آخِر مراحل العذاب
ليس بين أيدينا كتابٌ يشرَح بالتفصيل حالةَ السجين العظيم في أعوامِه الأخيرة، ويذكر لنا التطوُّرات التي تقلَّبتْ فيها صحته منذ أخذ الداء يَظهَر فيه بأجْلى مظاهِرِه. نعم، ثمة تقارير الحلفاء لمندوبيهم القائمين بمراقبته، ولكنها لا تحوي كلَّ الحقيقة؛ لأنَّه لم يكن يسمح لهم بمواجهته، وكلُّ ما فيها قائمٌ على الإشاعات والأخبار الدائرة على الألْسُن.
والذي يمكن استنتاجُه من كلِّ ما قيل عنه أنَّ هذه التطوُّرات ابتدأتْ في سنة ١٨١٦، فقد ذكر مونتولون أنَّ الإمبراطور كان في يوليو من تلك السنة يتألَّم شديدَ الألم من أعصابِه ومن الصُّداع، حتى كان لا يَقْوَى على العمل.
وأراد هدسون مقابلتَه في أول أكتوبر فرَفَض بدعوى المرض أو التمارُض، ولم يخرج في غداة ذلك اليوم، وفي ٢٤ منه أبى أيضًا أن يستقبل أحدًا، ولَمَّا رأَوْه بعد يومَيْن كانتْ لثته ملتهبةً وعلى شفتيه بعض البثور الناتجة عن الحُمَّى، ولم تمنع هذه الأعراض الواضِحة مندوبَ النمسا أن يكتب إلى مترنيخ: «لا يزال بونابرت بتمام العافية، يأكل كثيرًا ويسمن.» وبديهيٌّ أن يسمن رجلٌ قضى عُمرَه في الحركة ثم مُنِعَتْ عنه دفعةً واحدةً، وكان يقول لِمَن يُذكِّره بضرورة الرياضة والخروج للنزهة في العَراء: «إنَّكم لا تفهمون شيئًا عن صحتي، فأنا شاعرٌ بالحاجة إلى الرياضة، ولكن رياضة صحيحة طويلة أقطع فيها الأميال، لا دورة محدودة حول هذا البستان الصغير نتيجتها احتقان في رأسي وألَمٌ في مفاصِلي.»
وكان يَمِيل إلى الركوب في بادئ الأمر، غير أنَّ وجود ضابط إنكليزي على أعقابه جعله يكره ذلك، فاكتفى بالحركة داخل البيت: تارةً يلعب بالبلياردو، وطورًا يترجَّح على جوادٍ من خشبٍ صنَعَه خصوصًا لذلك.
وفي عام ١٨١٧ زادتْ آلامه وقلَّ نومُه وأصابه وَرَمٌ في رجلَيْه وخَوَرٌ في أعصابه وتَعَبٌ في عضلاته، فكان يقول لمونتولون: «إنَّ دمي سيقتُلُني، ففي النفس حاجةٌ عظمى إلى الحركة والتَّعَب، ولكن أنَّى لي ذلك؟! وهدسون يخترع كلَّ يوم سببًا جديدًا لمَنْعي من الركوب.»
لا ريب أنَّ الذي مهَّد السبيل إلى هذا الانحطاط السريع الهائل في صحة الإمبراطور هو الإقامة في جزيرة القدِّيسة هيلانة ومعاملة هدسون القاسية، فإنَّ هذا الحاكم كان ضَيِّق الإدراك، فلم يَدَعْ سببًا من أسباب الاضطهاد والجاسوسية إلَّا أخذَ به، وحوَّل الجزيرة بالمدافع وحراسة النسافات إلى سجن يقتُل العافيةَ كما يقتُل الأمل، أضِفْ إلى ذلك فسادَ الهواء في تلك الناحية، فقد كانتْ آثارُه السيِّئة باديةً على كلِّ وجه، حتى قال أوميرا: «إنَّه من المستحيل أن يعمر إنسان في هذه البقعة من الأرض، وإنَّ منظر امرأةٍ عجوزٍ فيها لَمِن الأمور الخارِقة العادة.» وقد شكا سوء المناخ كلُّ مَن في حاشية الإمبراطور ما عدا برتران، حتى إنَّ أولاد هذا أصابَهم من الحُمَّى والضَّعْف ما كانوا منه على شفا خطرٍ، وقد سبق لنابوليون قبل المنفى أنْ عانَى الإجهادَ، فلم يرزح تحتَه واتَّفَق له غير مرة أن تناول من الطعام ما لا يُلائم معدتَه، وأن أكل بلا نظام دون أن يشعر بأذًى، ولكن مناخ الجزيرة واضطهاد حاكمها قد غلباه على أمره وساعدا على إظهار الداء قبل أوانِه.
