السلطان الغازي سليمان خان الأول القانوني
ولد هذا الملك الذي بلغت الدولة العلية في مدته أعلى درجات الكمال في غرة شعبان سنة ٩٠٠ هجرية (الموافقة ٢٧ أبريل سنة ١٤٩٥م)، وهو عاشر ملوك آل عثمان، ولو عدَّه بعض المؤرخين حادي عشرهم باعتبار سليمان الذي نازع أخاه محمد جلبي المُلْكَ سلطانًا، فذلك خطأ لأنه لم يحكم بصفة قانونية، ولذلك أجمع المؤرخون على تسمية السلطان سليمان بالأوَّل واعتباره عاشر ملوك هذه الدولة، وهو الأصح.
وبمجرد وصول خبر موت أبيه قام قاصدًا القسطنطينية، ودخلها في يوم ١٦ شوَّال سنة ٩٢٦ (الموافق ٣٠ سبتمبر سنة ١٥٢٠)، وكان في انتظاره على إفريز السراي جنود الانكشارية، فقابلوه بالتهليل وطلب الهدايا المعتاد توزيعها عليهم عند تولية كل ملك، وبعد ظهر ذلك اليوم حضر بير محمد باشا من أدرنة وأخبر عن وصول جثة المرحوم السلطان سليم في اليوم التالي.
وفي صبيحة ١٧ شوال جرت رسوم المقابلات السلطانية؛ فوفد الأمراء والوزراء والأعيان يعزُّون السلطان بموت والده ويهنئونه بالخلافة في آن واحد وهو يقابلهم بملابس الحداد. وعند الظهر وصل إليه خبر قدوم الجثة فخرج لمقابلة النعش خارج المدينة، وسار في الجنازة حتى واروها التراب على أحد مرتفعات المدينة، وأمر ببناء جامع شاهق، وهو جامع سليمية، ومدرسة في المحل الذي دفن فيه.
وكانت باكورة أعماله بعد توزيع النقود على الانكشارية تعيين مربيه قاسم باشا مستشارًا خاصًّا، وإبلاغ توليته على عرش الخلافة العظمى إلى كافة الولاة وأشراف مكة والمدينة بخطابات مفعمة بالنصايح والآيات القرآنية المبيِّنة فضلَ العدل والقسط في الأحكام ووخامة عاقبة الظلم، وكان يستهلُّ خطاباته بالآية الشريفة إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
ولما وصل خبر توليته إلى حاكم الشام، واسمه الغزالي وهو من أصحاب قانصوه الغوري الذين خانوه في واقعة مرج دابق، تمرَّد وأشهر العصيان، واستولى على قلعة دمشق، وأرسل أحد أتباعه لاحتلال مدينة بيروت، واجتهد في استمالة خير بك العامل على مصر إليه، وأرسل إليه جوابًا يحثه فيه على العصيان مبينًا له سهولة النجاح بالنظر إلى بعدهم عن مقرِّ الخلافة وحداثة سنِّ السلطان، فجاوبه خير بك بأنه لا يشترك معه إلا إذا استولى على مدينة حلب، ولم يكن جوابه هذا إلا مداهنة وخداعًا؛ فإنه أرسل خطابات الغزالي إلى السلطان، فعين السلطان فرحات باشا أحد وزرائه لقمع هذا المتمرد ومعه جيش كافٍ لإخماد هذه الثورة قبل امتدادها.
فسار فرحات باشا بكل همة في أواخر ذي الحجة سنة ٩٢٦ (نوفمبر سنة ١٥٢٠)، ووصل إلى حلب في ٢٢ دسمبر، وكان الغزالي إذ ذاك محاصِرًا لها، فارتد على عقبيه بدون قتال عائدًا إلى دمشق، وتحصَّن فيها، فتأثره فرحات باشا بجنوده وحاصره فيها. وفي يوم ١٧ صفر سنة ٩٢٧ (الموافق ٢٧ يناير سنة ١٥٢١) خرج الغزالي من المدينة طلبًا للقتال فهزم، وقتل أغلب من كان معه، وفرَّ هو متنكرًا، لكن خانه بعض أتباعه وسلمه إلى فرحات باشا فقتله في ٨ صفر وأرسل رأسه إلى القسطنطينية.
(١) فتح مدينة بلغراد
وفي أول محرم سنة ٩٢٨ أمضيت بين الدولة العثمانية وجمهورية البنادقة معاهدة تجارية تؤيد المعاهدات السابقة، وزيد عليها أن وكيل الجمهورية في الآستانة (قنصلها) يجب تغييره كلَّ ثلاث سنوات، وأن قضايا التركات تنظر بطرفه، وأن يكون له الحق في إرسال ترجمان لحضور المرافعة في القضايا التي تقام ضد رعايا حكومته أمام المحاكم العثمانية، وأن يكون الخراج الذي يدفع منها إلى الدولة نظير احتلالها جزيرتيْ قبرص وزانطة عشرة آلاف دوكا عن الأولى وخمسمائة عن الثانية، ولهذه المعاهدة أهمية عظمى؛ لأنها أساس الامتيازات القنصلية ببلاد الدولة العلية.
(٢) فتح جزيرة رودس
وبعد ذلك عاد السلطان إلى القسطنطينية، ووفد إليها سفراء من قبل الروسيا والبندقية لتهنئته بالنصر، وأرسل إليه أيضًا ملك العجم سفيرًا لهذا الغرض، وأرسل معه خمسمائة فارس، ولما وصل إلى الآستانة أمر السلطان أن لا يدخلها معه إلا عشرون فقط، وفي شهر يونيو سنة ١٥٢٣ عزل الوزير الأوَّل؛ أي الصدر الأعظم بير محمد باشا بناءً على دسائس الوزير أحمد باشا طمعًا في وظيفته، لكن خاب مسعاه؛ فقد عين السلطان مكانه أحد خواصه — إبراهيم باشا — وعين أحمد باشا واليًا على مصر؛ لوفاة خير بك في الوقت الذي كان فيه السلطان محاصرًا لجزيرة رودس. ولما وصل أحمد باشا إلى القاهرة أخذ في استمالة من بقي من أمراء المماليك إليه بإقطاعهم الأراضي وإغضائه عما يرتكبون من أنواع الآثام والمظالم. ولما تحقق من إخلاصهم أعلن العصيان مرة واحدة، واستولى على القلعة بعد قتل حاميتها، فأرسل إليه السلطان أمرًا بعزله من ولاية مصر وبالعود إلى الآستانة وتسليم الولاية لخلفه «قره موسى»، فقتل الرسول وقره موسى الوالي الجديد، ثم خانه أحد وزرائه واسمه محمد بك وأراد القبض عليه فهرب واختفى عند عرب البادية، فاقتفى أثره حتى ضبطه وقتله، وأرسل رأسه إلى الآستانة؛ فعين بدله قاسم باشا الوالي الأسبق، وكوفئ محمد بك بتقليده وظيفة دفتردار الولاية سنة ١٥٢٤.
وفي ٢٤ رجب سنة ٩٣٠ (الموافق ٢٨ مايو سنة ١٥٢٤) ولد للسلطان غلام سمي سليمًا، وهو الذي خلفه باسم سليم الثاني، وفي ٢ شعبان (الموافق ٥ يونيو) احتفل بالآستانة بزواج الصدر الأعظم إبراهيم باشا بإحدى أخوات السلطان، ثم أرسله إلى مصر مع عدد عظيم من الانكشارية والسيباه (السواري) لإرجاع الأمن إلى ربوعها وترتيب ماليتها وتنظيم أمورها، فسافر ووصل إليها في ٢٤ مارس سنة ١٥٢٥، وأقام بالقاهرة حتى أتمَّ مأموريته، وغادرها في ٢٢ شعبان سنة ٩٣١ (الموافق ١٤ يونيو سنة ١٥٢٥) قاصدًا الآستانة عن طريق البرِّ مارًّا بدمشق وقيصرة، ووصل القسطنطينية في ٧ سبتمبر من السنة نفسها، وقوبل بكل إجلال واحترام لعلوِّ منزلته عند السلطان.
(٣) تداخل الدولة العلية في بلاد القرم والفلاخ وفتنة الانكشارية
وفي هذه الأثناء حصلت بعض فتن داخلية في بلاد القرم؛ وذلك أن غازي وبابا ولديْ محمد كراي — خان القرم — ثارا على والدهما وعمهما فقتلاهما سنة ٩٢٩ (سنة ١٥٢٢م) وتقلَّد غازي كراي — أكبرهما — الإمارة وجعل أخاه وزيرًا له، لكن لم يقبل السلطان ذلك، بل عين عمهما سعادت كراي خانًا بدل أخيه محمد كراي المقتول، وأمدَّه بجيش من الانكشارية، فقبل غازي تعيين عمه وصار هو وزيرًا له. وبعد ذلك بستة أشهر قُتل غازي وأخوه بابا بأمر عمهما سعادت. وفي سنة ٩٣٨ (سنة ١٥٣١) قام أخوهما إسلام كراي واستولى على الإمارة، وفرَّ سعادت إلى القسطنطينية، ومكث بها حتى توفي سنة ٩٤٤ (سنة ١٥٣٧)، ودفن بجامع أبي أيوب بالآستانة، وكانت نتيجة هذه الفتن زيادة تدخل الدولة العلية في أمور بلاد القرم حتى في تعيين أمرائها، وصارت بذلك ولاية عثمانية تقريبًا.
وفي سنة ١٥٢٤ أراد السلطان أن يجعل إقليم الفلاخ ولاية عثمانية، ولم يكن للدولة عليه إذ ذاك إلا السيادة والجزية فسيَّر إليه جيشًا استولى على عاصمتها وعلى أميرها، وأرسلوه إلى الآستانة؛ فثار الأعيان وعيَّنوا خلفًا له، وساعدهم على ذلك أمير إقليم ترنسلفانيا المجاور له، فقبل السلطان من عينوه في مقابلة زيادة الجزية عما كانت عليه.
هذا؛ وفي ٢٥ مارس سنة ١٥٢٥ تذمَّر الانكشارية بعد عودة السلطان من مدينة أدرنة التي كان توجه إليها للإقامة بها في فصل الشتاء، ونهبوا سراي إبراهيم باشا الصدر الأعظم الذي كان إذ ذاك بمصر، ومحل الجمرك، وعدَّة أماكن أخرى من منازل الأعيان، وحارة اليهود، ولولا أن تدارك السلطان الخطب بنفسه لامتدَّ العصيان، لكنه أسكتهم عن السلب والنهب بتوزبع ألف دوكا عليهم، ثم بعد ذلك عزل بعض رؤسائهم الذين كانوا سبب هذا العصيان وقتل بعضهم.
