الفصل الخامس
ذاب ثلج الفريزر، فأفرغت محتوياته، ونظفته جيدًا بالماء الدافئ
والصابون، ثم جفَّفتُه. استخرجتُ صندوق الخضراوات الزجاجي من قاع
الثلاجة. ألقيتُ بمحتوياته في القمامة، وأزلتُ العفن المنتشر في
أركانه، ثم وضعتُه تحت الصنبور. غسلتُه جيدًا، واستأنفتُ تنظيف
الثلاجة، العملية التي يواظب عليها اثنان فقط هما أنا وهايدي، ويتهرَّب منها الباقون بحُججٍ
مختلفة أهمُّها عدم تربيتهم على القيام بالأعمال المنزلية.
انتهيتُ من تنظيف الثلَّاجة وتجفيفها. فأعدتُ إليها محتوياتها،
وأغلقتُها، وأوصلتها بالتيار الكهربائي، ثم جفَّفتُ الأرض أسفل الثلاجة
والحوض، ومضيتُ إلى غرفتي، ولحظت أن جيراني في الشقة لم يفِدُوا
بعدُ.
رفعتُ الصورة التي انتهيتُ من طباعتها في الضوء. كانت باهتةً للغاية
ضعيفة التباين. كما ظهرَت بها بعض فقاعات الهواء. وضعتُها جانبًا
وتناولتُ النيجاتيف ورفعتُه في الضوء. لم تكن المشكلة في التصوير ولا
في التحميض. قرَّرتُ أن أُعيد الطباعة مع تغيير نوع الورق وتعديل كثافة
محاليل الإظهار والتثبيت.
أغلقتُ باب الغرفة بالمفتاح، وأطفأتُ النور بعد إضاءة المصباح
الأحمر. شغَّلتُ المكبِّر وأحكمتُ وضع العاكس. اخترتُ ورقة من النوع ذي
السطح المصقول. وبعد ١٠ ثوانٍ تحت المكبر وضعتُها في صينية الإظهار.
قلبتُها بالملقاط حتى بدأَت ملامح وجه هايدي تتضح.
طُرق الباب وسمعتُ صوت نبيل:
العشاء جاهز. سمك مدخن.
صحتُ: بعدين.
نقلت الصورة بالملقاط إلى محلول التثبيت. وبعد عشر دقائق أخرجتُها
ووضعتُها في صينية المياه، ثم حملتُ الصينية إلى الحمَّام وعرَّضتُها
للماء الجاري أسفل الصنبور.
كنتُ أرى من مكاني رفاقي الأربعة مجتمعين حول طاولة غرفة المعيشة
يتناولون عَشَاءهم. خاطبتُهم بالألمانية وأنا أقلِب الصورة: خذوا بالكم
يا جماعة عندما تستخدمون الصنبور.
تركتُ الصينية تحت الماء الجاري وعُدتُ إلى الغرفة. نظَّفتُ لوح
التجفيف المعدني جيدًا بفوطةٍ ناعمة، وأوصلتُه بالكهرباء حتى سرَت فيه
الحرارة.
تأكَّدتُ من مرور نصف ساعة، ثم أحضرتُ الصينية بعد أن أفرغتُ مياهها.
جعلتُ جانب الصورة الذي تم إظهاره إلى أسفل وأمسكتُها من زاويتَين
متقابلتَين. وضعتُ وسطها أولًا، ثم تركتُها تنبسط إلى الناحيتَين كي لا
تتبقى فقاعات هواءٍ تحتها.
ضغطتُ الصورة على اللوح بأسطوانةٍ مطاطية لطرد الجيوب الهوائية. بعد
حوالي ٥ دقائق قفزَت الصورة من تلقاء نفسها. وجدتُها أكثر نقاءً واضحة
التباين، وبدا وجه هايدي مضيئًا وقد
أحاطت به ظلالٌ قاتمة، أضفَت عليه مسحةً من الغموض.
