الفصل الرابع
صيد «بان»
الصيادُ الماهرُ يعرف أين كِناسُ الوَعل.
أوفيد: فن الهوى
يُجْمِل بيكون منهجه الوسطي في العلم في الشذرة ٩٥ من الكتاب الأوَّل من «الأورجانون
الجديد»، فيقول: «هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد، أهل
التجربة أشبه بالنَّمل، يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب، تغزل نسيجَها
من
ذاتها. أمَّا النحلة فتتخذ طريقًا وسطًا بين الاثنين: تستخلص مادةً من أزهار البستان
والحقل، غير أنها تحوِّلها وتهضمها بقدْرتها الخاصة. وعملُ الفلسفة الحقيقي لا يختلف
عن
هذا: فهي لا تعتمد على قوَّتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدِّمها التاريخ
الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تُغيِّرها وتُعْمِل فيها الفكر؛
ومِن
ثَمَّ فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين المَلَكَتين (التجريبية والعقلية) اتِّحادًا
أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن.» في هذه الشذرة يتبيَّن أن بيكون كانت لديه نظرة متوازنة
لاستخدام كلٍّ من المنهجين الاستقرائي والاستنباطي في البحث العلمي، رغم أن افتقاره للمعرفة
الهندسية ربما أعاقه عن تحديد دور كلٍّ من المنهجين على نحوٍ دقيق، مثلما تأدَّى به التأكيد
في مواضعَ أخرى من «الأورجانون» (انظر مثلًا الشذرة ٨٢) إلى الاستهانة بالمنهج الاستنباطي
الذي أسمَّاه المنهج الاعتقادي (الدوجماوي)، وأن يُعوِّل تعويلًا زائدًا على المنهج
التجريبي.
(١) المنطق الأرسطي والقياس
كان المنطق هو الأداة الرئيسية التي استخدمها القدامى في استخلاص نظرياتهم وتأسيس
علومهم؛ ومِن ثَمَّ كان نقد المنطق (القَبلي
a priori)
هو الخطوة الأولى في عملية تطهير الأرض لبناء المنهج الجديد. يتألَّف المنطق القديم من
«القياس»
syllogism بالدرجة الأساس. يتألَّف
القياس من «قضايا»
proposition، والقضايا من ألفاظ،
والألفاظ تُشير إلى معانٍ أو أفكار في الذهن
notions؛
فإذا كانت هذه الأفكار مختلطة في الذهن أو ملوَّثة بأوهام العقل (وبخاصة أوهام السوق)
يكون القياس كله — والعلم كله بالتالي — قائمًا على غيرِ أساس؛ ففي عملية التجريد
الأصلية — التي تتكوَّن بواسطتها ألفاظ تغدو حدودًا في قضايا القياس — خطورةٌ تجعلنا
نشك كثيرًا في عملية القياس من أساسها.
١ يقول بيكون في مقدمة «الأورجانون الجديد»: «… يأتي المنطق متأخِّرًا جِدًّا
بعد أن استفحل الداءُ وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية
ومداولاتها محشوًّا بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة، هنالك يساهم المنطق في تثبيت الأخطاء
لا
في كشف الحقيقة.»
فالأقيسة الأرسطية تنتقل من العام إلى الخاص، وتفترض ما نريد أن نبحث عنه ونثبته،
فهي
عقيمةٌ عادةً وقُصاراها أن تحمل حَملًا كاذبًا هو «المصادرة على المطلوب»!
٢ أليست نتائجُها مطمورةً سلفًا في المقدمات؟ أليست بذلك تدس النتيجةَ كمقدمة
وتجعل المسألةَ حَلًّا؟! فتعفينا من مئونة الفكر وتديره دورانًا آليًّا بليدًا؟ أليست
تضحي بمضمون الفكر من أجل شكله وتهمل فحواه لحساب صورته؟
القياسُ كله — حتى لو كان صحيحًا من الوجهة الصورية الخالصة — عمليةٌ «عقيمة»؛ فهو
لا
يأتي بجديد؛ لأن نتائجه قابعةٌ سلفًا في المقدمات؛ لذا فهو لا يعدو أن يثَبِّتَ ويدعم
أفكارًا موجودة من قبل، قد تكون باطلة كل البطلان، ولكنه لا يُعين أبدًا على اكتشاف
الحقيقة، وما القياس إلا طريقة لإقناع الخصم وقهره عن طريق الحجج اللفظية، ولكن هدف
العلم ليس قهر الخصوم بل قهر الطبيعة، وغاية ما يمكن أن يُنتفع به من القياس هو
استخدامه لنشر الحقائق وإقناع الأذهان بها لا لكشف الجديد منها.
