خطبة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي شاد هذا الدين على أساس مكين متين، وأقامه بالبرهان القويِّ المبين، وقيَّض له في كل زمان من الدولة والسلطان ما يحفظ بيضته ويحمي عزته ويؤيد كلمته، ثم الصلاة والسلام على خلاصة بني الدنيا إمام الأنبياء الذي دانت القبائل لطاعته، وانضمَّت أشتات الأفراد تحت رايته، فوحَّد بين هاتيك الجموع المتكاثرة، وأَّلف بين تلك القلوب المتنافرة، فجعل بذلك للإسلام من السطو والصولة ما لم تنلْه قبله ملة ولا دولة.
«وبعدُ»؛ فقد مضى على الشرق أجيال طوال رأى فيها أهلوه من أهوال الأحوال ما تشيب له الأطفال وتندكُّ من وقعه عزائم الرجال بل وشوامخ الجبال، وما كان ذلك إلا بعد أن انفرط عقد بنيه، وتناثر نظام أهليه، وتشاغل كلٌّ بنفسه عن أخيه وذويه، فأغار الدهر بخيله ورَجِلِه على الشرق ودوله، وقلب لأبنائه ظهر المِجَنِّ، وقلَّبهم بين الإحن والمحن، فتناسَوْا ما كان لهم من فخامة الاقتدار، وجلالة الحضارة، وضخامة العمران، وأصالة الإمارة، وانغمسوا في بحار الكسل والخمول ذاهلين، واستكانوا إلى المذلة والهوان صاغرين، حتى باتوا وأصبحوا وهم على شفا جرف هار، وقد أوشكوا أن يُقضَى عليهم بالدمار والاندثار، ويكونوا عبرة لأولي البصائر والأبصار.
لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلمِّ الشعث، ورمِّ الرث، ورتق الفتق، ورقع الخرق؛ فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني، وأمدَّته بالنصر اللَّدنِّيِّ والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر؛ فكانت من المفلحين، ثم وقفت في طريق أوروبا حاجزًا منيعًا وسورًا حصينًا، وحالت دون أطماعها، وألزمتها بكفِّ غاراتها بأنواعها، ثم اهتمت بالإصلاح، وسعت في تأييد النظام؛ فصار لها بين الدول المقام الأوَّل والرأي الراجح والقول النافذ، فكانت لا يضاهيها دولة من الدول بما أحرزته من الأملاك الواسعة في قارات أوروبا وآسيا وأفريقية، ونالت من العزة والتوفيق ما يجدر بكل شرقي أن يتذكره الآن لتستفزَّه عوامل الغيرة ودواعي النشاط إلى بذل نفسه ونفيسه في سبيل تقويتها وتعزيز رايتها وتأييد كلمتها؛ لما كان — ولا يزال — لها من الحسنات الحسان على كافة بني الإنسان من غير نظر إلى الأجناس والمذاهب والأديان، مما لا يراه الباحث في أية دولة غيرها قديمًا أو حديثًا، بل نرى عكس ذلك ونقيضه في الدول ذات الدعاوى الطويلة العريضة التي تتقوَّل بأنها عماد المدنية والإنسانية، وهي مع ذلك تصدر أوامرها الرسمية بارتكاب الفظائع والبشائع التي لا يكاد يصدِّقها السامع مما نمسك اليَرَاع عن تعداده في هذا المقام لعدم دخوله في موضوع الكتاب، لا سيما وأن التلغرافات والجرائد تتوارد علينا في كل يوم ببيان هذه الأنباء الشنيعة، وذلك بخلاف الدولة العلية؛ فإن جميع الناس تعيش فيها بغاية الحرية والسلام، وكل المطرودين من الدول الأوروبية يفدون إلى أراضيها فيرتعون في بحبوحة الراحة والهناء آمنين على أنفسهم وأعراضهم وعروضهم، وقد أصبحت الآن ملجأً وحيدًا لكل من تلفظه الدول الأخرى من أبناء الإنسان. فماذا يكون حظ هؤلاء المذكورين إذا جارتهنَّ في هذا المضمار وناظرتهن في هذه الفعال.
هذه حسنة من أقل حسناتها يحق للعثماني مهما كان جنسه ودينه أن يفاخر بها ويذكرها في كل فرصة وفي كل حين، وفي ذلك أكبر داعٍ وأعظم باعث يدفع إلى الوقوف على تفاصيل تاريخها والنظر بعين الاعتبار إلى ما جرى لها وعليها من التقدم والتأخر والارتفاع والانحطاط؛ فإن الوقوف على هذه الماجريات مما يهذِّب النفوس، ويقوِّم الأخلاق، ويقوِّي روابط الوطنية، ويعزز الجامعة الملية. وبذلك تتماسك أجزاء هذه الدول الجليلة؛ فيتقوَّى مجموعها ويتأكَّد قوامها بل حياتها. وأيُّ شرقي — مسلمًا كان أو غير مسلم — لا تهزه النخوة القومية والحمية الملية إلى المحافظة على بقائها سعيًا في بقاء نفسه وتأييدها بكل ما في وسعه لتأييد بني جنسه؟! ولذلك دفعتني دواعي الضمير إلى العناية بحوادث هذه الدولة والوقوف على أحوالها. فلما أحطت علمًا بما يجب على كل شرقي معرفته من تاريخها حدَّثتني نفسي بوجوب تدوين هذا التاريخ ونشره بين أبناء الوطن ونصراء الملة، فشمَّرت عن ساعد الجد، وبذلت غاية الجهد، وأوردت في هذا التأليف من مواقف التحقيق ما وصلت إليه الطاقة، وضبطت الأعلام بقدر الإمكان، وشرحت في حواشي الكتاب أسماء الملوك والأعيان وبعض البلدان، معتمدًا في ذلك كله على الأمهات المعتبرة والأصول الموثوق بها، وقد قصدت بهذه الخدمة أن أقوم بفرض يجب على كل إنسان أداؤه لعرش الخلافة العظمى وملجأ الإسلام في هذا الزمان؛ مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي «عبد الحميد خان الثاني»، أمد الله في عمره وأيده بنصره.
إني أبتهل إلى الله القدير بأن يؤكد العروة الوثقى بين جلالته وولي أمرنا صاحب الحزم والتدبير، مولانا الجليل النبيل، صاحب الرأي الأصيل والمجد الأثيل، رب الحزم والعزم خديوينا الأفخم «عباس حلمي الثاني»، حفظه الله وأبقاه إعلاءً للوطن وإبقاءً لجامعة الملة، آمين.