(٤) ابتداء المخابرات والمراسلات بين الدولة العلية وملك فرنسا
وفي ذلك العهد ابتدأت المخابرات بين ملك فرنسا والدولة العلية؛ وذلك أن شارلكان — ملك النمسا — كان في آن واحد ملكًا لإسبانيا والبلاد المنخفضة (هولاندا) وإمبراطورًا لألمانيا وحاكمًا لجزء عظيم من إيطاليا الجنوبية، وكانت جمهوريتا جنوا وفلورنسا تابعتين إليه وجمهورية البنادقة طوع أمره ومدينة وهران بإقليم جزائر الغرب تابعة له، وكذلك جزيرة مينورقة وجزيرة صقلية، فكانت أملاكه محيطة بمملكة فرنسا من جميع الجهات إلا من جهة البحر.
ولذلك سعى فرنسيس الأوَّل — ملك فرنسا — في التحالف مع دولة آل عثمان والاتِّحاد معها على محاربة شارلكان لتحاربه الدولة العلية من جهة المجر والنمسا وتشغله عن جيوش فرنسا من جهة الغرب، فيتمكن ملك فرنسا بذلك من الأخذ بثأر واقعة «بافيا» بإيطاليا التي أخذ فيها فرنسيس الأوَّل أسيرًا.
ويظهر من سعي فرنسا في استمالة الدولة العلية الإسلامية إليها وبذل الجهد في محالفتها مع كون فرنسا معتبرة لدى البابا أوَّل الدول الكاثوليكية وأهمها محافظة على عدم تقدم الإسلام بأوروبا؛ أن الدولة العثمانية بلغت في ذلك الوقت شأنًا عظيمًا لم تبلغه من قبل، وصار وجودها ضروريًّا لحفظ التوازن السياسي بأوروبا.
وأوَّل سفير أرسل من قبل فرنسا إلى الباب العالي أرسلته الملكة لويز زوجة فرنسيس الأول حالة وجوده مأسورًا في بلاد إسبانيا، لكن لم يصل هذا السفير إلى الباب العالي، بل قَبَضَ عليه حاكم بوسنة أثناء مروره قاصدًا القسطنطينية، وقتله هو وأتباعه. وفي أواخر سنة ١٥٢٥ أرسل سفير آخر وهو جان فرنجباني ووصل القسطنطينية ومعه جواب من ملك فرنسا إلى جلالة السلطان الأعظم يطلب منه بكل تواضع أن يهاجم ملك المجر — أحد حلفاء شارلكان — حتى يمنعه من مساعدته، ويمكِّن فرنسا بذلك أن تنتصر على شارلكان وتستردَّ ما سلبه منها من الشرف في واقعة بافيا.
الله العليُّ المعطي المغني المعين
بعناية حضرة عزة الله جلت قدرته وعلت كلمته، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء وقدوة فرقة الأصفياء؛ محمد المصطفى ﷺ الكثيرة البركات، وبمؤازرة قدس أرواح حماية الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي — رضوان الله تعالى عليهم أجمعين — وجميع أولياء الله. أنا سلطان السلاطين، وبرهان الخواقين، متوِّج الملوك، ظل الله في الأرضين، سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والأناضول والروملي وقرمان الروم وولاية ذي القدرية، وديار بكر، وكردستان، وأذربيجان، والعجم، والشام، وحلب، ومصر، ومكة، والمدينة، والقدس، وجميع ديار العرب، واليمن، وممالك كثيرة أيضًا، التي فتحها آبائي الكرام وأجدادي العظام بقوَّتهم القاهرة، أنار الله براهينهم، وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر.
أنا السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان، إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا: وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم فرانقبان النشيط مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيًّا، وأعلمنا أن عدوَّكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عرض على أعتاب سرير سدَّتنا الملوكانية، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل، فصار بتمامه معلومًا، فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم؛ فكن منشرح الصدر ولا تكن مشغول الخاطر؛ فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام — نور الله مراقدهم — لم يكونوا خالين من الحرب لأجل فتح البلاد وردِّ العدو، ونحن أيضًا سالكون على طريقتهم وفي كل وقت نفتح البلاد الصعبة والقلاع الحصينة وخيولنا ليلًا ونهارًا مسروجة وسيوفنا مسلولة، فالحق — سبحانه وتعالى — ييسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال والأخبار تفهمونها من تابعكم المذكور. فليكن معلومكم هذا تحريرًا في أوائل شهر آخر الربيعين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.
(٥) فتح بلاد المجر وعاصمتها
وفي ٢٥ أبريل سنة ١٥٢٦ سافر السلطان سليمان من القسطنطينية لمحاربة المجر الذين كانت الحرب غير منقطعة بينهم وبين العثمانيين على التخوم، وكان الجيش العثماني مؤلفًا من نحو مائة ألف جندي و٣٠٠ مدفع و٨٠٠ سفينة في نهر الطونة لنقل الجيوش من بر إلى آخر، فسار الجيش تحت قيادة السلطان ووزرائه الثلاثة إلى بلاد المجر من طريق الصرب مارِّين بقلعة بلغراد التي جعلت قاعدة لأعمالهم الحربية.
وبعد دخول السلطان إلى مدينة بود جمع أعيان القوم وأمراءهم ووعدهم بأن يعين جان زابولي أمير ترنسلفانيا ملكًا عليهم، ثم غادر — رحمه الله — إلى مقرِّ خلافته مستصحبًا معه كثيرًا من نفائس البلاد، وأهمها الكتب التي كانت موجودة في خزائن متياس كورفن، وكذلك فعل نابليون الشهير حينما دخل مصر في أوائل القرن الثالث عشر من الهجرة؛ فإنه أخذ كثيرًا من كتب الفقه وأحكام الشريعة الغرَّاء، وتلك كانت عادته عند دخوله أي مملكة من ممالك أوروبا، فإنه كان يحمل إلى فرنسا كلَّ ما بها من التحف كالصور والتماثيل، والكتب والآثار، ولولا هذه العادة لما أفعمت متاحفها بالآثار والنفائس.
وفي أثناء عودته أقام أسبوعًا في مدينة أدرنة، ووصل إلى مدينة القسطنطينية المحمية في ١٧ صفر سنة ٩٣٣ (الموافق ٢٣ نوفمبر سنة ١٥٢٦).
(٦) إغارة ملك النمسا على المجر وفتحه مدينة بود وانتصار العثمانيين عليه واسترجاع المجر
وفي أواخر سنة ١٥٢٧ ادعى فردينان — ملك النمسا (وهو أخو شارلكان الشهير) — الأحقية في أن يكون ملكًا على بلاد المجر بسبب قرابته مع الملك لويس الذي قتل في واقعة موهاكس، وسار بجنوده لمحاربة جان زابولي — أمير ترنسلفانيا — الذي عينه السلطان سليمان ملكًا على بلاد المجر وهزمه، فأرسل زابولي إلى السلطان سليمان يستنجده على منازعه في الملك، ووصل رسوله إلى الباب العالي وقابل السلطان في ٣ فبراير سنة ١٥٦٨، فوعده السلطان بمساعدته، وأمضيت معاهدة بذلك بتاريخ ٢٩ فبراير سنة ١٥٢٨م. وبناءً على هذا الاتفاق أصدر السلطان الأوامر إلى جميع الجهات بالاستعداد للحرب وجمع الجيوش والذخائر، وعين وزيره الأوَّل إبراهيم باشا — السابق ذكره مرارًا — سر عسكر للجيش؛ أي قائدًا عامًّا له، مكافأة له على خدماته الجليلة في مصر حين أرسل إليها لترتيب أحوالها، ولما أظهره من المعلومات العسكرية في واقعة موهاكس الأخيرة. وبعد ذلك بسنة تقريبًا سافر السلطان سليمان من الآستانة قاصدًا محاربة المجر في ١٠ مايو سنة ١٥٢٩ يقود جيشًا مؤلفًا من مائتين وخمسين ألف جندي ونحو ثلاثمائة مدفع، ووصل إلى مدينة فيليبه في ١٢ شوَّال سنة ٩٣٦ (الموافق ٩ يونيو سنة ١٥٢٩) ومنها إلى مدينة «موهاكس»، حيث أتى «زابولي» لمقابلة السلطان فقابله في ١٦ ذي الحجة سنة ٩٣٦ (الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٥٢٩) محاطًا بوزرائه الثلاثة إبراهيم باشا وإياس باشا وقاسم باشا وبكافة القوَّاد. وبعد أن مكث زابولي — ملك المجر — بحضرته العلية وقتًا قليلًا أذن له السلطان بالانصراف بعد أن أعطاه ثلاثة من الخيول المطهَّمة وثلاث خلع سنية.
(٧) ابتداء الحروب مع النمسا وحصار ويانة عاصمتها أول دفعة
وبعد إعادة زابولي إلى عرش ملك بلاد المجر بمساعدة الجيوش العثمانية، قام السلطان بجيوشه قاصدًا مدينة «ويانة» لغزوها، مستصحبًا معه الملك زابولي، تاركًا في مدينة بود حامية عثمانية تحت قيادة أحد أغاوات (ضباط) الانكشارية لحفظ الأمن بها وتوطيده في جميع أنحائها إلى أن يعود الملك زابولي إليها. وفي ٢٧ سبتمبر من السنة المذكورة وصل السلطان سليمان بجيوشه أمام عاصمة بلاد النمسا، ووضع الحصار حولها، وسلط مدافعه على أسوارها؛ فهدم جزءًا منها وفتح بها ثلمًا صار توسيعه بألغام البارود حتى صار يمكن الجيوش الهجوم منه بكل سهولة. ثم أمر الجنود بالهجوم؛ فهجمت كالأسود في أيام ١٠ و١١ و١٢ أكتوبر، وأخيرًا في يوم ٢٠ صفر سنة ٩٣٧ﻫ (الموافق ١٤ أكتوبر سنة ١٥٢٩)، وبعد أن استمرَّ القتال طول يومه عادت الجنود العثمانية إلى معسكرها بدون أن تقوى على الدخول في المدينة.
ولما رأى السلطان أن ذخيرة الطوبجية التي عليها المعول في الحصار قد نفدت والشتاء قد أقبل بشدته وثلوجه المعهودة في هذه الجهات الشديدة البرودة، أصدر أوامره بالرجوع عن ويانة هذه السنة وإعداد الجيوش لمعاودة الكرة عليها في أقرب وقت، وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم يفز السلطان سليمان بالنصر فيها. ومرَّ في عودته على مدينة «بود» عاصمة المجر، وبعد أن ودَّع ملكها زابولي عاد إلى القسطنطينية من طريق بلغراد.