٣ يقول بيكون في الشذرة ١: ١٢: «نسق المنطق الحالي يفيد في تثبيت وترسيخ
الأخطاء (القائمة على الأفكار السائدة) أكثر مما يفيد في البحث عن الحقيقة؛ ومِن ثَمَّ
فإن ضرره أكبر من نفعه.» إن المرء ليُستدرَج بسهولة إلى الخلط بين الاستدلال الصحيح
(صوريًّا)
valid وبين «الصدق» أو «الحق»
truth، هنالك يكون ذكاؤه عِبئًا عليه! وتترسَّخ أوهامُه
بقدْر مهارته المنطقية نفسها!
٤
(٢) الاستقراء الأرسطي
ويحمل بيكون بشدة على الاستقراء الأرسطي؛ لأنه يَئول في النهاية إلى «قياس»
syllogism، مقدِّمته الكبرى هي نتاج عملية إحصاء يقوم
على الأمثلة الإيجابية وحدها. والأمثلة الإيجابية بدون الأمثلة السلبية لا تُفضي إلى
يقين، ولن تكون على أحسن الفروض إلا تخمينًا. يُطلِق بيكون على هذا الاستقراء
«التعداد البسيط»
simple enumeration. يقول
برتراند رسل في «تاريخ الفلسفة الغربية»: «يمكن أن نوضح الاستقراء بالتعداد البسيط
بواسطة حكاية رمزية تقول: يُحكَى أن موظفَ تَعداد كُلِّفَ ذات يوم بتسجيل أسماء جميع
الأهالي في قريةٍ معينة بمقاطعة ويلز، فكان أول فرد سأله يُدعَى وليام وليامز، وكذلك
كان اسم الثاني والثالث والرابع … وأخيرًا قال الموظف لنفسه: هذا شيءٌ مُضجِر، من
الواضح أن اسمهم جميعًا وليام وليامز، سأسجلهم جميعًا هكذا وأمنح نفسي إجازة. ولكنه كان
على خطأ؛ إذ إن هناك شخصًا واحدًا كان اسمه جون جونز، ومن ذلك يتبين أننا قد نضل السبيل
إذا ما أولينا ثقةً زائدةً بالاستقراء بواسطة التعداد البسيط.»
٥ يقول بيكون في الأورجانون الجديد: «ولا يَخدَعَنَّ أحدًا كثرة التجاء أرسطو
إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى؛ فحقيقةُ الأمر أنه قد حَسَمَ
أمرَه مسبقًا ولم يَستشِر التجربةَ حقَّ المشورة كأساسٍ لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسف
أحكامه اعتسافًا، ثم يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكارَه، ويجرها كما يُجَر أسيرٌ في موكب.»
٦
هذا لونٌ من «البروكرُستِيَّة»
Procrusteanism
المغالِطة ينبغي تجنُّبها في مجال البحث العلمي مثلما ينبغي تجنُّبها في جميع المجالات،
و«البروكرستِيَّة» هي أية نزعة إلى «فرض القوالب» على الأشياء، أو لَيِّ الحقائق وتشويه
المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرًا مع مخطَّطٍ ذهنيٍّ مسبق، إنها القولية
الجبرية والتطابق المُعتسَف والانسجام المُبيَّت، إنها افتئاتٌ على الواقع قَلَّما يفلت
من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة.
٧
(٣) تَدرُّجيَّة بيكون Bacon’s gradualism
يقول بيكون في الأورجانون الجديد: «ذلك أن الاستقراء الذي ينطلق من التعداد البسيط
هو
شيء طفولي، استنتاجاته قَلِقَة وعُرضةً للخطر من أيِّ شاهد مضاد، وهو بصفة عامة يَحكم
بناءً على عددٍ صغيرٍ جِدًّا من الوقائع، وعلى تلك الوقائع المتوافرة فحسب. أمَّا
الاستقراء الذي نريده من أجل اكتشاف العلوم والبرهنة عليها فينبغي أن يحلِّل الطبيعةَ
بواسطة عمليات نبذٍ واستبعادٍ مناسبة، وعندئذٍ، بعد عددٍ كافٍ من السوالب يصل إلى
استنتاج الأمثلة الموجبة، وذلك شيء لم يُعمَل حتى الآن بل لم يُحاوَل، باستثناء أفلاطون
الذي استخدم حقًّا هذا الشكل من الاستقراء إلى حدٍّ ما بغرض تمحيص التعريفات والأفكار.»
