من سنة ١٨٠٣ إلى ١٨١٠
وفي ١٢ أكتوبر سنة ١٨٠٥ كتب إلى جوزفين من أوكسبورغ أنَّه بخير على الرغم من فساد الجو واضطراره إلى تغيير ثيابه مرَّتَيْن في اليوم لكثرة المطر.
ثم كتب لهما بعد أيام أنَّه أُصِيب بانحرافٍ يَسِيرٍ لوجوده طول النهار في الماء، ولكنَّ راحةَ يومِه أَنْسَتْه كلَّ عناء.
وفي ٣ ديسمبر من تلك السنة كتب يُخبِرها أنَّه قهَرَ الجيوش النمسوية والروسية بقيادة الإمبراطورين، وقد تَعِبَ قليلًا لإقامته تحت المضارب ثمانيَ ليالٍ باردة ومُنِيَ برَمَدٍ بسيطٍ عالَجَه بماء الورد الفاتر فشُفِي منه بعد ثلاثة أيام.
وفي سنة ١٨٠٦ كان السِّمَن قد أخَذَ سبيلًا إلى بدَنِه فخفَّتْ مقدرتُه على احتمال حياة التنقُّل، ففي ٢٧ سبتمبر بينما كان في مايانس مع الإمبراطورة وتاليران أصابَه عند الوَداع ضَعْفٌ فجائيٌّ فضَمَّ بذراعَيْه جوزفين وتاليران معًا، وأخذ يُخاطِبهما بكلامٍ ملؤُه حنوٌّ حتى أبكاهما، وما كان الدمع ليُسكِّن نابوليون، بل انتهى بنوبةٍ عصبيةٍ شديدةٍ من تشنُّجٍ وقيءٍ، حتى إذا ثاب إلى نفسِه أفْلَتَ منهما وأمر بالرَّحيل.
وفي ١٣ أكتوبر أرسل إليها يقول: لقد نحلْتُ في هذه السفرةِ، ها أنا ذا أقطعُ كلَّ يوم عشرين ميلًا راكبًا، أنام الساعة الثالثةَ وأنهضُ نصفَ الليل فأفتكر أنَّكِ في هذه الساعة لا تزالين مستيقظة.
وفي غدِ اليوم الذي خطَّ فيه هذه الكلمات جَرَتْ موقعةُ يانا الشهيرة، فكتب إليها وكانتْ في مايانس مع الملكة هورتنس والأميرة ستفاني: لقد انتصرتُ انتصارًا باهِرًا على البروسيان يا صديقتي، وكاد الملك والملكة يَقَعانِ في أَسْرِي، ثم أعْقَبَ هذه الرسالةَ في اليوم التالي بمثلها: لقد صدقَ تدبيري فقهر جيش العدوِّ كلَّ القهْر، ولم يبقَ إلَّا أنْ أقولَ: إنَّني بخير، وإنَّ التَّعَب والسهر ونوم الخيام قد أكسبني سمنًا.
وفي ٢٨ نوفمبر أخْلَى الرُّوس فرسوفيا فدخَلها مورا وأقام هو في بوزن أو بولزانو كما يُسمِّيها الطليان اليوم، ومنها كتب يُخبر جوزفين أنَّه حضَرَ ليلةً راقصةً كان فيها كثيرٌ من النساء الغنيات الجميلات، وكنَّ لا يُحْسِنَّ اللُّبْسَ على الرغم من أنَّ الأزياء باريزية.
وهكذا لم يكن يمضي يومٌ دون أن يخطَّ إلى زوجته قبل النوم ولو سطرًا يشركها به في تأثُّراته، وقد يُوجِز ما أمكن الإيجاز، ولكنَّ كلماتِه كانتْ تتَّقِدُ شوقًا وغرامًا، كما ترى من الرسالة الآتية: «كنتُ في المرقص، ليلةً ماطرة، صحتي حسنةٌ، أحبُّك وأذوبُ شوقًا إليك، كلُّ نساء بولونيا فرنسويات، ولكنْ في نظري لا يوجد إلَّا امرأةٌ واحدةٌ، أتعْرِفينها؟! ما أطولَ الليالي بعيدًا عنك! أرجو أنْ أدْعُوَكِ إلى موافاتي عند سنوح الفُرْصة، إنَّ حرارة كلماتِك أرَتْني أنَّك لا تَعْرِفين الموانِعَ، وما تُرِيدُه المرأة يكون، أمَّا أنا فإنِّي عبدٌ ومَوْلاي لا يَعرِفُ الرحمةَ، وهو طبيعة الأشياء.»
وكان حبُّه لجوزفين قد تجدَّد كأنَّه في الزمن الأول، وكلُّ رسائله تَنِمُّ عن حالةٍ نفسية حسنةٍ، وهي دليلٌ على الصحة، كما كان يقول: أنا بخير، وعُمْري ما نعمتُ بالصحة مثل الآن.
وفي ١٨ مايو كتب يقول: إنَّه وصل إلى درسد بصحةٍ تامةٍ على الرغم من بقائه في المركبة مائة ساعة دون أن يتحرَّك.