وفى ربيع سنة ١٥٣١ أرسل ملك النمسا جيشًا لمحاصرة مدينة «بود» واستخلاصها من قبضة «زابولي» — خليفة العثمانيين وحليفهم — فصُدُّا عنها بقوة الحامية الإسلامية المعسكرة فيها. وفي ١٩ رمضان سنة ٩٣٨ (الموافق ٢٥ أبريل سنة ١٥٣٢) سار السلطان سليمان قاصدًا مدينة ويانة ثانية لفتحها ومحو ما لحقه من الفشل أمامها في المرة الأولى بعد أن رفض ما عرضه عليه فردينان أرشيدوق النمسا من الصلح. ولما وصل إلى مدينة نيش ببلاد الصرب وجد في انتظاره سفراء من قبل أرشيدوق النمسا، ووجد بمدينة بلغراد سفيرًا جديدًا من قبل ملك فرنسا (فرانسوا الأول) وهو المسيو «رنسون»، فقابله السلطان في أول ذي الحجة سنة ٩٣٨ (الموافق ٥ يوليو سنة ١٥٣٢) باحتفال فائق لم يسبق مثله لأي سفير غيره؛ وذلك أنه صُفَّ لاستقباله عدد عظيم من الجنود، وأطلقت المدافع تحية لقدومه، وقابله السلطان مقابلة خصوصية محاطًا بوزرائه وقوَّاد جيوشه على ضدِّ ما حصل لمراسلي فردينان الذين قوبلوا بكل تحقير وامتهان، وبعد المقابلة وتبادل عبارات السلام بين السفير الفرنساوي وجلالة الخليفة الأعظم عاد السفير لملكه حاملًا خطابًا لمرسله يؤكد السلطان فيه اتحادهما على محاربة شارلكان، ووعده بإمداده بالعمارة العثمانية إذا مست الحاجة.
ثم سار الجيش الهوينا إلى عاصمة النمسا، ولما اقترب منها مال إلى جهة اليسار قاصدًا إقليم «إستيريا»، ومنها عاد إلى بلغراد ثانيًا بدون أن يحاصر مدينة ويانة لما بلغه من استعداد شارلكان للدفاع عنها، وجمع الجيوش فيها بين نمساويين وألمان وإسبانيول وغيرهم، وعدم وجود مدافع حصار معه، ولاقتراب فصل الشتاء بزمهريره وجليده اللذين لا يمكن معهما استمرار الحصار بكيفية ضامنة لفتحها وإدخالها في حوزة الإسلام كما فتحت بلاد المجر وعاصمتها من قبلها.
ولما وصل السلطان في إيابه إلى مدينة فيليبه عين «صاحب كراي» التتري خانًا لبلاد القرم بدل أخيه؛ مكافأة له على خدماته أثناء مرور الجيش بأراضي النمسا، ورتَّب لأخيه سعادت كراي معاشًا سنويًّا يليق بمقامه. وفي ١٩ ربيع الآخر سنة ٩٣٩ (الموافق ١٨ نوفمبر سنة ١٥٣٢) عاد السلطان إلى مدينة القسطنطينية، وزينت المدينة وضواحيها عدَّة ليالٍ متواليات احتفالًا بعودة جلالته.
وفي أوائل سنة ١٥٢٣ أرسل فردينان أرشيدوق النمسا سفيرًا من قبله يدعى جيروم دي زار إلى الآستانة يعرض طلب الصلح على جلالة السلطان، فقابل الصدر الأعظم إبراهيم باشا وتباحثا في شروط الصلح. وفي يوم ١٤ يناير سنة ١٥٣٣ قابل السلطان السفير ولم يقبل السلطان الصلح، بل قبل المهادنة مؤقتًا حتى تسلم إليه مفاتيح مدينة «جران» وبعدها تُحَوَّل الهدنة إلى صلح، فأرسل السفير ابنه فسبازيان دي زارا في أوَّل فبراير إلى ويانة يصحبه رسول من قبل السلطان لعرض هذه الشروط على فردينان، فعرضها فردينان على أكابر الدولة وأعيانها فقبلوها، وأرسل إلى الآستانة خطابًا بذلك على يد الرسول العثماني في ٢٩ مايو سنة ١٥٣٣. وبعد ذلك تحررت بين الطرفين معاهدة الصلح في ٢٢ يونيو سنة ١٥٣٣ (الموافق ٢٨ ذي القعدة سنة ٩٣٩)، وأهم ما فيها أن يردَّ النمساويون مدينة كورون للدولة العلية ولا يردُّوا شيئًا مما فتحوه من بلاد المجر، وأن ما تتفق عليه النمسا مع زابولي صاحب بلاد المجر لا ينفذ ما لم يعتمده جلالة السلطان العثماني، وهي أوَّل معاهدة صلح بين النمسا والباب العالي.
(٨) دخول العثمانيين مدينة تبريز ثاني دفعة
هذا؛ وقد حصل في أثناء اشتغال السلطان بمحاربة النمسا بعض اضطرابات على حدود بلاد العجم، وساعد على ذلك خيانة شريف بك — خان مدينة بدليس، الواقعة على حدود المملكتين — وانحيازه إلى مملكة العجم. ولذلك أرسل السلطان وزيره الأول إبراهيم باشا لمحاربة هذا العاصي والسير بعد ذلك إلى مدينة تبريز عاصمة العجم لفتحها، فسافر إبراهيم باشا، وقبل وصوله إلى قونية وصل إليه في ٢ ربيع الآخر سنة ٩٤٠ (الموافق ٢١ أكتوبر سنة ١٥٣٣) شمس الدين ابن حاكم أذربيجان، الذي كان تابعًا لملك العجم، وانضم إلى السلطنة العثمانية ومعه رأس شريف بك الذي حاربه والده وقتله، ولذلك سار إبراهيم باشا إلى مدينة حلب لإمضاء فصل الشتاء بها. وفي أوائل ربيع سنة ١٥٣٤ قام منها بجيوشه قاصدًا مدينة تبريز ففتح في طريقه جميع الحصون والقلاع المجاورة لبحيرة «وان»، ووصل بدون كبير معارضة إلى تبريز ودخلها بسلام في غرة شهر محرم الحرام سنة ٩٤١ﻫ (الموافق ١٣ يوليو سنة ١٥٣٤م) وبنى بها قلعة، وجعل في وسطها حامية عثمانية لمنع السكان عن إتيان كل ما يمكن أن يكدر صفو الراحة العمومية.
(٩) فتح مدينة بغداد
وفي ٢٧ سبتمبر من السنة المذكورة (١٦ صفر سنة ٩٤١) وصل السلطان سليمان الغازي إلى تبريز؛ فقابله الأهالي بكل تبجيل وتعظيم، وبعد أن عين السلطان ابن الأمير شيروان قائدًا لحامية مدينة تبريز وقبل خضوع أمير كيلان المدعو ملك مظفر خان، وغيره من أمراء الفرس الذين تركوا لواء شاه طهماسب — ملك العجم — وانحازوا إلى ظل الخليفة الأعظم، سار السلطان بجيوشه إلى مدينة سلطانية التي تقهقر إليها الشاه بجيوشه، لكن لصعوبة الطرق واستحالة مرور المدافع الضخمة وعربات النقل بها لكثرة الأمطار والأوحال تركها السلطان وقصد مدينة بغداد لفتحها، فلما اقترب منها تقدَّم إبراهيم باشا — الصدر الأعظم وسر عسكر الجيوش العثمانية — لاحتلالها قبل قدوم السلطان، فدخلها في يوم ٢٤ جمادى الآخرة سنة ٩٤١ (الموافق ٣١ دسمبر سنة ١٥٣٤) ووجدها خاوية من الجنود؛ إذ تركها حاكمها بكل جنوده هربًا من الوقوع في قبضة الجنود العثمانية فيذيقونه الحِمام. وبعد أن أقام السلطان في مدينة بغداد مدة أربعة أشهر رتَّب الإدارة الداخلية في خلالها وزار قبور الأئمة العظام وقبر الإمام عليٍّ رابع الخلفاء الراشدين — كرم الله وجهه — في مدينة النجف، وقبر ابنه الحسين في كربلا، وأرسل الخطابات إلى البندقية وويانة إعلانًا بانتصاره على الشاه طهماسب وافتتاحه مدائن تبريز وبغداد.
وفي ٢٨ رمضان سنة ٩٤١، الموافق ٢ أبريل سنة ١٥٣٥، سافر السلطان بجيوشه عائدًا إلى مدينة تبريز مارًّا ببلاد الأكراد وإقليم المراغة، وولى سليمان باشا — أحد قوَّاد جيوشه — على مدينة بغداد ومعه ألفا جندي لحمايتها. وفي أثناء مسيره وصل إلى معسكره سفير فرنساوي اسمه مسيو «لافوري» أرسل لتهنئته على فتوحاته الأخيرة. ثم وصل إلى مدينة تبريز رابع المحرم سنة ٩٤٢، وأقام بها ١٥ يومًا قضاها في تعيين الولاة على المدائن المفتتحة حديثًا وترتيب شئون الداخلية، ثم قفل راجعًا إلى الآستانة فوصلها في ١٤ رجب سنة ٩٤٢ (الموافق ٨ يناير سنة ١٥٣٦).
(١٠) الامتيازات القنصلية
- البند الأول: قد تعاهد المتعاقدان بالنيابة عن جلالة الخليفة الأعظم وملك فرنسا على السلم الأكيد والوفاق الصادق مدة حياتهما، وفي جميع الممالك والولايات والحصون والمدن والموانئ والثغور والبحار والجزائر، وجميع الأماكن المملوكة لهما الآن أو التي تدخل في حوزتهما فيما بعد، بحيث يجوز لرعاياهما وتابعيهما السفر بحرًا بمراكب مسلحة أو غير مسلحة، والتجول في بلاد الطرف الآخر والمجيء إليها والإقامة بها أو الرجوع إلى الثغور والمدن أو غيرها بقصد الاتجار على حسب رغبتهم بكمال الحرية بدون أن يحصل لهم أدنى تعدٍّ عليهم أو على متاجرهم.
- البند الثاني: يجوز لرعايا وتابعي الطرفين البيع والشراء والمبادلة في كافة السلع الغير الممنوع الاتجار فيها ولسيرها ونقلها برًّا وبحرًا من مملكة إلى أخرى مع دفع العوائد والضرائب المعتادة قديمًا، بحيث يدفع الفرنساوي في البلاد العثمانية ما يدفعه الأتراك، ويدفع الأتراك في البلاد الفرنساوية ما يدفعه الفرنساويون بدون أن يدفع أي الطرفين عوائد أو ضرائب أو مكوسًا أخرى.