٨ «علينا ألا نسمح للفهْم بأن يقفز ويطير من الجزئيات إلى المبادئ القَصِية
والشديدة العمومية (كتلك التي تُسمَّى «المبادئ الأولى» للفنون والأشياء)، ثم ينطلق
منها مُسلِّمًا بيقينها الذي لا يتزعزع؛ ليبرهن بها على المبادئ الوسطى ويُفصِّلها، وهو
المُتَّبَع حتى الآن؛ إذ إن العقل ميَّال بطبعه لأن يفعل ذلك، بل هو مُدرَّبٌ عليه
ومعتاد من خلال نموذج البرهان «القياسي»
syllogistic،
ولكننا لا نأمل خيرًا من العلوم إلا عندما ننتقل على سُلَّمٍ أصيلٍ صاعدٍ بدرجاتٍ
متتاليةٍ بلا ثغرات أو كسور، من الجزئيات إلى المبادئ الصغرى ثم إلى المبادئ الوسطى،
الواحد تلو الآخر، انتهاءً بالمبادئ الأعم … لذا ينبغي ألا نُزوِّد الفهْمَ البشري
بأجنحة، بل بالأحرى بأثقالٍ مُدلاةٍ حتى نَعقِلَه عن الوثوب والطيران، وهذا ما لم
يُعمَل حتى الآن، وعندما يُعمَل سيكون لنا في العلوم أملٌ أكبر.»
٩ لقد كانوا «من خلال بضعة أمثلة وجزئيات (مع إضافة تصورات شائعة وربما جرعةٍ
ما من أكثر الآراء رواجًا) كانوا يقفزون قفزًا إلى المبادئ الأكثر عمومية أو المبادئ
الأولى للعلم، وإذ يأخذون صدْق هذه المبادئ الأولى كأمرٍ ثابتٍ لا يتزعزع، فإنهم
ينطلقون منها إلى استنباط الاستنتاجات الدنيا بواسطة قضايا وسطى، ويختبرونها بعرضها على
محك المبادئ الأولى الصادقة صدقًا ثابتًا لا يتزعزع، ومنها يشيِّدون الفن، وأخيرًا
فإنهم إذا ظهرت في الأفق جزئياتٌ جديدة تُناقِض وجهات نظرهم فإنهم إما يَسلُكونها
بمهارةٍ في المذهب بواسطة تحديداتٍ وتفسيراتٍ لقواعدهم نفسها، وإما يتخلَّصون منها
برعونة على أنها استثناءات …»
١٠
(٤) احتراش١١ الحقيقة
ينبغي أن يكون لدينا استقراء، ولكن هذا الاستقراء لا يعني عَدًّا وإحصاءً لجميع
الجزئيات، فإن هذا العمل لا آخر له ولا فائدة؛ إذ لا يمكن لأي مادة مجموعة أن تصنع
علمًا، وهو أشبه بمَن يحوش الصيدَ في أرضٍ فضاء بغير حدود أو بغير حيِّز مسدود، إن عمل
الباحث العلمي شبيه حقًّا بعمل الصياد؛ ولهذا يسمِّيه بيكون باسم «صيد بان»
Pan’s hunt (Venatio Panis)،
١٢ وبان هو إله الأحراش والغابات؛ لأن العمل الباحث يقوده نوعٌ من مَلَكة
الاشتمام
flair شبيهة بمَلَكة الاشتمام عند القنَّاص
الماهر الذي يشم أين توجد الفريسة
subodoratio quaedam
venatica. يجب تضييق وتسييج ميداننا كي نمسك فريستنا، يقوم القنص
في تسع عمليات هي:
١٣
-
تنويع التجارب: بتغيير المواد وكمياتها وخصائصها وتغيير العلل الفاعلة، مثل تطعيم
الغابات كما نصنع في شجر الفواكه، ومثل تركيز أشعة الشمس باستخدام
العدسات، وعمل الشيء نفسه على أشعة القمر … إلخ.
-
تكرار التجربة: مثل إعادة تقطير الكحول عن تقطير أول … إلخ.
-
مَد التجربة: أي إجراء تجربة على مثالِ تجربةٍ أخرى مع تعديلٍ في المواد.
-
نقل التجربة من الطبيعة إلى الفن: مثل إيجاد قوس قُزَح في مسقط ماء، أو من فنٍّ إلى آخَر مثل أن نصنع
أداةً تعين السمع كما صُنِعَت العدسات لتعين البصر، أو من جزء فنٍّ إلى
آخَر، مثل أن نستعين بوسائل العلاج وأدويته في مجال الوقاية.
-
قلب التجربة: مثل الفحص عما إذا كانت البرودة تنتشر من أعلى إلى أسفل بعد أن عرفنا
أن الحرارة تنتشر من أسفل إلى أعلى.