ومُنِيَ نابوليون بالإسهال والدوسنطارية، فقلق مندوبو الحلفاء وطلبوا من هدسون أنْ يسمَحَ لهم بمقابَلتِه فأبَى.
وتحسَّنتْ صحتُه بعد ذلك فمضتْ عليه أسابيع دون أن يشكوَ ألَمًا، ثم عاودتْه الأعراض بشدةٍ من وَرَم ووَجَع وعُسْر بول، وكان مقر الألم في الجانب الأيمن من المعدة وفي الكتف اليمنى يصحبه أحيانًا خفقان القلب الشديد، فشخَّص أوميرا الْتهابًا في الكبد، ولم يُحاوِل إخفاء رأْيِه عن عليله، بل ترك الفكرة تتسرَّب إليه شيئًا فشيئًا وهو يُعالِجه بالمسهِّلات والمقرِّفات وحمَّامات البحر، ولَمَّا رأى نابوليون أنَّ كل هذه الوسائل لم تُجْدِ نفعًا بدأ الحزن يفعل فيه والخمول يتسلَّط عليه، فعاف الكتابة والتأليف، وصار يميل إلى الوحدة، وتمشَّى التَّعَب في مفاصله، والانحلال في أعصابه، وأصبح لا حديث له إلَّا الموت، فكان يقول لمونتولون: «أنتظر الموت صابرًا فهو مُنقِذي الوحيد من هذا العذاب.»
وكان الجفاءُ قد بلغ حدَّه الأقصى بين أوميرا وهدسون؛ لأنَّ الطبيب أبى أن يكون جاسوسًا للحاكم، فجاء ذلك ضِغْثًا على إبَّالة؛ لأنَّه أفْضَى إلى عزْل أوميرا ووَضْعه تحت المراقبة ثم تسفيره سنة ١٨١٨، وصار نابوليون في حَيْرةٍ شديدة؛ فإمَّا أن يَقبَل الأطباء الذين يُعيِّنهم سجَّانه، وإمَّا يَبقَى بلا معونة طبيب، وكانتْ أوجاعُه تتزايَد يومًا بعد يوم، وقد خفَّتْ فيه شهوة الأكل، وساوَرَتْه فكرةُ الخوف من أن يموت مسمومًا فامْتنع عن كل دواء، وصار مونتولون يقضي اللياليَ إلى جانبه مواسيًا ومعزِّيًا، فيضع الكِمَادة الساخِنة على معدته، وهو يَشهَد عن كثب دبيبَ الداء، ويرى آثارَ فتْكه في اصفرار الإمبراطور وهُزالِه، وفي عينيه الغائرتين ورجليه اللتين لم تعودا قادرتين على حمله.
وبقِيَ على هذه الحال بدون معالجة من شهر يوليو سنة ١٨١٨؛ أي منذ سفر أوميرا إلى يناير سنة ١٨١٩، وكلَّما عرَضَ عليه هدسون لو طبيبًا رفضَه نابوليون بحجةِ أنَّه ضعيفٌ مُضطَهَدٌ فلا تكون تقاريره صادقة إلَّا بقدْر ما تُرضي الإنكليز. كان هدسون يقول: إذا كان بونابرت لا يَقبَل مَن أُعيِّنه من الأطباء فلأنَّه مُتَمارِضٌ ويخافُ أن تُكشَف حِيلتُه.
وفي ذات يومٍ أصابتِ العليلَ نوبةٌ شديدةٌ غاب فيها عن الوعي، فاختار أصحابُه طبيبًا من بين الأربعة الذين عرَضَهم «لو»، وهو الدكتور ستوكه مفتش البحرية الملكية، وأرسلوا في طلَبِه مستعجِلين، فلمَّا وصل كانتِ النوبة قد زالتْ واستَوْلى على المريض نومُ الراحة، فلم يتسنَّ له أن يراه، ولكن برتران حادَثَه حينًا وعرَضَ عليه أن يقوم مقامَ أوميرا بمُعالَجة مولاه، فأبى خوفًا من أن يُصِيبه ما أصاب زميلَه من اضطهاد الحاكم، ثم لانَ بعد اللُّتَيَّا والتي وقَبِل تولِّي هذه الوظيفة.
وجاء تشخيص ستوكه للعلة مطابقًا تشخيص أوميرا، بل زادَ عليه أن المناخ هو العامل الأكبر في مرض الجنرال بونابرت، فكان هذا الاعتراف شكوى صارخةً ضد الحكومة الإنكليزية عادتْ عليه بسوء المَغبَّة؛ إذ أرسَلَ له الأميرال بمغادرة الجزيرة حالًا والمثول أمام محكمة عسكرية.