- البند الثالث: كلما يعين ملك فرنسا قنصلًا في مدينة القسطنطينية أو في بيرا أو غيرهما من مدائن المملكة العثمانية كالقنصل المعين الآن بمدينة الإسكندرية يصير قبوله ومعاملته بكيفية لائقة، ويكون له أن يسمع ويحكم ويقطع بمقتضى قانونه وذمته في جميع ما يقع في دائرته من القضايا المدنية والجنائية بين رعايا ملك فرنسا بدون أن يمنعه من ذلك حاكم أو قاضٍ شرعي أو «صوباشي» أو أيُّ موظف آخر، ولكن لو امتنع أحد رعايا الملك عن إطاعة أوامر أو أحكام القنصل فله أن يستعين بموظفي جلالة السلطان على تنفيذها وعليهم مساعدته ومعاونته، وعلى أي حال ليس للقاضي الشرعي أو أي موظف آخر أن يحكم في المنازعات التي تقع بين التجار الفرنساويين وباقي رعايا فرنسا حتى لو طلبوا منه الحكم بينهم، وإن أصدر حكمًا في مثل هذه الأحوال يكون حكمه ملغًى لا يُعمل به مطلقًا.
- البند الرابع: لا يجوز سماع الدعاوى المدنية التي يقيمها الأتراك أو جباة الخراج أو غيرهم من رعايا جلالة السلطان ضد التجار أو غيرهم من رعايا فرنسا أو الحكم عليهم فيها ما لم يكن مع المدَّعين سندات بخط المدَّعى عليهم أو حجة رسمية صادرة من القاضي الشرعي أو القنصل الفرنساوي. وفي حالة وجود سندات أو حجج لا تسمع الدعوى أو شهادة مقدِّمها إلا بحضور ترجمان القنصل.
- البند الخامس: ولا يجوز للقضاة الشرعيين أو غيرهم من مأموري الحكومة العثمانية سماع أي دعوى
جنائية أو الحكم ضد تجار ورعايا فرنسا بناءً على شكوى الأتراك أو جباة الخراج أو
غيرهم من رعايا الدولة العلية، بل على القاضي أو المأمور الذي ترفع إليه الشكوى أن
يدعو المتهمين بالحضور بالباب العالي محل إقامة الصدر الأعظم الرسمي.
وفي حالة عدم وجود الباب المشار إليه (أي إذا حصلت الواقعة في محل غير الآستانة) يدعوهم أمام أكبر مأموري الحكومة السلطانية، وهناك يجوز قبول شهادة جابي الخراج والشخص الفرنساوي ضد بعضهما.
- البند السادس: لا يجوز محاكمة التجار الفرنساويين ومستخدميهم وخادميهم فيما يختص بالمسائل الدينية أمام القاضي أو السنجق بك أو الصوباشي أو غيرهم من المأمورين، بل تكون محاكمتهم أمام الباب العالي، ومن جهة أخرى يكون مصرحًا لهم باتباع شعائر دينهم، ولا يمكن جبرهم على الإسلام أو اعتبارهم مسلمين ما لم يُقِرُّوا بذلك غير مكرهين.
- البند السابع: لو تعاقد واحد أو أكثر من رعايا فرنسا مع أحد العثمانيين أو اشترى منه بضائع أو استدان منه نقودًا ثم خرج من الممالك العثمانية قبل أن يقوم بما تعهد به، فلا يُسأل القنصل أو أقارب الغائب أو أي شخص فرنساوي آخر عن ذلك مطلقًا، وكذلك لا يكون ملك فرنسا ملزمًا بشيء، بل عليه أن يوفي طلب المدعي من شخص المدعى عليه أو أملاكه لو وجدت بأراضي الدولة الفرنساوية أو كان له أملاك بها.
- البند الثامن: لا يجوز استخدام التجار الفرنساويين أو مستخدميهم أو خدامهم أو سفنهم أو «قواربهم» أو ما يوجد بها من اللوازمات أو المدافع والذخائر أو التجارة جبرًا عنهم في خدمة جلالة السلطان الأعظم أو غيره في البر والبحر ما لم يكن ذلك بطوعهم واختيارهم.
- البند التاسع: يكون لتجار فرنسا ورعاياها الحق في التصرف في كافة متعلقاتهم بالوصية بعد موتهم، وعند وفاة أحد منهم وفاةً طبيعية أو قهرية عن وصية فتوزع أمواله وباقي ممتلكاته على حسب ما جاء بها، ولو توفي ولم يوصِ فتسلم تركته إلى وارثه أو الوكيل عنه بمعرفة القنصل لو كان في محل وفاته قنصل، وإلا فتحفظ التركة بمعرفة قاضي الجهة بعد أن تعمل بها قائمة جرد على يد شهود. أما لو كانت الوفاة في جهة بها قنصل فلا يكون للقاضي أو مأمور بيت المال أو غيرهما حق في ضبط التركة مطلقًا، ولو سبق ضبطها بمعرفة أحد منهم يصير تسليمها إلى القنصل أو من ينوب عنه لو طلبها قبل الوارث أو وكيله، وعلى القنصل توصيلها وتسليمها إلى صاحب الحق فيها.
- البند العاشر: بمجرد اعتماد جلالة السلطان وملك فرنسا لهذه المعاهدة فجميع رعاياهما الموجودين
عندهما أو عند تابعيهما أو على مراكبهما أو سفنهما أو في أي محل أو إقليم تابع
لسلطتهما في حالة الرق، سواء أكان ذلك بشرائهم أو بأسرهم وقت الحرب، يصير إخراجهم
فورًا من حالة الاسترقاق إلى بحبوحة الحرية بمجرد طلب وتقرير السفير أو القنصل أو
أي شخص آخر معين لهذا الخصوص، ولو كان أحدهم قد غيَّر دينه ومعتقده فلا يكون ذلك
مانعًا لإطلاق سراحه.
ومن الآن فصاعدًا لا يجوز لجلالة السلطان أو ملك فرنسا ولا لقبودانات البحر ورجال الحرب أو أي شخص آخر تابع لأحدهما أو لمن يستأجرونهم لذلك — سواء في البر والبحر — أخذ أو شراء أو بيع أو حجز أسراء الحرب بصفة أرقَّاء، ولو تجاسر قرصان أو غيره من رعايا إحدى الدولتين المتعاقدتين على أخذ أحد رعايا الطرف الآخر أو اغتصاب أملاكه أو أمواله يصير إخبار حاكم الجهة، وعليه ضبط الفاعل ومعاقبته على مخالفته شروط الصلح عبرة لغيره، ورد ما يوجد عنده من الأشياء المغتصبة إلى من أُخِذَتْ منه، وإذا لم يضبط الفاعل فيمنع هو وجميع شركائه من الدخول في البلاد وتضبط ممتلكاته لجانب الحكومة التابع إليها، ويصير التعويض على ما حصل له من الضرر مما يصادر من أملاك الجاني، وهذا لا يمنع من مجازاته لو صار ضبطه فيما بعد. وللمجني عليه أن يستعين على الحصول على ذلك بضامني هذا الصلح، وهم السر عسكر عن الجناب السلطاني وأكبر القضاة عن ملك فرنسا.
- البند الحادي عشر: لو تقابلت دونانمات إحدى الدولتين المتعاقدتين ببعض مراكب رعايا الدولة الأخرى، فعلى هذه المراكب تنزيل قلوعها ورفع أعلام دولتها حتى إذا علمت حقيقتها لا تحجزها أو تضايقها السفن الحربية أو أي تابع آخر للدولة صاحبة الدونانمة، وإذا حصل ضرر لأحدهما فعلى الملك صاحب الدونانمة تعويض هذا الضرر فورًا، وإذا تقابلت سفن رعايا الدولتين فعليهما رفع العلم وإبداء السلام بطلقة مدفع والمجاوبة بالصدق لو سئل ربانها عن الدولة التابع إليها، ولما تُعلم حقيقتها لا يجوز لإحداها أن تفتش الأخرى بالقوة أو تسبب لها أي عائق كان.
- البند الثاني عشر: إذا وصلت إحدى المراكب الفرنساوية، سواء بطريق الصدفة أو غيرها إلى إحدى موانئ أو شطوط الدولة العلية تعطى ما يلزمها من المأكولات وغيرها من الأشياء مقابل دفع الثمن المناسب بدون إلزامها تفريغ ما بها من البضائع لدفع الأثمان، ثم يباح لها الذهاب أينما تُريد، وإذا وصلت إلى الآستانة وأرادت السفر منها بعد الاستحضار على جواز الخروج من أمين الجمرك ودفع الرسم اللازم وتفتيشها بمعرفة الأمين المشار إليه فلا يجوز ولا يمكن تفتيشها في أي محل آخر إلا عند الحصون المقامة بمدخل بوغاز جاليبولي «الدردنيل» بدون دفع شيء مطلقًا لا عند هذا البوغاز ولا في أي مكان آخر عند خروجها خلاف ما صار دفعه، سواء كان الطلب باسم جلالة السلطان أو أحد مأموريه.
- البند الثالث عشر: لو كسرت أو أغرقت مراكب إحدى الدولتين بالصدفة أو غيرها عند البلاد التابعة للطرف الآخر، فمن ينجو من هذا الخطر يبقى متمتعًا بحريته لا يمانع في أخذ ما يكون له من الأمتعة وغيرها. أما لو غرق جميع من بها فما يمكن تخليصه من البضائع يسلم إلى القنصل أو نائبه لتسليمها لأربابها بدون أن يأخذ القبودان باشا أو السنجق بك أو الصوباشي أو القاضي أو غيرهم من مأموري الدولة أو رعاياها شيئًا منها، وإلا فيعاقب من يرتكب ذلك بأشدِّ العقاب، وعلى هؤلاء المأمورين أن يساعدوا من يخصص لاستلام الأشياء المذكورة.
- البند الرابع عشر: لو هرب أحد الأرِقَّاء المملوكين لأحد العثمانيين واحتمى في بيت أو مركب أحد الفرنساويين فلا يجبر الفرنساوي إلا على البحث عنه في بيته أو مركبه، ولو وجد عنده يعاقب الفرنساوي بمعرفة قنصله ويردُّ الرقيق لسيده، وإذا لم يوجد الرقيق بدار أو مركب الفرنساوي فلا يسأل عن ذلك مطلقًا.
- البند الخامس عشر: كل تابع لملك فرنسا إذا لم يكن أقام بأراضي الدولة العلية مدَّة عشر سنوات
كاملة بدون انقطاع لا يلزم بدفع الخراج أو أي ضريبة أيًّا كان اسمها ولا يلزم
بحراسة الأراضي المجاورة أو مخازن جلالة السلطان، ولا بالشغل في الترسانة أو أي عمل
آخر، وكذلك تكون معاملة رعايا الدولة في بلاد فرنسا.
وقد اشترط ملك فرنسا أن يكون للبابا وملك إنكلترا أخيه وحليفه الأبدي وملك إيقوسيا الحق في الاشتراك بمنافع هذه المعاهدة لو أرادوا بشرط أنهم يبلغون تصديقهم عليها إلى جلالة السلطان، ويطلب منه اعتماد ذلك في ظرف ثمانية شهور تمضي من هذا اليوم.