-
إلغاء التجربة: أي طرد الكيفية المراد دراستها، مثال ذلك — وقد لاحظنا أن المغناطيس
يجذب الحديد خلال أوساطٍ معينة — أن ننوِّع هذه الأوساط إلى أن نقع على
وسطٍ أو أوساط تلغي الجاذبية.
-
تطبيق التجربة: أي استخدام التجارب لاستكشاف خاصية نافعة، مثل تعيين مبلغ نقاء
الهواء وسلامته في أمكنةٍ مختلفة أو فصول مختلفة بتفاوت سرعة
التنفُّس.
-
جمع التجارب: أي الزيادة في فاعلية مادةٍ ما بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى،
مثل خفض درجة تجميد الماء بالجمع بين الثلج والنطرون (ملح
البارود).
-
صَدف التجربة: أي أن تُجرَى التجربة لا لتحقيق فكرة معيَّنة، بل لكونها لم تُجرَ
بعد، ثم يُنْظَر في النتيجة ماذا تكون، مثل أن نُحدِث في إناءٍ مغلَقٍ
الاحتراقَ الذي يحدث عادةً في الهواء.
وبعد إجراء التجارب نقوم بتوزيعها في قوائمَ ثلاث:
١٤
-
(١)
قائمة الحضور: نسجِّل فيها كل الأحوال التي تظهر فيها الطبيعة (أو
الظاهرة) التي ندرُسها، فمثلًا لو كُنَّا نبحث في الحرارة، فإننا نسجل
حضورها في: الشمس، اللهب، دم الإنسان الحي، العدسات الحارقة … إلخ.
-
(٢)
قائمة الغياب: نسجل فيها الأحوال التي لا توجد فيها الطبيعة (أو
الظاهرة)، فبالنسبة إلى الحرارة نسجل عدم وجودها في: أشعة القمر، دم
الحيوان الميت … إلخ، وبمقارنة القائمتين نعرف السبب المولِّد للحرارة
والذي بغيابه ينتفي وجود الحرارة.
-
(٣)
قائمة الدرجات أو المقارَنة: نسجِّل فيها كل الأحوال التي تتغيَّر فيها
طبيعةٌ ما كلما تغيَّرت طبيعةٌ أخرى فتزيد كلما زادت، وتنقص كلما نقصت، مما
يجعلنا نقرر أن هناك ترابطًا بينهما.
وبمقارنة اللوحات الثلاث نستطيع أن نستبعد كل الظواهر الغريبة عن الطبيعة التي
ندرسها؛ أي التي تكون غائبة حين تكون الطبيعة حاضرة، وحاضرة حين تكون الطبيعة غائبة،
وثابتة حين تكون الطبيعة متغيِّرة، والأمر المهم والأصيل في منهج بيكون هذا هو الدور
الذي تلعبه قائمة الغياب وما يصاحبها من تجارب سلبية، يقول بيكون في الشذرة ٢: ١٥:
«أطلقتُ على مهمة ووظيفة هذه القوائم الثلاث «عرض الشواهد أمام الذهن»، وبعد أن تم
العرض يجب أن يبدأ «الاستقراء» نفسه في العمل؛ فبالإضافة إلى «عرض» كل مثال يجب أن
نكتشف أية طبيعة تظهر دائمًا مع الطبيعة المعنية أو لا تظهر، أيها تزيد معها أو تقل،
وأيها تُعَد حَدًّا (كما قلنا آنفًا) لطبيعةٍ أعَم، إذا حاول العقل أن يفعل ذلك على
نحوٍ إيجابي
١٥ (وهو ما سيفعله دائمًا إذا تُرِكَ لحاله)، هنالك ستبرز أوهام وتخمينات
وأفكار غير محددة ومبادئ تحتاج إلى تصحيحٍ كل يوم، ما لم يؤثِر المرءُ أن يُنافِح عن
الباطل (كشأن المَدْرسيين)، وإن كانت هذه بغير شك ستكون أفضل أو أسوأ بحسب قدرة وذكاء
الفكر الذي يعمل. غير أن الله وحده (خالق الصور وبارئها) — أو ربما الملائكة والعقول
العليا — مَن يملك معرفةً مباشرةً بالصور بالإيجاب ومنذ بداية التفكير، مِن المتيقن أن
هذا فوق قدرة الإنسان الذي قُدِّرَ عليه ألا ينطلق إلا من خلال «الأمثلة السالبة»، فلا
يخلص إلى «الأمثلة الإيجابية» إلا بعد أن يستنفد كل ما هو مُستبعَد.»