وقد رَوَى الكونت سيكور في مذكِّراته أنَّ نابوليون ابتدأ يشعُرُ بآلام المعدة وهو في فرسوفيا من سنة ١٨٠٦، وكان يقول إنَّه سيموت كأبيه، إلَّا أنَّ هذه الغمامة السوداء سرعان ما تبدَّدَتْ لأنَّ رسائله لذلك العهد تُشِير إلى شيء من هذا.
وفي ٩ أكتوبر سنة ١٨٠٨ أرسل إليها يقول إنَّه شَهِدَ الرقْصَ في فيمار، وقد رقص الإمبراطور إسكندر، أمَّا هو فقد بلغَ حدَّ الأربعين؛ ذلك لأنَّه أخذَ منذ ذلك الحين يشعُرُ بالكِبَرِ المُبَكِّر فانتفَخَ وجهُه، وخفَّتْ حِدَّةُ بصرِه، وتجعَّدَ جبينُه، واستدارتْ ذقنُه، وسَمِنَ بدنُه، وثقُلَتْ حركاتُه، وفقَدَ سرعةَ الخاطِر وتلك الطلاقةَ في اللسان.
وفي ١٨ أكتوبر عاد إلى سان كلود فلم يمكُثْ طويلًا لقُرْب حملة إسبانيا والنمسا، وبعد شَهْرٍ جُرح في راتيسبون فآساه الجرَّاح إيفان، وكان الألَمُ شديدًا؛ لأنَّه لم يخلَعْ حذاءَه منذ ثلاثة أيام فتورَّمَتْ رجْلُه تحت الضغط، وكان قليل الصبر، فاعْتَلَى جوادَه ورجلُه المجروحةُ لا تَزَال في يدِ الجرَّاح، ثم سار بين الجنود يُرِيهم نفسَه ليَطْمَئِنُّوا فقابَلوه بالتصفيق والهتاف.
ووصَلَ الخبر مجسَّمًا إلى زوجته فكتب لها مُطَمْئِنًا أنَّ الرصاصةَ أصابتْه دون أن تجرح، فلا سبيلَ إلى انشغالِ بالِها، وكتب مثلَ ذلك إلى ابنةِ عمِّه مَلِكة وستفاليا.
وبعد افتتاحِه راتيسبون بأسابيع تعرَّض لخطرٍ جديدٍ، فإنَّ رصاصةً أصابتْه في رجْلِه فخرَقَتْ حذاءَه حتى الجلد، وكانتْ سببَ تلك الكلمةِ التي قالَها له أحَدُ قُوَّادِه: انْسَحِبْ من هنا، وإلَّا أمرتُ رجالي بحَمْلِك. وأصابتُ رصاصةٌ أخرى فَخِذَ جوادِه فصاحوا جميعُهم: إنْ لم يَنْسَحِبِ الإمبراطور حالًا فإننا نضَعُ السلاحَ ونكفُّ عن القتال.
وكان قبل ذلك قد أحسَّ وهو في شنبرون باعتلالٍ فأشاروا عليه أن يَرَى الدكتور فرانك الشهير، وقد رَوَى نابوليون عن نفسِه سنة ١٨١٦ حكايةَ هذه الاستشارة الطبية، ومنها تتجلَّى للقارئ حالتُه الصحية سنة ١٨٠٩، وتُعْطِيه دليلًا صادقًا على مزاجه:
وقد زعم البعضُ — وفيهم البرنس نابوليون حفيد الإمبراطور — أنَّ البُثور التي ظهرتْ في رقبة عمِّه ناتجةٌ عن احتكاك الجلد بنسيج السُّتْرة القاسي، وظنَّ بعضُهم أن مُعالَجَتها هي التي سبَّبتْ له ألم المعدة، وأنَّه يكفي تهييج الجلد وإرجاعُها لتذهب الأعراض الخفيفة، ولكنَّ ذَهاب الأعراض ليس دليلًا على ذَهاب العِلَّة؛ ولهذا كان شفاء نابوليون شفاءً ظاهرًا، هل يُستنتَج من هذا أنَّ كورفيزار أخطأَ في مُعالَجته أو أضرَّه كما أشاع البعض بتعجيل سير الدَّاء؟ إنَّ الدكتور فرانك ابن فرانك الشهير ادَّعى ذلك، وقال: إنَّه شاهَدَ غيرَ مرَّة بين سكان لومبارديا مَن أُصِيب بسرطان في المعدة بعد التداوي من العِلَل الجلدية، فيكون الإمبراطور بدعوته كورفيزار ليقوم مقام الطبيب الألماني كالمُستَجِير من الرمضاء بالنار، ولا يَخفَى ما في هذا من المُبالَغة ولسنا هنا في مقام الدفاع عن كورفيزار، ولكن ما لا ريب فيه أنَّه كان أعلَمَ من زميله الغريب بمزاج مريضه الشهير واستعداده وحالته الصحية، ومن المستحيل أن تكون مُعالَجته قد قدَّمتْ أو أخَّرتْ في سير عِلَّةٍ مجهولة في طبيعتها وفي أعراضها.