- البند السادس عشر: يرسل كل من جلالة السلطان وملك فرنسا تصديقه للآخر على هذه المعاهدة في ظرف ستة شهور تمضي من تاريخ إمضائها مع الوعد من كليهما بالمحافظة عليها والتنبيه على جميع العمال والقضاة والمأمورين وجميع الرعايا بمراعاة كامل نصوصها بكل دقة. ولكي لا يدعي أحد الجهل بهذه المعاهدة يصير نشر صورتها في الآستانة والإسكندرية ومصر ومرسيليا وناربونة، وفي جميع الأماكن الأخرى الشهيرة في البر والبحر التابعة لكل من الطرفين. انتهت المعاهدة.
وبذلك صارت فرنسا الدولة الأوروباوية الوحيدة الحائزة امتيازات لرعاياها. ولكن كان هذا الاتفاق سببًا في تداخل فرنسا وباقي دول أوروبا في شئون المملكة الداخلية، خصوصًا في هذا القرن الأخير كما سيجيء. وكانت هي آخر أعمال الصدر الأعظم إبراهيم باشا، فإن السلطان توجس منه خيفة لازدياد نفوذه على الجنود والقوَّاد وازداد تحذره منه بعد محاربته العجم الأخيرة التي كان فيها إبراهيم باشا المذكور سر عسكر لجميع الجيوش، فإنه أمضى بعض الأوامر العسكرية بلقب سر عسكر سلطان، وخشي السلطان أن تكون تلك الأعمال مقدِّمات لاغتصابه الملك لنفسه؛ فأمر بقتله في ٢٢ رمضان سنة ٩٤٢ (الموافق ٥ مارس سنة ١٥٣٦)، فقتل. وخلفه في مركز الصدارة إياس باشا بدسيسة روكسلان الروسية إحدى حظيات السلطان، وسيأتي ذكر ما أتته من الدسائس والمفاسد عند الكلام على قتل السلطان لابنه مصطفى.
(١١) خير الدين باشا البحري وفتح إقليمي الجزائر وتونس
ولنأتِ ها هنا على ملخص تاريخ خير الدين باشا البحري الذي اشتهر في كتب الإفرنج باسم «بارب روس»؛ أي ذي اللحية الصهباء، وما فتحه من البلاد في سواحل بلاد الغرب وجنوب إيطاليا، وإنا لم نذكر حوادثه حسب ترتيبها لعدم الفصل بها بين أعمال السلطان سليمان الحربية في جهات النمسا غربًا وبلاد العجم شرقًا؛ خوفًا من تشتيت فكر المطالع، فنقول: إن أصل خير الدين باشا من أروام جزيرة «مدللي» — إحدى جزائر الروم — وكان هو وأخ له يدعى «أوروج» يشتغلان بحرفة القراصنة ببحر الروم، ثم أسلما ودخلا في خدمة السلطان محمد الحفصي — صاحب تونس — واستمرَّا في حرفتهما، وهي أسر مراكب المسيحيين التجارية، وأخذ كافة ما بها من البضائع، وبيع ركابها وملاحيها بصفة رقيق. وفي ذات يوم أرسلا إلى السلطان سليم الأوَّل إحدى المراكب المأسورة إظهارًا لخضوعهم لسلطانه، فقبلها منهما وأرسل لهما خلعًا سنية وعشر سفن ليستعينوا بها على غزو مراكب الإفرنج، فقويت شوكتهما واشرأبَّت أعناقهما لاحتلال بعض سواحل الغرب باسم سلطان آل عثمان، فاستولى خير الدين على ثغر «شرشل» بإقليم الجزائر، ثم عاد إلى تونس، ومنها أرسل إلى السلطان سليم الذي كان إذ ذاك بمصر رسولًا يُدعى «كرداوغلي» يؤكد لديه إخلاصه وولاءه للسدَّة السلطانية العثمانية. أما أوروج فبعد أن استولى على مدينة الجزائر نفسها وهزم الجيوش الإسبانية التي أرسلها شارلكان لمساعدة الجزائريين على محاربة أوروج، فتح أيضًا مدينة تلمسان، وقُتل بعدها بقليل في محاربة الإسبانيين، لكن لم يتمكَّن هؤلاء من استخلاص تلمسان والجزائر، بل حفظهما خير الدين وقتل أمير الجزائر، وأرسل من قبله أحد أتباعه — واسمه الحاج حسين — إلى السلطان سليم (وقد كان أتمَّ فتح مصر) ليخبره بفتح مدينة الجزائر باسمه الشريف، فقابله السلطان وعيَّن خير الدين باشا بكلر بك على إقليم الجزائر، وبذا صار هذا الإقليم ولاية عثمانية يدعى فيه في خطبة الجمعة باسم السلطان سليم وتضرب النقود باسمه.
وبعد ذلك استمرَّ خير الدين باشا في غزو مراكب الإفرنج والنزول على بعض شواطئ إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وأخذ كل ما تصل إليه يده من أموال وأهالٍ، وفتح الحصن الذي أقامه الإسبانيول في جزيرة صغيرة أمام مدينة الجزائر، ثم أرسل إليه السلطان سليمان بعد تحالفه مع فرنسا أن يكفَّ عن مراكب الفرنساويين وشواطئهم؛ فحوَّل كل قوَّاده على شاطئ إسبانيا وانتقم من أهلها على ما ارتكبوه من الفظائع والمنكرات مع المسلمين بعد سقوط غرناطة في أيديهم، وساعد كثيرًا ممن بقي ببلاد الأندلس من المسلمين على الرجوع إلى بلاد العرب والاستيطان بها فرارًا من اضطهاد الإسبانيول وإجبارهم لهم على الخروج من دين الإسلام واعتناق الدين المسيحي مما لا يدخل في موضوع هذا الكتاب.
وفي أوائل سنة ١٥٣٣ استدعاه السلطان سليمان إلى الآستانة ليتفق معه على ما يلزم اتخاذه من الاحتياطات لصدِّ هجمات الأميرال «أندري دوريا» الجنوي أجير شارلكان، فسافر ببعض المراكب ووصل القسطنطينية بعد سفر الصدر الأعظم إبراهيم باشا لمحاربة العجم بقليل، فقابله الملك وأحسن وفادته وأمره بالاستعداد وإنشاء المراكب الكافية لفتح إقليم تونس، فاشتغل خير الدين باشا طول الشتاء بإنشاء المراكب.
ولما وصل الإمبراطور شارلكان خبر سقوط تونس اتَّحد مع رهبنة القديس حنا الأورشليمي التي نزلت بجزيرة مالطة بعد فتح جزيرة رودس على استرجاع تونس وإعادة مولاي حسن إلى تخت ملكه، وجهَّز عمارة قوية قادها هو بنفسه ونزل مع أشراف إسبانيا من ثغر برشلونة في ٢٩ مايو سنة ١٥٣٥ ووصل إلى حلق الوادي في ١٦ يونيو، وحاصرها هي ومدينة تونس مدَّة شهر تقريبًا، وفتحها في ١٤ يوليو واستولى على ما بقلعتها وثغرها من المدافع والمراكب. وفي يوم ٢١ يوليو دخلت جيوش شارلكان المدينة وصرَّح لهم بنهبها فقتلوا ونهبوا وفسقوا، وارتكبوا كل أنواع المحرَّمات، وهدموا المساجد وحرقوا ومزقوا أغلب الكتب النفيسة. وفي أول أغسطس دخلها شارلكان ومنع الجيش عن هذه الأعمال، فاستتب الأمن وسادت السكينة. وفي ثمانية منه أمضيت معاهدة بين شارلكان ومولاي حسن الذي أُعيدَ إلى ملكه تقضي عليه بإخلاء سبيل الأرقاء المسيحيين والإباحة لجميع المسيحيين بالاستيطان في إقليم تونس وإقامة شعائر دينهم بدون معارضة، وأن يتنازل لشارلكان عن مدائن بونة وبني زرت وحلق الوادي، وأن يدفع له مبلغ اثنيْ عشر ألف دوكا مصاريف الحرب، وأن يقدِّم له سنويًّا اثنيْ عشر حصانًا وقدرها من المهارة العربية علامة امتنانه، بشرط أنه لو خالف إحدى هذه الشروط يدفع أوَّل مرة خمسين ألف دوكا، وفي الثانية مائة ألف، وفي الثالثة يسقط حقه في الملك. وفي ١٧ أغسطس سافر الإمبراطور شارلكان تاركًا في حلق الوادي ألف جندي إسبانيولي وعشرة مراكب حربية. أما خير الدين باشا فإنه لما رأى تحزب الأهالي وميلهم لسلطانهم المعزول وعدم وجود الجنود الكافية معه وبعده عن مركز السلطنة لإمداده في الوقت اللازم ارتحل بجنوده على مراكبه.
(١٢) اتحاد فرنسا والدولة العلية على محاربة النمسا وبعض وقائع أخرى
ولنرجع إلى ذكر محالفة فرنسا مع الدولة العلية ونتائجها فنقول: إن اتفاقهما كان قاضيًا بأن الدولة العلية تجعل وجهة حروبها بلاد نابولي وجزيرة صقلية وإسبانيا عوضًا عن مهاجمة النمسا التي تتحد جميع إمارات وممالك ألمانيا للمدافعة عنها؛ إذْ هي مع استقلالها جزء من التحالف الألماني، وأن جيوش فرنسا تدخل بلاد إيطاليا من جهة «إقليم بيمونتي» بشمال غرب إيطاليا حينما تدخلها الجيوش العثمانية من جهة مملكة نابولي.
لكن عدم دخول جمهورية البندقية في هذا التحالف وإظهارها العدوان لهم كان سببًا في عدم نجاح كل هذه التدبيرات، وساعد على ذلك هياج الرأي العام المسيحي ضد التحالف الفرنساوي العثماني، وإحجام فرانسوا الأوَّل أمام النفور العام خشية أن يُرمى بالمروق عن دينه المسيحي باتحاده مع دولة إسلامية لمحاربة دولة تدين بدينه.
وفي مايو سنة ١٥٣٨ جمع السلطان سليمان ببلاد الأرنئود جيشًا عظيمًا مؤلفًا من مائة ألف مقاتل لشنِّ الغارة على بلاد إيطاليا، وكان معه ولداه محمد وسليم وسفير فرنسا المسيو «دولا فوري»، وفي الوقت نفسه نزل خير الدين باشا بميناء أوترانته بجنوب إيطاليا استعدادًا لمهاجمتها من جهة الجنوب، بينما يهاجمها السلطان سليمان من جهة الشرق وملك فرنسا من جهة الغرب، لكن إحجام فرنسا عن التقدُّم إطاعة للرأي العام كما ذكرنا كان السبب في عدم نجاح هذا المشروع الذي لو تم لكانت نتيجته دخول بلاد إيطاليا بأسرها تحت ظل الدولة العلية. وانتهى الأمر بأن تهادن ملك فرنسا مع الإمبراطور شارلكان وأمضيا مهادنة نيس سنة ١٥٣٨. أما من جهة البندقية فاستمرت الحرب بينها وبين الدولة العلية سجالًا انتهت بالصلح في أواخر سنة ١٥٣٨ بتنازل البندقية عن ملفوازي ونابولي دي رومانيا من بلاد مورة.