وضعتُ الصورة جانبًا وخرجتُ إلى الصالة. كان نورها مُطفأ وقد انزوى
عدنان وهيلدا في غرفتهما. وجدتُ نبيل وهايدي في غرفة
المعيشة يشاهدان التليفزيون، فانضمَمتُ إليهما، وجلَستُ أمام الطاولة
التي حملَت عَشائي. كان نبيل يرتدي
بيجامة، أما هايدي فكانت في بلوزةٍ
ملوَّنة بأكمامٍ طويلة وبنطلون من القطيفة الاصطناعية برتقالي
اللون.
أكلتُ شارد الذهن، ثم حملتُ طبقي إلى المطبخ وغسلتُه. عدت إلى غرفة
المعيشة وجلست إلى جوارهما. كان التليفزيون يعرض فيلمًا بلغاريًّا عن
معسكر اعتقال أيام الاحتلال النازي، وتابعتُ المعتقلين وهم يهتفون في
هستيريةٍ بحياة ديمتروف الزعيم
الشيوعي الشهير. نهضَت هايدي
وتقدَّمَت من الجهاز وحوَّلَت مفتاحه إلى القناة الغربية، فطالَعنا
سيلًا من الإعلانات، تبعَها فيلم رسومٍ متحركة لمخرجةٍ تشيكية
معروفة.
شردتُ متخيلًا فيلمًا يتألف من ديكوراتٍ كاملة لأحد العصور
التاريخية، يتحرك فيها ممثِّلون من البشر بعد تصغير صورهم للغاية بحيث
يبدون كالأقزام كما في فيلم «الأميرة والأقزام السبعة» مثلًا. يمكن
لمثل هذا الفيلم أن يقدِّم مفهومًا حديثًا للتاريخ، وأن يسخر من
تطوُّراته، فضلًا عن الجو الساحر الذي يُشبِع الحس الطفولي لدى
المشاهدين.
انتهى الفيلم وشعرتُ بالعطش، فخرجتُ إلى الصالة لأُحضر زجاجةَ بيرة
من المطبخ. ودقَّ جرس الباب عندما كنتُ بالقرب منه، ففتحتُه متعجبًا
لتأخر الوقت. وجدتُ أمامي هلمي
أليم.
رحَّبتُ به. وارتفع صوت هايدي من
خلفي تشاركُني الترحيب بالزائر غير المتوقَّع.
قال هلمي في ارتباكٍ: آسفٌ على
الوقت المتأخر. كنتُ في زيارة بعمارة العزَّاب وفكَّرتُ في المرور
عليكم.
أفسحنا له كي يدخل. خلع معطفه كاشفًا عن بزَّةٍ كاملةٍ بالصديرية
والكرافت. وعلَّقتُه على المِشجَب ثم أضفتُ إليه الملحقات المعهودة؛
الكوفية (من صوفٍ فاخر) والقفَّاز (من الجلد الثمين المبطَّن بالفراء)
والقبَّعة الروسية (من الفراء الطبيعي).
قُدناه إلى غرفة المعيشة. وأشرتُ إليه أن يجلس على الأريكة، وجلسَت
هايدي إلى جواره فصارت بينه وبين
نبيل.
خاطبَتْه قائلًا: ماذا تُحب أن تشرب؟ بيرة؟
وضع يدَيه على ركبتَيه وقال: لا. جئتُ بالسيارة.
سألَه نبيل: سيارتُكَ؟
أجاب: أجل اشتريتُها من أسبوع من برلين
الغربية.
قلتُ: شاي إذن. أوكي؟
أومأ برأسه. مضيتُ إلى المطبخ فوضعتُ الغلاية على النار، واستخرجتُ
زجاجة بيرة من الثلاجة. نزعتُ سِدادتَها وجرعتُ منها مباشرة.
أعددتُ الشاي وحملتُه في صينية بعد أن وضعتُ إناء السكر. ووجدتُ أن
عدنان قد انضَم إليهما.
