الفصل الثاني
بيكون في سياق عصره
قلَّما يفشل إنسانٌ في بلوغ النجاح والازدهار في مثل هذا الوقت والبلد، إذا كان يحمل في جَنَباته بذورًا.
ول ديورنت
وجملة ما يُقال عنه أنه كان عصرًا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج بيكون.
العقاد، «بيكون: مجرب العلم والحياة»
ثمة أعصُرٌ تنبغ فيها الأنفسُ وتستفيق أرواحُ الأمم،
أعصرٌ ترتع فيها الكائنات وتتعهد ذاتَها،
ويشطأ النبتُ ويَعشُبُ الحجرُ ويَدِب العصيرُ في عروق الخلائق،
تَعجَبُ فيها كم تَبلُغُ الهاماتُ وتَسمقُ القامات،
وتُدرِك فيها أن الوَجدَ هو الأصل،
أن الإبداعَ هو الأصل،
أن الجَمال هو الأصل.
«كان بيكون صوت جميع الأوروبيين الذين حَوَّلوا القارة الأوروبية من غابٍ
إلى أرض كنوز الفن والعلم، وجعلوا منها مركز العالم.»١ بدأت اليقظة الأوروبية من سُبات العصر الوسيط بروجر بيكون الذي تُوفي عام
١٢٩٤م، وَنَمَتْ وترعرعت في ليوناردو (١٤٥٢–١٥١٩م)، وبلغت كمالها في كوبرنيقوس (١٤٧٣–١٥٤٣م)
وجاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م)، وفي أبحاث جلبرت (١٥٤٤–١٦٠٣م) في المغناطيسية والكهربية، وأبحاث
فيساليوس (١٥١٤–١٥٦٤م) في التشريح، وأبحاث هارفي (١٥٧٨–١٦٥٧م) في الدورة الدموية.٢
وثمة مخترعات ثلاثة لم يعرفها القدماء، هي: الطباعة والبارود والبوصلة، كان لها تأثير
هائل، «لقد غيَّرت هذه المكتشفات الثلاثة وجه العالم وحالته: الأوَّل في المعرفة، والثاني
في الحرب، والثالث في الملاحة، ثم ترتبت عليها تغيراتٌ لا تُحصَى بحيث يمكن القول بأنه
لم
يكن لأي إمبراطورية أو مذهب أو نجم أيُّ قوة أو تأثير في الشئون البشرية يفوق ما كان
لهذه
الكشوف الميكانيكية.»٣
«لقد حَلَّ الورقُ محل الجلود الرقيقة باهظة الثمن التي كانت تُستخدَم في الكتابة،
والتي
جعلت الرهبان والقسس يحتكرون العلم والتعليم بسبب فداحة أثمان هذه الجلود، وبرزت الطباعة
التي طال انتظارها وكانت تكاليفها رخيصة وانتشرت في كل مكان.»٤ كان هذا بمثابة «تأميم للمعرفة»، وتصدُّع لكهنوت علمي جثمَ على صدر أوروبا
ردحًا طويلًا من الزمن.