هذا؛ أما من جهة بلاد المجر فابتدأت الحروب ثانية سنة ١٥٣٧، وانتهت بانهزام جيش ألماني مرسل من قبل شارلكان تحت رياسة أشهر قوَّاده في ٢ دسمبر سنة ١٥٣٧، وفي سنة ١٥٣٨ عصى أمير البغدان بناءً على تحريض فردينان ملك النمسا، فقهر وولي مكانه أخوه إسطفن وعززت الحامية العثمانية منعًا لحصول مثل ذلك.
وفي هذه الأثناء اتفق فردينان وزابولي — ملك المجر — على اقتسام البلاد أولى من تداخل العثمانيين في شئونهم — كما سبق — ووجود المجر تحت حمايتهم، الأمر المشين لكافة الممالك المسيحية، وكانت هذه دسيسة من فردينان للإيقاع بزابولي الذي قَبِلَ حماية العثمانيين له مدَّة من الزمن، فأرسل صورة هذا الاتفاق إلى الباب العالي ليعلمه بعدم ولاء زابولي له.
(١٢-١) موت زابولي ملك المجر وسفر السلطان إلى بود لمحاربة النمساويين
وعقب ذلك بقليل وصل إلى معسكر السلطان سليمان وفد من قبل ملك النمسا يحمل إليه كثيرًا من الهدايا النفيسة منها ساعة تدل على الأيام والشهور وسير الكواكب، وعرض عليه هذا الوفد دفع مائة ألف فلورين سنويًّا جزية عن جميع بلاد المجر لو تركها له السلطان أو أربعين ألفًا فقط عن الجزء المحتلة له جيوش النمسا، فأجابه السلطان أن لا يتخابر معهم بخصوص الصلح إلا من بعد أن يخلي فردينان القلاع المجرية التي بيده؛ ولذا لم يتم الصلح وبقي العدوان مستمرًّا، وبعد ذلك بأيام قلائل وصل إلى السلطان سفير فرنساوي يخبره باستئناف الحروب بين فرنسا وشارلكان، وأنه يسعى في تجديد التحالف بين الدولة والباب العالي لمحاربة شارلكان، ومما يدل على ضعف سياسة فرانسوا الأوَّل وعدم ثباته أنه بعد أن أمضى مع شارلكان هدنة «نيس» ساعده أيضًا لدى الدولة العثمانية للحصول على هدنة بينها وبينه، وكتب في سنة ١٥٣٩ بذلك خطابًا للسلطان سليمان فجاوبه السلطان أنه لا يهادنه إلا إذا ردَّ له (لملك فرنسا) جميع القلاع والحصون التي فتحها، ولما لم يقبل شارلكان ذلك فترت العلاقات بينهما، وصارت الحرب قاب قوسين أو أدنى (سنة ١٥٤١)، وأرسل المسيو «رونسون» إلى القسطنطينية ليتفق مع السلطان على الترتيبات الحربية اللازمة.
وفي أثناء مسير هذا السفير من إقليم ميلان قتله أحد أعوان حاكم هذا الإقليم التابع لشارلكان، وبناءً على أوامره؛ طمعًا في العثور على أوراق معه للسلطان يوجد بها ما يمس الدين المسيحي فينشرها بين ملوك وأمراء أوروبا ليوغر صدورهم عليه ويتركوه بلا مساعدة فيفوز هو بالغلبة عليه، لكن خاب مسعاه حيث لم يجد معه أوراقًا من هذا القبيل، بل أهرق دم السفير هدرًا.
سفر الدونانمة العثمانية إلى فرنسا وفتح مدينة نيس
ولما بلغ فرانسوا الأوَّل خبر قتل سفيره أرسل بدله أحد ضباطه المسيو بولان إلى السلطان سليمان يطلب منه مساعدته على محاربة شارلكان بسفنه وقائدها خير الدين باشا، فتردَّد السلطان أوَّلًا لعدم ثبات ملك فرنسا وضعف عزيمته، وقبل أخيرًا بناءً على إلحاح السفير وتعضيد خير الدين باشا له، لا سيما وقد وصل إليه خبر مهاجمة شارلكان بجيوشه لمدينة الجزائر وارتداده عنها خائبًا في ٣١ أكتوبر سنة ١٥٤١. وفي ربيع سنة ١٥٤٣ سافر السلطان بجيوشه إلى بلاد المجر لاستئناف المحاربات، وفي الوقت نفسه أقلع خير الدين باشا من مياه الآستانة بمراكبه ومعه السفير الفرنساوي بولان قاصدًا مرسيليا — إحدى موانئ فرنسا الجنوبية — فوصلها بعد أن غزا في طريقه سواحل جزيرة صقلية وقوبل من الفرنساويين بكل تجلة وإكبار، وانضمت سفنه إلى سفنهم، ومنها أقلعوا إلى مدينة نيس فحاصروها من جهة البحر، وفتحوها عنوة في ٢١ جمادى الأولى سنة ٩٥٠ (الموافق ٢٢ أغسطس سنة ١٥٤٣)، ولوقوع الشحناء بين العسكرين لم يتم احتلالها.
وفي ربيع السنة التالية سنة ١٥٤٤ رفض فرانسوا الأوَّل مساعدة العمارة العثمانية له لهياج جميع المسيحيين عليه ونسبتهم إياه للمروق عن دينه لاستعانته بالمسلمين، وأبرم مع شارلكان في مارس سنة ١٥٤٤ معاهدة «كريسي» القاضية بالصلح، فعاد خير الدين باشا إلى القسطنطينية وتوفي سنة ٩٥٣ﻫ (الموافق سنة ١٥٤٦م)، ودفن بجهة بشكطاش على شاطئ البوسفور في المحل المعدِّ لمرسى الدونانمات العثمانية.
(١٣) إبرام الصلح مع النمسا
هذا؛ ولنذكر ما حصل في هذه المدَّة من الحروب في جهات آسيا فنقول: إنه حضر إلى دار الخلافة العظمى سنة ١٥٣٧ سفير من قبل صاحب دهلي بالهند يستنجده ضدَّ همايون بن ظاهر الدين محمد الشهير ببابر — صاحب دهلي — وآخر من قبل صاحب الجوزرات بالهند أيضًا، يطلب منه المساعدة ضدَّ البرتغاليين الذين أغاروا على بلاده واحتلوا أهمَّ ثغورها.
(١٣-١) فتح عدن
وفي سنة ١٥٤٧ قبل إتمام الصلح مع النمسا أتى إلى الباب العالي أخ لشاه العجم يدعى «القاصب مرزا»، وطلب من السلطان إنجاده ضدَّ أخيه الذي اهتضم له حقوقًا، فانتهز السلطان هذه الفرصة لتجديد الإغارة على بلاد العجم، وانتظر ريثما يتم الصلح بأوروبا ويهدأ باله من جهتها.
(١٣-٢) دخول العثمانيين مدينة تبريز ثالث دفعة
وفي أوائل سنة ١٥٤٨ سار بجيوشه قاصدًا مدينة تبريز، فدخلها ثالث دفعة وفتح في طريقه الجزء التابع للعجم من بلاد الكرد وقلعة «وان» الشهيرة، وعاد يحفُّ به النصر والظفر إلى القسطنطينية في دسمبر سنة ١٥٤٩. أما القاصب مرزا فأخذ أسيرًا في إحدى الوقائع الحربية بعد أن سار مع جيش من الأكراد إلى قرب مدينة أصفهان.
ولم تدم السكينة في ربوع بلاد المجر والنمسا بدسيسة راهب يدعى مارتنوزي كانت قرَّبته إليها الملكة «إيزابلا» بناءً على وصية زوجها لها قبل موته، فإنه سعى في التوفيق بين الملكة وفردينان — ملك النمسا — حتى إنه تحصَّل بقوة دهائه وسلطته الدينية على أن تنازلت الملكة إلى فردينان عن إقليم ترنسلفانيا ومدينة تمسفار خلافًا لشروط الهدنة، وسيَّر فردينان جيشًا نمساويًّا لاحتلالهما. وفي أثناء هذه المخابرات كان الراهب يكاتب السلطان سليمان ويظهر له الإخلاص وصدق الولاء، لكن لم تَخْفَ حقيقة الأمر على السلطان، بل علم بهذا التنازل المخالف للعهود، وأرسل على الفور جيوشه المظفرة للمحافظة على نفاذ شروط الهدنة وإرجاع النمساويين إلى حدودهم، فأرسل جيشًا مؤلفًا من ثمانين ألف جندي إلى بلاد المجر في شهر سبتمبر سنة ١٥٥١، ولم يقابل هذا الجيش في طريقه مقاومة تذكر، بل فتح بكل سهولة القلاع والحصون المحتلة لها جيوش النمسا لإخلاء النمساويين لها عند اقتراب الجنود العثمانية إليها ودنوِّها منها. ولما رأى الراهب مارتينوزي أفول نجمه وعدم نجاحه في الحصول على مرغوبه أراد السعي لدى السلطان سليمان مظهرًا له ميله لمساعدته في إخضاع إقليم ترنسلفانيا الذي قاوم الجيوش العثمانية مقاومة شديدة طمعًا في أن يعين هو واليًا عليها، فأحسَّ فردينان بخيانته، ودس عليه من قتله في دسمبر سنة ١٥٥١.
وفي أثناء ذلك كان القبودان «طرغول» الذي خلف القبودان الشهير خير الدين باشا في غزو مراكب الإفرنج وشواطئ بلادهم قد حاز شهرة عظيمة في الحروب البحرية، وخافت بأسه جميع دول الإفرنج المعادية للدولة العلية، وحفظ اسم البحرية العثمانية من السقوط بموت رئيسها بل ومؤسسها الأكبر خير الدين باشا.
(١٤) معاهدة سنة ١٥٥٣ بين الدولة العلية وفرنسا
- البند ١: بما أن جلالة السلطان سليمان — سلطان الترك — بإرساله عمارة بحرية في بحر التوسكان ضدَّ الإمبراطور شارل الخامس قد أعان بذلك هنري دي فالوا مدَّة سنتين بناءً على طلبه المتكرر في بادئ الأمر، وبالخصوص بناءً على ترجياته البالغة أقصى درجات الحض، فقد اتفق بأن الملك هنري يدفع ثلاثمائة ألف قطعة من الذهب بصفة متأخر مرتب الدونانمة، وذلك حينما تصير الملاحة مأمونة لنقل النقود بالعمارة، وأن السفن الحربية التابعة للملك هنري لا تتباعد عن العمارة المذكورة، وتعتبر كأنها مرهونة نظير المبلغ المذكور حتى يدفع لأميرال عمارة السلطان سليمان.