وكانتِ التُّهَم الموجَّهة إلى الطبيب ستوكه عشرًا، منها أنَّه تحدَّث مع الجنرال وحاشيته فيما هو خارجٌ عن موضوع الطب، وأنَّه في تقريره الأول سَمَّى الجنرال بغير ما تقرَّر تسميته به فدعاه «المريض» في حين لم يكن هدسون لو يعترف بمرضه، وبعد مُرافَعة أربعة أيام حكم على ستوكه بشطب اسمه من البحرية وإنزال معاشه إلى ٢٥٠٠ فرنك في العام، ولكن نابوليون كان قد نفَحَه من قبل بما رأى فيه التعويضَ الكافي، فضلًا عمَّا وقَفَتْه له الوالدة وبعض أعضاء الأسرة الإمبراطورية.
وقد جاء هذا الحكم مثبِّطًا للعزائم ونذيرًا لكلِّ طبيبٍ يريد أن يُحافِظ على الذمة والضمير، فإمَّا أن يقول الحقيقةَ فيتعرَّض لغضب الحاكم وانتقامِه، أو يُعلِن أنَّ بونابرت ليس مريضًا وإذنْ فلا حاجة إلى معالجته.
وغضب مندوب النمسا وروسيا لهذه المعامَلة، فاحتجَّا بشدة، وأنذرا الحاكمَ أنَّه إذا قضى الإمبراطور نحبَه فهما لا يتحمَّلان تَبِعةَ ما ينتج عن ذلك من القيل والقال.
كلُّ هذا وهدسون لو باقٍ على عنادِه واعتقادِه، فلا يَحِيد قيدَ شعرةٍ عن الخطة التي اختطَّها لنفسِه في معاملة أسيره فاتحًا بتصرُّفه بابًا واسعًا للأخبار الكاذبة والإشاعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكان سُكَّان الجزيرة يقولون تارةً: إنَّ نابوليون صار راعيًا واشترى أجمل الأغنام وهو يتسلَّى بإطعامها بيدِه، وقد وضَعَ في أعناقها أجراسًا كي لا تضيع بين الصخور. وطورًا: إنَّه يخرج للتنزُّه في لباس الصباح وعلى رأسه عمامة حمراء وفي يمناه عصا البلياردو وفي يسراه نظارة تقرِّب الأبعاد، والويل لِمَن يجسر أن يدَّعي أنَّه عليل.
وبقيتْ مسألة طبيبِه مشكلةَ المشاكل، وكلَّما عرض الحاكم واحدًا رفضَ نابوليون مقابلتَه إلى أن جاء الجزيرةَ الدكتور أنتومارشي مُوفَدًا من قِبَل الوالدة وعمِّه الكردينال.
جاء أنتومارشي فكانتْ زيارته الأولى للحاكم الذي أحسَنَ استقبالَه وانتهز الفرصة لإقناعه أنَّ مرض السجين ليس إلَّا خِداعًا، وقد كفَتْ هذه الزيارة ليجعل الإمبراطور ينظر إليه بغير عين الرضا، إلَّا أنَّه أغْضَى الطرفَ أخيرًا عندما عَرَف أنَّ في حقيبة أنتومارشي كتبًا من تأليف أوميرا وفيها طعنٌ بهدسون لو.
وساعَدَ على الرضا تحسُّن صحته فجأةً، فأخذ ينزل إلى الحديقة ويشتغل بيدَيْه في غرس الأشجار وسقْيِ الأزهار مسرورًا بما تجلبه له هذه الرياضة من لهْوِ الخاطر وتناسِي الحاضِر، فعادتْ إليه شهوة الأكل وانقشع عنه ضباب الأسَى والسوداء، وخفَّ أرَقُه وسكن هياجُه، إلَّا أنَّ ذلك لم يَطُلْ، فما عتَّم الداءُ أنْ أعادَ الكرَّةَ عليه بشدةٍ، وقَوِيَ الألم في معدته، وكان هذه المرة أشبه بطعن المُدْية، ولم تُفِدْ معالجتُه أنتومارشي، بل كانتْ تزيده تأجُّجًا بما كان يُعطِيه من المقيِّئات والمسهِّلات حتى صاح نابوليون الغوثَ من هذه الأدوية، وسأل طبيبَه أن يُبعِد عنه كأسَها القاتل، ولكن أنتومارشي لم يسمع شكواه، ولم يفهم وظلَّ على غيِّه في وصْفِها وتدبيرها إلى أن تذكَّر نابوليون أنَّ كورفيزار أشار عليه يومًا في حالٍ مثل هذه أن يستعمل الكَيَّ، فقال للطبيب في ذلك، ففضَّل هذا «الحرَّاقة» على الكي، فقال له العليل المسكين: «ألَا ترى إذنْ كفايةً في تعذيب هدسون لي؟! فاعمَلْ ما بدا لك.» ولكن أنتومارشي كان يَجهَل حتى طريقة وضع «الحرَّاقة»، فلم يَقْطَعْها بالشكل الموافِق، ولم يحلق الشعرَ في الموضع الذي اختاره لها، فلمَّا عاد في اليوم التالي ليَرَى فعلها استقبَلَه نابوليون باللَّوْم والتقريع قائلًا: «ليس من العدل أن يُقضَى عل مسكينٍ مِثْلِي بهذا الوجْه! فأنت جاهلٌ، وأنا أجهل منك لقبولي علاجك.»