وأمَّا البارود فقد برزت لبيكون أهميتُه في حماية إنجلترا البروتستانتية من قوة إسبانيا
الكاثوليكية، وكذلك في نقل السيادة على البحار من يد الإسبان إلى الإنجليز، وذلك بعد
أن
أدخلت البحرية الإنجليزية في تصميم بوارجها المدافع الثقيلة منذ عصر هنري الثامن في أوائل
القرن السادس عشر.٥
وأمَّا البوصلة فقد قهرت جهلَ الناسِ بالأرض، وأتاحت لهم التعرُّف على أصقاع العالم
والإبحار فيما وراء «عَمودَي هرقل»؛٦ «فحتى القرن الخامس عشر لم تكن السفن تغامر بالابتعاد عن الخطوط الساحلية
للمحيط الأطلسي؛ وذلك لأسباب منها أنه لم يكن هناك جدوى من ذلك، ولكن السبب الأهم هو
أنه لم
يكن من المأمون المغامرة بدخول مناطق لم تكن فيها أية معالم تُوجِّه الملَّاح … لقد كان
العالم بالنسبة لإنسان العصور الوسطى حيِّزًا ساكنًا متناهيًا مُحْكَم التنظيم. فلكل
شيءٍ
فيه وظيفته المقدَّرة، بدءًا من النجوم التي ينبغي أن تسير في فلكها، حتى الإنسان الذي
يتعيَّن عليه أن يعيش ملتزمًا المركز الاجتماعي الذي وُلِدَ فيه. غير أن عصر النهضة قد
زعزع
بجرأة أركان هذه الصورة الهادئة المسالمة.»٧ فمنذ زادت المعرفة قَلَّ الخوف، وضعُف تفكير الناس في عبادة المجهول واشتد في
محاولة التغلُّب عليه، وعملت كل نفس نشطة بثقة جديدة، وانهارت الحدود ولم يَعُد هناك
حدود
أمام ما يمكن الإنسان أن يصنع. وراحت السفن تخوض العالم، وتجاوزت حدود التطرُّف والإفراط
التي يصورها مثلٌ قديم عن سفينة تعود بعد أن وصلت إلى مضيق جبل طارق في البحر المتوسط
وقد
نُقِشَ عليها عبارة: «لا إفراط ولا تفريط». لقد كان عصرَ تحقيقٍ وأملٍ وعنفٍ لبدايات
ومشاريع جديدة في كل ميدان، عصرًا انتظر صوتًا ينادي به وروحًا محللة تجمِّل روحه وتشحذ
عزمه.٨
في مقدمة كتابه «تفسير الطبيعة» يقول بيكون: «لقد اعتقدت بأنني وُلِدتُ لخدمة الناس،
وقدَّرت أهمية الخير العام … فسألتُ نفسي عن أكثر الأمور نفعًا للناس، وما هي المهمات
التي
أعدَّتني الطبيعةُ لأدائها أو ما هي المهمات التي تتناسب مع مؤهلاتي الطبيعية، وبعد بحث
لم
أجد عملًا يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون والاختراعات والتطوُّر بها للرقي بحياة
الإنسان … لقد وجدتُ في طبيعتي مقدرةً على البحث عن الحقيقة، وعقلًا دوَّارًا يكفي للبحث
عن
تلك الغاية العظيمة، أعني إدراك الأمور المتشابهة، وفي الوقت نفسه فقد كان عقلي مركزًا
تركيزًا ثابتًا لملاحظة أوجه الخلاف، وكانت بي رغبة للبحث ومقدرة على إرجاء الرأي بالصبر
والتأمُّل والتفكير والقبول بحرص، والاستعداد لتصحيح الانطباعات المزيفة وترتيب أفكاري
في
عناء وشك وريبة، لم تكن بي لهفة للجديد أو تقدير أعمى للقديم، وكانت لديَّ كراهية شديدة
لكل
ادِّعاء وتدجيل من كل نوع؛ لهذه الأسباب جميعًا وجدت في طبيعتي وميولي نوعًا من الصلة
والقرابة التي تربطني بالحقيقة.»٩
١
قصة الفلسفة، ص١٨٠.
٢
قصة الفلسفة، ص١٣٤.
٣
بيكون: الأورجانون الجديد، ١: ١٢٩.
٤
قصة الفلسفة، ص١٣٤.
٥
د. حبيب الشاروني: فلسفة فرانسيس بيكون، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،
بيروت، الطبعة الأولى، ٢٠٠٥، ص٢٢.
٦
Pillars of Hercules بروزان (قُنَّتان) جيليان
على جانبي النهاية الشرقية لمضيق جبل طارق، صخرة جبل طارق بأوروبا وجبل موسى
بأفريقيا، تقول الأساطير: إنهما من تشييد هرقل، وقد اعتُبرا مَعْلَمَين لنهاية
العالم القديم.
٧
برتراند رسل: حكمة الغرب ٢، ترجمة د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، العدد
٧٢، ديسمبر ١٩٨٣، ص٢٣.
٨
قصة الفلسفة، ص١٣٤-١٣٥.
٩
المرجع نفسه، ص١٣٧-١٣٨.