(٥) معنى «الصور» عند بيكون
هكذا يمضي بيكون في الاستبعاد حتى يصل إلى التحديد الإيجابي للظاهرة المراد بحثها،
وهي الحرارة في كتاب الأورجانون الجديد، فيخلص إلى أن الحرارة هي نوع من الحركة: هي
حركة للجزئيات الصغيرة في الأجسام، يُحال فيها دون الميل الطبيعي لهذه الأجسام إلى
التباعد عن بعضها البعض، وبتعبيرٍ آخَر، فإن الحركة هي «صورة» form الحرارة، أو عِلَّة الحرارة، وقد أصاب بيكون فيما وصل إليه في
ظاهرة الحرارة، واستبق بذلك الفكرة الحديثة القائلة بأن الحرارة هي حركة جزيئية، ويُعَد
هذا من إسهاماته (القليلة) في العلم الطبيعي.
بهذه الطريقة كان بيكون يتوقَّع أن يصل إلى القوانين العامة، القوانين الأدنى عمومية
في البداية، ثم من عدد من هذه القوانين كان يأمل في الوصول إلى قوانينَ من الدرجة
الثانية من العمومية وهكذا. وعلينا بإزاء القانون المقترَح أن نختبره بتطبيقه في ظروف
جديدة، فإذا عَمِلَ في هذه الظروف يكون مؤيَّدًا بهذا القدر.
ثمة بعض الشواهد أو الأمثلة ذات قيمة خاصة؛ لأنها تُمكِّننا من أن نقرِّر بين نظريتين
كلتاهما ممكنة في ضوء الملاحظات السابقة، يطلق بيكون على هذه الأمثلة أو الشواهد
«الشواهد الممَيَّزة» (أو ذات الامتياز)
prerogative
instances.
١٦
على أن نظرية بيكون في الاستقراء كانت قائمة على الاعتقاد بأن في الكون عددًا محدودًا
من «الطبائع البسيطة»
simple nature (كالضوء والوزن
والحرارة واللون …) هي تلك التي تكوِّن الأشياء كلها بتجمعها وتفرقها. وكان بيكون يعتقد
أن بإمكاننا كشف سر الكون كله إذا عرفنا حقيقة هذه الطبائع وكشفنا قوانينها،
١٧ ومن هنا كان العالم في نظره بسيطًا إلى حَدٍّ بعيد، وكان يؤمن بإمكان
الوصول إلى مجموعة هائلة من الكشوف والاختراعات، وضمان السيطرة «الكاملة» للإنسان على
الطبيعة إذا قمنا بعدد معلوم من الأبحاث الطبيعية … وتلك — ولا شك — سذاجة مفرطة في
التفكير، ولكنها تدل في الوقت ذاته على الإيمان بأن للعلم قدرة مطلقة،
١٨ وإذا كان العلم الحديث يهدف إلى وصف وتفسير الظواهر الطبيعية، فإن بيكون
يريد من هذا المنهج أن يُفضي به إلى معرفة أو اكتشاف «الصور»؛ أي صور الطبائع البسيطة،
وقد أثار استخدام بيكون للفظ «الصور» مشكلات كثيرة بين الشراح: فرأى البعض أنه عاد إلى
استخدام أسلوب الميتافيزيقا الأرسطية، وأنه قد عاد رغمًا عنه إلى الأخذ بالاتجاهات التي
كان يعيبها على الفلسفات القديمة، وكان من أهم الأسباب التي أدت إلى إثارة هذه المشكلات
غموض معنى «الصور» في كتابات بيكون، يشير «بروشار» إلى ثلاثة معانٍ رئيسيةٍ لكلمة
«الصورة»
form عند بيكون:
ومن الواضح في هذه المعاني جميعًا أن «الصور» ليست مفارقة ولا مجردة — كما كان يراها
القدماء — وإنما هي كامنة في قلب الشيء الطبيعي ذاته، ولها طبيعة يمكن تحديدها وحصرها
بدقة، وما هي إلا طريقة خاصة من طرق وجود المادة تعين على حصر العالم والتحكُّم فيه.
٢٠
«إننا نكافح لنتعلم صور الأشياء لا من أجل الصور في حد ذاتها، ولكن لأننا بفضل معرفة
الصور (القوانين) قد نتمكَّن من تجديد صنع الأشياء وفقًا لرغباتنا … وإذا استطاع العلم
أن يكشف لنا صور الأشياء كشفًا وافيًا فإن العالَم سيكون عندئذٍ مجرد مادة خام لإقامة
المدينة الفاضلة التي يعتزم على إقامتها.»
٢١