وفي رأس عام ١٨٢١ أراد الإمبراطور أن يستقبل «هيئة بلاطه»، فلم يَقْوَ على ذلك، وجرَّبَ بعد ذلك ركوب الخيل فعاد بعد ساعتين منهوك القُوَى، وكان يقوم في الليل ويشرب ليموناده «لإطفاء النار المتَّقِدة في أحشائه»، وعند الصباح يزوره أنتومارشي كالعادة فيكتب له الدواء ويَعِدُه بعجائبه الموهومة، وكلَّما جرَّ الحديث إلى استشارة طبيب آخَر كان الجواب التسويف حتى شهر آذار، فجاء الدكتور أرنولت وقال لمونتولون: «لا أعلم ما ينتظرني، ولكني أَعِدُك إذا تشرَّفتُ بمقابلة الإمبراطور أن أتصرَّف كجنديٍّ لا يُطِيع إلَّا ضميرَه والشرف.»
ولم يكن أنتومارشي يَجهَل إحساساتِ الإمبراطور نحوَه؛ لأنَّه لم يعرف أن يكتسب ثقتَه لسوء تصرُّفه وإهمالِه وجهلِه، فطلب مغادرةَ البلاد، وعاد أخيرًا فرضِيَ البقاء واعدًا أن يكون أكثر يقظة وعناية واهتمامًا.
وأصبحتْ تغذية الإمبراطور صعبةً؛ لأنَّ معدتَه كانتْ تلفظ كلَّ ما يدخل إليها، وكان القيء هذه المرة أسودَ بما لم يَبْقَ معه ريبٌ في طبيعة الداء، ولكنَّ أنتومارشي بعيدٌ عن أن يَفهَم أو يرى في علة الأمراض غير الْتِهاب الكبد، فأشار باستعمال طريقة «أليبر» المشهور لذلك العهد، فطلب نابوليون كتاب أليبر واطَّلع على ما فيه فإذا الطريقة استعمال الليمونادة مع المقيِّئ فقَبِل بتجربتها فكانتْ وَيْلًا عليه.
لم يَبْقَ للإمبراطور حينئذٍ إلَّا الرجوع إلى عادته القديمة وهي الحمية واستعمال المغاطس والشراب المبرد، ولكن الداء كان يمشي بسرعة هائلة حتى أُمِيطَ الحجاب عن بصَرِ الحاكم، فآمَنَ بمرض الإمبراطور، وعرض عليه ما شاء من الأطباء.
وأخذت النوب تتكرَّر من ألم وغيبوبة وهذيان، وقد سَمِعَه مونتولون في الليلة الأخيرة يذكر فرنسا والجيش وجوزفين، ثم رآه يَنهَض من سريره مندفِعًا بسرعةٍ فحاول ردَّه فلم يُفلِح، بل شعر أنَّ تهيج الإمبراطور قد أعطاه قوةً خارقة العادة، حتى رمى مونتولون على الأرض وشدَّ عليه الخناق، وكان أرشمبلولت في الغرفة المجاورة فأسرع عند سماعه الجلبةَ وساعَدَ مونتولون على إرجاع المريض إلى سريره، وأقبل بعد ثوانٍ المارشال واشومارش، وكانت العاصفةُ قد هدأتْ، وبعد حينٍ أشار إليهم بيده يريد ماءً، فقدَّموا له إسفنجة مبلولة لأنَّه لم يعد يستطيع البلع.
وطلعتْ عليه شمس اليوم الخامس من شهر مايو وهو في حالة النزع الشديد، وآذنتْ بالمغيب وهو يلفظ آخِر أنفاسِه.