مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله الذي عنده الدين الإسلام، والصلاة والسلام على من أُرسل لجميع الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام «وبعد»؛ فالعالم أجيال متعاقبة يخلف اللاحق منها السابق ويرثه معارفه: صحيحها وفاسدها، وأخلاقه: حسنها وقبيحها، وأعماله: تامها وناقصها. ويضيف إلى ذلك معلوماته الخصوصية وتجاربه الذاتية فيكوِّن بذلك مدنيَّته العصرية، فإذا قام الخلف الشاب بالواجب عليه لعصره، واتخذ له من تجارب السلف الشيخ مصباحًا، استنارت له سبل السعي وانفسح أمامه الأمل؛ فيرقى في درجات المدنيَّة بمقدار ما صرفه من العناء في العمل وما أحرزه من معارف السالفين؛ لذلك وجب أن تكون الحوادث الماضية وأعمال الأقدمين في العصور الخالية قدوة للمتأخرين في سياستهم وعونًا لهم على أعمالهم، وأنَّى لهم الاقتداء إذا كانوا لا يعلمون بأخبار آبائهم الأوَّلين؟!
يسدُّ هذه الحاجة درس التاريخ العامِّ والخاص: «فالأوَّل» يوقفنا على أخبار كل أمة في جميع أطوارها؛ كأسباب ظهورها والروابط ومقدارها بين أفرادها، والوسائل التي اتخذتها لنموِّها وارتقائها، وحدود محكوميها وحكامها، ووصف وقائعها في غزواتها، وتحديد تخومها في كل أزمانها، وامتداد أملاكها، ونوع سياستها في استعمارها، ومقدار نفوذها عند مفضولاتها، واحترامها في أعين رصيفاتها، ونواياها وأطماعها، وأسباب خذلانها وسقوطها وغلبة غيرها على أمرها. و«الثاني» بالنسبة لنا — معشر المسلمين — تاريخ الأمة الإسلامية التفصيلي الذي يرينا كيف أشرق ذلك الدين القويم على قمم تلك الأرض المباركة — أرض الحجاز — فأنار معظم القارَّتين القديمتين آسيا وأفريقية وجزءًا ما كان قليلًا من أوروبا، وكيف كان يسير به رافعو ألويته في الأقطار بالفتح المبين على سرعة لا تفضلها سرعة حتى امتدَّ سلطان الخلافة الإسلامية في زمن يسير من تخوم الهند شرقًا إلى مرَّاكش غربًا، وكيف كان تمدين هؤلاء المسلمين الصالحين لمن فتحوا بلادهم؛ إذ أصلحوا أمرهم، وقوَّموا أودهم، وحقنوا دماءهم، وحفظوا لهم ذمتهم وولاءهم، وأباحوا لهم حرية أديانهم بعد أن أثقل ظلم ملوك هاتيك الأزمان ظهورهم، فاسترق أموالهم وأذلَّهم وأبعد عن طريق الحرية آمالهم، وأمثال هذه الفظائع حتى في هذا الزمن لا تكلِّف غير نظرة بالعين أو إصاخة بالأذن.
تاريخ هذه الأمة الفاتحة الشريفة قد ينحصر على التوسع في فرعين رئيسين: الخلافة العربية والخلافة التركية. وقد طرق الفرع الأوَّل كلُّ مؤرخي الإسلام، وأما الفرع الثاني فكاد القلم العربي أن يكون منه أبعدَ الأقلام، على أن الملك العثماني قد لمَّ من شعث الولايات الإسلامية وقطع من تقاطعها ما رد على السيطرة الإسلامية كل السيطرة الشرقية. على أثر ذلك قامت قيامة التعصب الديني في الممالك الأوروبية، واتفقت على اختلافها، وتوحدت على تعددها، وانسابت على الملك العثماني؛ فأخذت تحاربه مَثْنَى وثُلاث ورُباع لتقويض عرشه وردِّه إلى مهده الأوَّل، فحال عزمه بينهم وبين ما يشتهون؛ فتربَّص الأوروبيون والحقد يتأجَّج نارًا في صدورهم والتعصب يُورِي شررًا في عيونهم حتى الزمن الأخير، وقد استخدمت الدولة العلية دخلاء كانوا عيونًا للأعداء على أعمالها وأعوانًا عليها لا لها، يرون صدق النصح في غِشِّها؛ فأمل فيها الطامع، ورادها الرائد، ونصب لها الصائد، ونال منها الحاسد، حتى لقد سلبها التعصب الأوروبي كثيرًا من أملاكها إما بحجة الفتح أو بحجة تأييد السلام العام، وإما بحجة أن التعصب الديني من قواعد الإسلام، تلك الدعوى التي يدعونها توفيقًا لمصالح المختلفين منهم وجمعًا للمتفرِّقين من عصبتهم.