دار بيننا حديثٌ متقطِّع أدلت فيه هايدي بالدلو الأكبر، وروى هلمي بعض المفارقات التي واجهَته عند قدومه للبلاد،
وشارك عدنان ونبيل بتجاربهما، وأجمعنا على أن بُسطاء الألمان
يتظاهرون بعدم الفهم إذا أخطأ أجنبيٌّ في نطق لغتهم المقدَّسة.
تساءل هلمي عما ننوي أن نفعله
بمستقبلنا. لم أُجب. بينما قال عدنان
إنه ينوي دراسة الأدب في جامعة همبولت. ونظر نبيل
إلى هايدي ثم قال: سأعود إلى
سوريا. وأتزوج.
سأله هلمي باهتمام: سورية أم
ألمانية؟
بدا التوتُّر على هايدي فسارعتُ
إلى نجدتها.
سألتُه: هل لكَ مدةٌ طويلة في جريدة الجمهورية؟
أجاب في تردُّد: كنتُ في وكالة الأنباء المصرية.
– متى تركتَها؟
قال في غير حماس: العام الماضي.
بالطبع كي يأتي إلى برلين. له صلة
برئيس الجريدة الجديد؟ أم قدَّرتِ الأجهزة المعنية أن برلين صارت مركزًا مهمًّا للأنباء (بكافة
أنواعها)، أو تصاعدَت أهميتُه في الاتحاد
الاشتراكي، وقرَّروا مساعدتَه في شراء سيارة؟
تطلَّعتُ في ساعتي خلسة. كانت
تقترب من العاشرة، موعد نومي. استأذنتُ منهم وحملتُ زجاجتي إلى المطبخ،
وأودعتُها سلة الزجاجات الفارغة. مضيتُ إلى الحمَّام فتبوَّلتُ وغسلتُ
أسناني. وعند خروجي سمعتُ نبيل يقول
بالعربية ثم بالألمانية إنه سيذهب لينام بسبب تأخُّر الوقت. وردَّت
عليه هايدي قائلة: سأبقى مع
هلمي بعض الوقت.
اتجهتُ إلى غرفتي وتبعَني نبيل.
أغلقتُ الباب وأطفأتُ النور. استلقيتُ على الفِراش وسرعان ما رحتُ في
النوم.
استيقظتُ فجأةً شاعرًا برغبة في التبوُّل. رفعتُ يدي بالساعة ووجدتُ
العقارب المضيئة تشير إلى منتصف الليل. غادرتُ فراشي وأضأتُ النور. ثم
فتحتُ باب الغرفة وخرجتُ إلى الصالة. كان نورها مطفأً ويتسلَّل إليها
ضوءٌ خفيف من غرفة المعيشة. وفُوجئتُ ﺑ نبيل واقفًا في الظلام على مقربةٍ من بابها وهو
يتنصَّت.
هممتُ بإشعال نور الصالة، فمنعَني وهو يضع إصبعه على فمه طالبًا مني
التزام الصمت. ووقفنا نُنصِت في الظلام.
أتانا صوتا هلمي وهايدي في همهمةٍ خافتة لم نتبيَّن معها
تفاصيل حديثهما. كانا قد أطفآ مصباح السقف واكتفَيا بضوء المصباح
الأرضي المجاور للأريكة. وكان الباب مُواربًا بحيث لا يراهما أحدٌ من
الصالة. وتخلَّلَت حوارهما فتراتُ صمتٍ طالت أحيانًا.
حاولتُ أن أستشِفَّ شيئًا من نبرات صوتهما لكني فشِلتُ. ملَلتُ
الإنصات بعد دقائق فأشرتُ ﻟ نبيل أني
سأدخل الحمَّام في هدوء. خطوتُ في حذَر إليه وفتحتُ الباب في رفقٍ ثم
تركتُه مُواربًا. تبوَّلتُ وغادرتُ الحمام. لم يكن نبيل قد تحرَّك من مكانه، فتركتُه ومضيتُ
إلى غرفتي. أغلقتُ الباب، وأطفأتُ النور، واندسستُ في فراشي.
تقلَّبتُ عدة مرات قبل أن
أستغرق في النوم من جديد. استيقظتُ مرةً أخرى على صوت إغلاق باب الشقة.
