِرَدة، وذاك يُصوِّره قزمًا مُحاطًا بكلِّ أحدب وأعرج، وقد أمر بتعبئة جيش ضخم قوامه ثلاثون رجلًا، أو مشى للنزهة على الشاطئ بثياب روبنسون وعلى رأسه قبعة من الفرو وفي يده مظلة وعلى كتفه ببغاء هي نسره المهيض الجناح.
أمَّا هو فلا ريب أنَّه في أعماق نفسِه كان يتألَّم كثيرًا لهذا السقوط الهائل، والذي زاد في جراحه هو بُعْدُه عن ماري لويز التي كانتْ لا تزال تملأ قلبَه، وقد كتب لها مِرارًا من الجزيرة، ولكنَّها كانتْ تعتذر بانحراف صحتها ناسيةً واجباتِها الزوجية، مشغولةً عنه بالحب الأثيم الذي علق بقلبه بها شراره.