كأني بهم وما يدَّعون يحسبون اليهود وقد آواهم المسلمون مسلمين، أم يزعمون — وهم مبطلون — أن مسيحيي الدولة — إلَّا من أفسدوا — على عهدها غير مقيمين؟ وكيف يكون ذلك بعد أنهم ومن سواهم لدى قانون الدولة على اختلافهم في الاعتقاد سواء؟ فلما كانت هذه الدولة قد وقفت نفسَها للذبِّ عن حرية الشرق والذَّوْد عن حوضه، ولما كانت هي الحامية لبيضة الدين الإسلامي زمانًا طويلًا رأت فيه من التعصب الأوروبي الإِحَن والمحن؛ وجب علينا أن نعلَم تاريخها التفصيلي حقَّ العلم؛ لنقف على ما كان يربطنا بغيرها من الدول من المعاهدات والوفاقات الدولية؛ لذلك رأيت من الواجب عليَّ — خدمةً للحقيقة ونفعًا لأبناء البلاد — أن أدوِّن هذا التاريخ متحريًا فيه صدق الأخبار عن صحيح الروايات، شارحًا أسباب الوقائع وما جرَّت إليه من النتائج، متعمدًا في ذلك كله على المعاهدات والفرمانات وصحيح المصادر.
هذا، ولما نفدت الطبعة الأولى من كتابي «تاريخ الدولة العلية» أعدت طبعه هذه الدفعة بعد أن أصلحت ما وقع به من غلطات الطبع وهفوات التحرير، وأضفت إليه مقدِّمة تاريخية ضمنتها تاريخ الخلافة الشريفة الإسلامية من أوَّل ظهورها إلى يوم انتقالها لبني عثمان في زمن السلطان سليم الثاني، بحيث يحيط المطالع بجميع حلقات سلسلة التاريخ الإسلامي بكل سهولة، لكن اقتصرتُ على ذكر الحوادث التاريخية لغاية الحرب الروسية التركية الأخيرة التي انتهت بمعاهدة برلين الشهيرة، عاقدًا العزيمة على جمع ما حدث بعدها من الحوادث التي كانت كلها موجَّهة لإضعاف الدولة العلية وسلخ أجزائها عنها الواحد بعد الآخر، مدوِّنًا كلًّا منها في باب مخصوص، باحثًا عن أسباب ما حصل بداخلية الدولة من الفتن واليد أو الأيدي الأجنبية العاملة فيها، وما أتاه جلالة السلطان «عبد الحميد الثاني» من ضروب الحكمة في مقاومة هذه الحركات العدوانية، وما أظهره — حفظه الله — من الحزم والعزم في إطفاء كل فتنة قبل أن يتعاظم شرها ويتطاير شررها، راجيًا منه تعالى أن يوفقني لخدمة الوطن ونفع بنيه، وأن يُديم ويؤكد ما بين مصرنا والدولة العلية من روابط التابعية، وأن يحفظ خديوينا المعظم «عباس باشا حلمي الثاني» ملجأً لمصر وأبنائها ومنقذًا لها من ورطتها؛ إنه السميع المجيب.