تطلَّعتُ في ساعة يدي فوجدتُها تقترب من الثانية بعد منتصف الليل.
سمعتُ خطواتِ هايدي المندفِعة نحو
غرفتها، ثم فَتْح بابها وإغلاقه، وتبِعَ ذلك همهمةٌ غاضبة ثم ارتفع
صوتُ نبيل. ساد الصمت لحظاتٍ ثم
سمعتُ صوت باب غرفتهما يُفتَح ويُغلَق بعنف. وتبعَت ذلك أصواتٌ صادرة
عن غرفة المعيشة. ثم ساد السكون. واستأنفتُ نومي.
أيقظَني صوت المنبِّه كالمعتاد. قفزتُ من الفِراش وغادرتُ غرفتي.
كانت الشقة مظلمة فاتجهتُ إلى الحمَّام. تبوَّلتُ واغتسلتُ ثم تناولتُ
فرشاة أسناني. ضغطتُ أنبوبة المعجون فوقها، وشعرتُ بتيارٍ من الهواء
البارد قادمٍ من غرفة المعيشة.
غادرتُ الحمام وفرشاة الأسنان في يدي. عبَرتُ الخطوات القليلة حتى
غرفة المعيشة التي كان بابها مفتوحًا.
ولجتُ الغرفة ومدَدتُ يدي فضغَطتُ مفتاح نور السقف. وطالعَني منظر
هايدي في البلوزة الملوَّنة
والبنطلون البرتقالي اللون مُدلَّاةً من باب الشرفة المفتوح.
كانت هناك أنشوطةٌ تُحيط برقبتها مثبَّتة في عارضة الإطار الخشبي
العلوي لباب الشرفة. اقتربتُ منها مأخوذًا، ومدَدتُ يدي إلى رقبتها عند
الأنشوطة. تحسَّستُها بأصابعي فوجدتُها متحجِّرة.
تركتُها وخرجتُ إلى الصالة وناديتُ على نبيل. ولجتُ الحمام واستأنفتُ تنظيف أسناني، ثم مضيتُ
إلى غرفتي فأحضرتُ الكاميرا.
التقاني نبيل في الصالة مبهوتًا.
وعندما رآني أحمل الكاميرا وأتجه إلى غرفة المعيشة حال بيني وبين ذلك.
أذعنتُ وعُدتُ بالكاميرا إلى غرفتي. وارتديتُ ملابسي.
•••
ذهب عدنان إلى كشك التليفون القريب
وتلفَن للوكالة. وبعد نصف ساعة وصل نويمان وبصحبته أحد مديريها. ثم انضم إليهما ضابطُ
شرطة. وحضرَت سيارةُ إسعافٍ نقلَت الجثَّة.
استمع الثلاثة إلى شهادة كلٍّ منا، وسمحوا ﻟ هيلدا بمغادرة المنزل بعد أن أدلت بشهادتها، وأعفانا
نويمان من النزول إلى العمل. ثم
انصرفوا وتجمَّع ثلاثتنا في غرفة المعيشة.
جلسنا في صمت بعض الوقت. وفجأةً انهار نبيل باكيًا، وقال وهو يدفن وجهه بين كفَّيه: قلتُ لها
إني لن أتزوَّجها، وطلبتُ منها أن تغادر المنزل.
انسحبتُ بعد قليل، وأخذتُ زجاجة بيرة إلى غرفتي. بسطتُ صور هايدي على سطح المكتب، ثم رفعتُ الصورة
الأخيرة التي يتوسَّطها وجهها وتأمَّلتهُا طويلًا.
جمعتُ الصور وفتحتُ دُرج المكتب. وضعتُها داخله، وقلَّبتُ بين أوراقي
حتى عثرتُ على عقد العمل بيني وبين الوكالة.
استخرجتُه وقرأتُه بعنايةٍ عدة مراتٍ مستعينًا بالقاموس، ثم
تأمَّلتُه طويلًا، وأخيرًا أعدتُه إلى الدُّرج.