- البند ٢: متى توفر هذا الشرط بوجه العدالة فإن جلالة سلطان الترك سليمان يقوم بتجهيز ستين مركبًا حربيًّا ذات ثلاثة صفوف و٢٥ قرصانًا بحريًّا ويرسلها للملك هنري في مدة أربعة شهور متوالية من ابتداء أوَّل مايو القابل.
- البند ٣: أما في حالة ما إذا أراد هنري دي فالوا أن يستعمل العمارة المذكورة في أثناء هذه المدة للاستعانة بها على الجهات الغربية؛ أي الجهات الواقعة من ابتداء كروتون لغاية «جائت»، فإنه يقوم بدفع مائة وخمسين ألف قطعة من الذهب إلى جلالة سلطان الترك سليمان بغاية من الضبط.
- البند ٤: كل سفينة تابعة للإمبراطور أو للمتحالفين معه — سواء أكانت معدة للنقل أو كانت من المراكب الخفيفة، وسواء أكانت سفنًا حربية صغيرة أو كبيرة — فبمجرَّد وقوعها أسيرة لدى العمارة العثمانية تصير من تلك اللحظة ملكًا للسلطان سليمان ملك الترك.
- البند ٥: المدن والقصبات والقرى والكفور التي تتغلب عليها هذه العمارة تكون مباحة غنيمة للترك وجميع سكانها راشدين أو قاصرين رجالًا كانوا أو نساءً، ولو أنهم معتنقون الديانة المسيحية ويكونون قد سلموا أنفسهم باختيارهم فإنه لا بد من تركهم أسراء وعبيدًا للترك بمقتضى واجبات الاتفاق الصريحة بهذا الصدد التي قرَّ عليها الأمر بين السلطان سليمان وبين فرانسوا أبي هنري من منذ سبع عشرة سنة، إلا أن امتلاك هذه المدن والقصبات والقرى والكفور والمؤن والذخائر وكذلك مدافع البرونز صغيرة كانت أو كبيرة، مع جميع متعلقاتها من حيوانات وغيرها التي توجد فيها، فإنها تترك للملك هنري بموجب هذه المعاهدة.
- البند ٦: إذا أصدر الملك هنري أمره إلى عمارة جلالة السلطان سليمان بأن تحارب شارل — ملك النمسا — غير متجهة نحو الغرب بل نحو الشرق والجنوب، ويقصد بذلك مسيرها في الشواطئ من عند مصب نهر ترونتو لغاية كروتون، بحيث إن هذه العمارة تقوم بأعباء أوامر هنري بدون مقابل، فقد اتفق على أن المواد الحربية ومؤنات المدن والقصبات التي تقع تحت يد الترك يتنازل عنها للملك هنري، ولكن المدن والقصبات والقرى والكفور فإنها تترك غنيمة للترك كما تقرَّر ذلك بالبند السابق. وأما الوطنيون والمزارعون والقاطنون البالغون والقاصرون الرجال منهم والنساء فإنهم يسلمون للأسر بدون معارضة حتى ولو كانوا ممن يعتنقون الديانة المسيحية، بل ولو كانوا ممن أسلم نفسه بمحض إرادته.
- البند ٧: يمكن لأميرال جلالة الملك سليمان أن يستولي ويأسر باسم مليكه الأفخم كلَّ مكان تقدم عليه العمارة التركية المظفرة متى رأى ثمة من فائدة، وذلك من ابتداء حدود نهر ترونتو لغاية أوترانت وكروتون، ومن ثم لغاية صقلية ونابولي، وعمومًا جميع الأقاليم المملوكة للإمبراطور شارل الخامس — ملك النمسا — سواء أكان ذلك المكان داخل الأراضي، أو سواء أكان مدينة أو قصبة أو قرية أو كفرًا أو ميناءً أو خليجًا، وله الحق في الاستيلاء على أي سفينة يصادفها، وله أن يغزو بل وأن ينهب ويأسر الرجال والنساء البالغين أو القاصرين، حتى إنه يمكنه متى شاء أن يحافظ ويتملك جميع ما يغتنمه، سواء أكان من بني الإنسان أو المدن أو البيوت الخلوية، وأن يعدها ويستعملها لاحتياجاته ولو ضدَّ رغبة الفرنك، وبالرغم عن مضادتهم الشديدة في ذلك.
- البند ٨: إذا تحصل جلالة السلطان سليمان على تملك إحدى الأربع مدن حصنها في إقليم «البوي» بواسطة مساعي فردينان سنسيفرن برنس دي سالرنيتين بمقتضى تعهد هذا الأمير، فجلالة السلطان سليمان يُعيد إلى هنري مبلغ الثلاثمائة ألف قطعة من الذهب التي ضمن له كما تقدَّم دفعها، وذلك في حالة ما إذا كانت دفعت إليه.
- البند ٩: جلالة السلطان سليمان يسلم عدا عن ذلك الثلاثين سفينة حربية وبحارتها بدون أدنى فدية، وكذا المدافع والمؤن وجميع المواد، ويستثنى من ذلك رجال بحريته الخصوصيون وعساكره، كما وأنه يدفع في أقرب وقت لبرنس سالرن، الذي بذل نفسه وكل ما في وسعه للحصول عليها، وكان نصيبه أن حرم من منصبه وطرد من وطنه وبيته، مبلغ الثلاثين ألف قطعة من الذهب التي صرفها بكل ارتياح وكرم.
فهذه البنود بالحالة التي هي مكتوبة بها أعلاه قد وضحت بحسب ما جرت به العادة بكلام مضبوط لا يقبل التأويل بواسطة أرامونت سفير هنري لدى جلالة السلطان سليمان الذي أضاف إليها قسمًا صريحًا بحضور برنس سالرنيتين بصفة كونه نائبًا أمينًا، ومن جهة أخرى فقد تصدَّق عليها من رستم باشا بموجب السلطة الممنوحة له من لدن جلالة السلطان سليمان.
وقد أبرم جميع ذلك واتفق عليه بالقسطنطينية في أوَّل فبراير سنة ١٥٥٣.
وكانت هذه آخر دفعة حارب فيها العثمانيون والفرنساويون كتفًا لكتف لتغير الظروف والأحوال حتى أتت حرب القرم الأخيرة، التي حصلت في أواسط هذا القرن، وحاربت فيها فرنسا وإنكلترا مع الدولة العلية دولة الروس لا دفاعًا عن الدولة العثمانية، بل لإضعاف الروسيا؛ حتى لا تتمكن من الاستيلاء على بوغاز البوسفور كما سيأتي مفصلًا.
ولنذكر هنا حادثة شنيعة وهي قتل السلطان لولده الأكبر مصطفى بناءً على دسيسة إحدى زوجاته المسماة في كتب الإفرنج روكسلان، أما في كتب الترك فاسمها «خورَّم» أي الباسمة، ذلك حتى يتولى بعده ابنها سليم، ولما لها من الثقة بالصدر الأعظم رستم باشا؛ إذ كان تعيينه بمساعيها لدى السلطان بعد موت إياس باشا، وما زالت تساعده حتى زوَّجه السلطان ابنته منها؛ فكاشفته بمرغوبها، وهو تمهيد الطريق لتولي ابنها سليم، فانتهز هذا الوزير فرصة انتشاب الحرب بين الدولة ومملكة العجم في سنة ١٥٥٣ ووجود مصطفى ضمن قوَّاد الجيش، وكتب إلى أبيه بأن ولده يحرض الانكشارية على عزله وتنصيبه كما فعل السلطان سليم الأول مع أبيه السلطان بايزيد الثاني، فلما وصل هذا الخبر إلى السلطان — وكانت والدة سليم قد تمكَّنت من تغيير أفكاره نحوه — قام في الحال قاصدًا بلاد العجم متظاهرًا بأنه يريد أن يتولى قيادة الجيش، ولما وصل إلى المعسكر استدعى ولده المسكين إلى سرادقه في يوم ١٢ شوال سنة ٩٦٠ﻫ (الموافق ٢١ سبتمبر سنة ١٥٥٣)، وبمجرد وصوله إلى الداخل خنقه بعض الحجاب المنوطين بتنفيذ مثل هذه الأوامر، فقتل رحمه الله شهيد دسائس زوجة والده وعدم تثبُّت أبيه مما نسب إليه. وكانت هذه الشنعة الشنعاء نقطة سوداء في تاريخ السلطان سليمان الذي اتسعت دائرة السلطنة في أيامه، ولولا دسيسة هذه المرأة الأجنبية التي ربما كانت مؤجرة لهذه الغاية لبقي اسمه لا تشوبه شائبة، ثم نقلت جثة هذا الشهيد إلى مدينة بورصة ودفنت مع جثث أجداده، ولم تكتفِ هذه المرأة البربرية الطباع بقتل مصطفى سلطان، بل أرسلت إلى مدينة بورصة من قتل ابنه الرضيع، وقال في ذلك بعض الشعراء:
وكان رحمه الله محبوبًا لدى الانكشارية لشجاعته ولدى العلماء والشعراء لاشتغاله بالأدب وميله إلى الشعر؛ فرثاه كثير من الشعراء بقصائد رنانة ولم يخشوا سطوة أبيه.
أما الانكشارية فثاروا وطلبوا من السلطان قتل الوزير رستم باشا المدبر لهذه المكيدة حبًّا في حفظ منصبه، فعزله السلطان تسكينًا لخاطرهم وولى مكانه الوزير أحمد باشا، لكن لم يهدأ بال زوجة السلطان حتى أغرت زوجها على قتل هذا الوزير وإرجاع رستم باشا مكافأة له على تنفيذ سيئ أغراضها.
وبعد قتل هذا البريء توجَّهت الجيوش إلى بلاد العجم، ولم يحصل في هذه المرة وقائع مهمة، بل بعد أن غزت الجيوش العثمانية بلاد شيروان بدون فائدة تذكر مال الفريقان للصلح، فتم بينهما في ٨ رجب سنة ٩٦٢ (الموافق ٢٩ مايو سنة ١٥٥٥) على أن يباح للأعاجم الحج إلى بيت الله الحرام ويزاولوا مذهبهم بدون تعرض. وكان للسلطان سليمان ابن آخر اسمه «جهانكير» حزن حزنًا شديدًا على قتل أخيه مصطفى حتى توفي شهيد المحبة الأخوية بعد موت أخيه بقليل، واختلف في موته أنه قتل نفسه أمام والده بعد أن بكَّته على قتل أخيه، وقيل غير ذلك.
وبعد ذلك بقليل توفيت هذه المرأة التي سودت بدسائسها آخر سني حكم السلطان سليمان الذي اشتهر قبل ذلك بكل الكمالات.
ولم تكن هذه الحادثة خاتمة الفظائع، بل أعقبها بقتل ابنه الثاني بايزيد وأولاده الخمسة، وذلك أن مربي بايزيد المدعو «لاله مصطفى» عين ناظر خاصة سليم سلطان، ولكون هذا الأمير كان يخشى مزاحمة أخيه بايزيد له في الملك بعد موت أبيهما كاشف لاله مصطفى بأنه يريد إيغار صدر أبيه على بايزيد ليقتله ويكون هو (سليم) الوارث الوحيد لملك آل عثمان، فأخذ مصطفى يبحث عن الطريقة الموصلة لهذه الغاية المشئومة حتى هداه شيطان عقله وإبليس سريرته إلى أن يكتب لبايزيد يقول له: إن سليمًا منهمك في الشهوات ولا يليق أن يخلف والده، ومع ذلك فوالده مصمم على استخلافه مع عدم أهليته للملك وعدم استعداده للخلافة، فتبادلت بينهما المكاتبات بشأن ذلك، وأخيرًا كتب بايزيد إلى أخيه سليم خطابًا به بعض عبارات تمس كرامة والدهما، فأرسل سليم الخطاب لأبيه، ولما اطَّلع السلطان سليمان على هذا الخطاب غضب غضبًا شديدًا وكتب لبايزيد يوبِّخه على ما أتاه ويأمره بالانتقال من قونية التي كان معينًا واليًا عليها إلى مدينة أماسية؛ فخشي بايزيد أن يكون قصد أبيه الغدر به، وامتنع عن التوجه إلى أماسية، وجمع جيشًا يبلغ عدده عشرين ألف نسمة وأظهر التمرد، فأرسل إليه أبوه الوزير محمد باشا الملقب بصقللي لمحاربته، فتقابل الجيشان بقرب قونية، واستمرَّ القتال يوميْ ٣٠ و٣١ مايو سنة ١٥٦١، وأخيرًا هزم بايزيد وتقهقر إلى أماسية ومنها إلى بلاد العجم، حيث التجأ هو وأولاده إلى الشاه طهماسب، فقابله وأظهر له الإخلاص والاستعداد لحمايته، لكنه كاتب السلطان سليمان وابنه سليمًا سرًّا على تسليم بايزيد وأولاده إليهما مع أنهم احتموا بحماه ولم يرعَ ذمتهم، بل خانهم وسلمهم إلى رسل السلطان فقتلوهم جميعًا وهم بايزيد وأولاده الأربعة أورخان ومحمود وعبد الله وعثمان في مدينة قزوين ببلاد العجم في ١٥ محرم سنة ٩٦٩ (الموافق ٢٥ سبتمبر سنة ١٥٦١)، ونقلت جثتهم إلى مدينة سيواس حيث واروها الثرى، وكان لبايزيد ابن صغير في مدينة بورصة فخنق أيضًا ودفن في جانب والده وإخوته.
هذا؛ أما من جهة المجر فلم تنقطع الحروب بينها وبين الدولة العلية، وكذلك المخابرات كانت غير منقطعة للوصول إلى الصلح، ولا حاجة لنا في تفصيل الوقائع التي حصلت بين الجيشين لعدم وجود فائدة في ذلك سوى ملال المطالع، بل نكتفي بالقول إنه في سنة ١٥٥٥ حصلت هدنة بين الطرفين لستة أشهر ومثلها في سنة ١٥٥٧. وفي شهر يونيو سنة ١٥٦٢ تمَّ الصلح بينهما لمدة ثماني سنوات بشرط استمرار النمسا على دفع الجزية السنوية التي قررتها المعاهدات السابقة، وساعد على ذلك حب سميز علي باشا — الذي خلف رستم باشا بعد موته في منصب الصدارة العظمى — للسلم وعدم ميله لسفك الدماء.
ومع ذلك، فلم تنقطع المناوشات بالمرة على حدود النمسا والمجر، بل استمرت بنوع غير رسمي، وبعد هذا الصلح الأوهى من بيت العنكبوت لما بين العنصرين المتجاورين من عوامل البغضاء، تمكَّن السلطان من توجيه اهتمامه إلى تعزيز سفنه الحربية لحماية الجزائر وطرابلس الغرب التي افتتحها طرغول في غضون سنة ١٥٥١ (الموافقة سنة ٩٥٨) لبعدها عن مقر الخلافة العظمى وطموح أنظار إسبانيا إلى إرجاعها؛ إذ إن محتلها يكون دائمًا مهدِّدًا لسواحل إسبانيا ونابولي التي كانت تابعة لإسبانيا في هذا الحين.
(١٥) حصار جزيرة مالطة
فعززت الدونانمات العثمانية، وفي أوائل سنة ١٥٦٥ أرسلت عمارة بحرية مؤلفة من نحو مائتيْ سفينة لفتح جزيرة مالطة مقر رهبنة القديس حنا الأورشليمي، لأهمية هذه الجزيرة الواقعة بين إقليم تونس وجنوب إيطاليا، وضرورة احتلالها لكل دولة تريد أن تكون لها اليد الطولى على البحر الأبيض المتوسط، فابتدئ حصارها في شهر مايو من السنة المذكورة، واستمر نحو الأربعة شهور بدون أن يكون موت القبودان الشهير طرغول المعروف عند الإفرنج باسم دراجوت في أثناء الحصار سببًا في عدم استمراره، ولما قرب فصل الشتاء الذي تكثر فيه الزوابع البحرية رفع الحصار عنها في ١١ سبتمبر سنة ١٥٦٥ وعادت السفن بجيوشها إلى دار السعادة.
(١٦) فتح مدينة سكدوار
(١٧) موت السلطان سليمان
وفي أوائل شهر سبتمبر اشتدَّ مرض السلطان، وتوفي في ٢٠ صفر سنة ٩٧٤ (الموافق ٥ سبتمبر سنة ١٥٦٦) عن أربع وسبعين سنة قمرية؛ أي بعد حصار المدينة بنحو خمسة شهور. وكانت مدة ملكه ثمانية وأربعين سنة قضاها في توسيع نطاق الدولة وإعلاء شأنها حتى بلغت في أيامه أعلى درجات الكمال، وأخفى الوزير خبر موته خوفًا من وقوع الفشل في المعسكر، وأرسل لولده سليم بمدينة كوتاهية يخبره بذلك، ويطلب منه الحضور على جناح السرعة إلى الآستانة منعًا للقلاقل. وفي يوم ٨ سبتمبر هجم العثمانيون على القلعة واحتلوها عنوة، وفي انتهاء القتال حصلت فرقعة عظيمة انفجرت بسببها أرض القلعة وانهدم بناؤها على من بها من طرفي المتحاربين؛ وذلك أن المحصورين لما رأوا أن لا مناص لهم من الانهزام أو الموت دبروا هذه المكيدة بأعمال عدَّة ألغام أشعلوها بعد احتلال العثمانيين إياها حتى يموتوا ويهلك كافة من دخلها من جنود العثمانيين، وأعلن الوزير هذا الانتصار لكافة الجهات باسم الملك حرصًا على عدم إذاعة موته الذي لم يذعه إلا بعد أن أتت إليه أخبار أكيدة من الآستانة بوصول ولده سليم إليها واستلامه مهام الأعمال بها.
واشتهر المرحوم السلطان سليمان بالقانوني؛ لما وضعه من النظامات الداخلية في كافة فروع الحكومة، فأدخل بعض تغييرات في نظام العلماء والمدرِّسين الذي وضعه السلطان محمد الفاتح، وجعل أكبر الوظائف العلمية وظيفة المفتي، وقسم جيش الانكشارية إلى ثلاث فرق بحسب سِنِي خدمتهم، وجعل مرتب كل نفر من الفرقة الأولى من ثلاثة غروش إلى سبعة غروش يوميًّا، والثانية من ثمانية غروش إلى تسعة غروش يوميًّا للنفر الواحد، وفي الثالثة المؤلفة ممن أصيبوا بعاهات دائمية جعل مرتب النفر منهم ثلاثين غرشًا إلى مائة وعشرين غرشًا شهريًّا. وكان عدد الجيش عند وفاته ثلاثمائة ألف، منها خمسون ألفًا من الجيوش المنتظمة والباقية غير منتظمة، وعدد المدافع ثلاثمائة، والسفن الحربية ثلاثمائة أيضًا.
(١٨) أسباب الانحطاط
وتقدَّمت الفتوحات في أيامه تقدُّمًا عظيمًا لم تصل إليه بعده، وبلغت الدولة أَوْجَ سعادتها، وأخذت بعده في الوقوف تارة والتقهقر أخرى، حتى وصلت إلى الحالة التي عليها الآن لجملة أسباب، منها زيادة الثروة بسبب الفتوحات العديدة والغنائم الكثيرة، ولا يخفى أن الثروة تُورِثُ غالبًا المفاخرة في المصرف والتغالي في الزهو والترف، وكل أمة سادت فيها هذه الخصال لا بدَّ لها من التأخر، ومنها أن الانكشارية كانوا لا يخرجون إلى الحرب إلا إذا كان السلطان معهم؛ ولذا كانت أهم الحروب والغزوات تحت إمرة السلطان وقيادته؛ لأنه إن لم يخرج بنفسه لما حاربت الانكشارية التي عليها المدار الأوَّل في الحروب، فغيَّر السلطان سليمان هذه السنة الحميدة وأجاز للانكشارية القتال تحت إمرة قائدهم الأكبر ولو لم يكن السلطان موجودًا، فكان هذا التغيير سببًا في تقاعس أغلب من خَلَفَه من السلاطين عن الخروج من قصورهم الباذخة وتفضيلهم البقاء بين غلمانهم وجواريهم المختلفات الأجناس على الخروج للقتال وتكبُّد مشاقه، ومنها أن كافة أمور الدولة المهمة كانت تنظر في ديوان الوزراء تحت رئاسة السلطان، فأبطل السلطان سليمان هذه العادة، وصار الديوان ينعقد تحت رئاسة أكبر الوزراء وهو الصدر الأعظم، والسلطان لاهٍ عن ذلك معرض عن دسائس الوزراء ومن يستعينون بهم من جواريه وأزواجه، وترتب على ذلك أن صارت الأمور بيد الوزراء المغايرين للجنس العثماني أصلًا ونسبًا؛ إذ إن أغلبهم ممن أسلم أو تظاهر بالإسلام من النصارى أو من غلمان وخدم السلاطين، ونتيجة ذلك واضحة كما ظهر للقارئ عند مطالعة أسباب قتل مصطفى ابن السلطان سليمان بناءً على دسائس زوجته والوزير رستم باشا، ومنها الإباحة للانكشارية بالتزوُّج والإقامة خارج ثكناتهم مع إعطائهم بعض امتيازات وقبول الأخلاط ضمن زمرتهم؛ مما جعلها من أكبر موجبات تأخر الدولة بعد أن كانت من أعظم عوامل تقدمها، إلى غير ذلك من الأسباب التي سنوردها تباعًا بحسب مقتضيات الأحوال.