السلطان الغازي سليم خان الثاني
ولد السلطان سليم الثاني في ٦ رجب سنة ٩٣٠ هجرية (الموافق ١٠ مايو سنة ١٥٣٣م)، وهو ابن روكسلان الروسية سابقة الذكر، وتولى الملك بعد موت أبيه، ووصل إلى القسطنطينية في ٩ ربيع أول سنة ٩٧٤ (الموافق ٢٤ دسمبر سنة ١٥٦٦م)، وبعد أن مكث بها يومين سار على عجل إلى مدينة سكدوار للاحتفال بإرجاع جثة والده المرحوم إلى القسطنطينية؛ فقابله خارج المدينة سفراء فرنسا والبندقية القادمون لتهنئته بالملك، ولما وصل مدينة صوفيا في ٦ أكتوبر أرسل الرسل إلى كافة الممالك الخارجية والولايات الداخلية يخبرهم بموت أبيه وتوليته على عرش آل عثمان، ومنها قصد مدينة بلغراد، ومكث فيها حتى أتى الوزير محمد باشا صقللي بجثة والده المرحوم، وذلك أن الوزير محمد باشا لم يعلن بوفاة السلطان سليمان إلا في أثناء عودته من مدينة سكدوار إلى بلغراد، بل أوهم الجند أن السلطان مريض ولا يمكن لأحد مقابلته، ولما أعلن موته إلى الجنود بعد موته بنحو خمسين يومًا لبست الجيوش عليه الحداد وساروا إلى بلغراد حيث كان سليم الثاني في انتظارهم، فطلبت الجنود منه أن يوزع عليهم العطايا المعتادة فأبى، ثم أذعن لطلباتهم لإظهارهم العصيان والتمرد وعدم إطاعتهم أوامر ضباطهم وامتهانهم لهم بحضور السلطان.
ولزيادة توثيق عرى الاتحاد بين الدولة وفرنسا وزيادة نفوذ اتحادهما، اتفقت الدولتان على ترشيح «هنري دي فالوا» — أخي ملك فرنسا — لعرش بولونيا؛ ليكون لهم ظهيرًا ضدَّ النمسا من جهة والروسيا من أخرى، وقد تم ذلك فعلًا وصارت بولونيا تحت حماية الدولة العلية حماية فعلية وإن لم تكن اسمية، وبذلك صارت فرنسا ملكة التجارة في البحر الأبيض المتوسط وجميع البلاد التابعة للدولة، وأرسلت تحت ظل هذه المعاهدات عدَّة إرساليات دينية كاثوليكية إلى كافة بلاد الدولة الموجود بها مسيحيون، خصوصًا في بلاد الشام لتعليم أولادهم وتربيتهم على محبة فرنسا، وكانت هذه الامتيازات الموجبة لضعف الدولة بسبب تدخل القناصل في الإجراءات الداخلية بدعوى رفع المظالم عن المسيحيين واتخاذها لها سبيلًا لامتداد نفوذها بين رعايا الدولة المسيحيين. وأهم نتائج هذا التداخل وأضرُّه مآلًا وأوخمه عاقبة استعمال هذه الإرساليات الدينية في حفظ جنسية ولغة كل شعب مسيحي، حتى إذا ضعفت الدولة أمكن هذه الشعوب الاستقلال بمساعدة الدول المسيحية أو الانضمام إلى إحدى هاته الدول، كما شوهد ذلك في هذا القرن الأخير مما سيأتي مفصلًا بالشرح الكافي والبيان الوافي.
ومن أعمال الوزير محمد باشا صقللي أن أرسل جيشًا عظيمًا إلى بلاد اليمن في سنة ٩٧٦ (الموافية سنة ١٥٦٩م) تحت قيادة عثمان باشا الذي عين عاملًا عليها لقمع ثورة أهاليها الذين عصوا الدولة اتِّباعًا لأمر سلطانهم الشريف مطهر بن شرف الدين يحيى، فانتصر عثمان باشا عليهم بمساعدة سنان باشا والي مصر، ودخلت الجيوش المظفرة بمدينة صنعاء بعد أن فتحت جميع القلاع.
(١) فتح جزيرة قبرص
واقعة ليبانت البحرية
وقابلت هذه الدونانمة العمارة العثمانية مؤلفة من ٣٠٠ سفينة في ١٧ جمادى الأولى سنة ٩٧٩ (٧ أكتوبر سنة ١٥٧١) بالقرب من ليبنته، واشتبك بينهم القتال مدَّة ثلاث ساعات متوالية، انتهى الأمر بعدها بانتصار الدونانمة المسيحية، فأخذت ١٣٠ سفينة عثمانية وأحرقت وأغرقت ٩٤، وغنمت ٣٠٠ مدفع و٣٠ ألف أسير، وهذه أوَّل واقعة حصلت بين الدولة من جهة وأكثر من دولتين مسيحيتين من جهة أخرى، واشتراك البابا فيها يدل على أن المحرِّك لهذه التألبات ضدَّ الدولة الإسلامية الوحيدة هو الدين كما أيدته الحوادث والحروب فيما بعد لا السياسة كما يدَّعون.
وكان لهذا الفوز رنة فرح في قلوب المسيحيين أجمع، حتى إن البابا خطب في كنيسة ماري بطرس برومة وشكر دون جوان على انتصاره على السفن الإسلامية، وذلك مما لا يجعل عند المطالع أقل ريبة أو شك في أن المسألة الشرقية مسألة دينية لا سياسية كما ادَّعاه ويدعيه الأوروبيون ويغترُّ به السُّذَّج غير المطلعين.
ولما وصل خبر هذه الحادثة إلى الآستانة هاج المسلمون على المسيحيين وهموا بقتل المرسلين الكاتوليك لولا تدارك الوزير محمد باشا صقللي الأمر بأن حجز هؤلاء المرسلين تحت الحفظ حتى تعود السكينة إلى ربوعها، وقد أخرجهم بناءً على إلحاح سفير فرنسا، ولم تُقْعِد هذه الحادثة المشئومة همه هذا الوزير، بل انتهز فرصة الشتاء وعدم إمكان استمرار الحرب لتشييد دونانمة أخرى، وبذل النفس والنفيس في تجهيزها وتسليحها، حتى إذا أقبل صيف سنة ١٥٧٢ كان قد تم استعداد ٢٥٠ سفينة جديدة. وفي هذه السنة لم تحصل وقائع بحرية مهمة لوقوع الشقاق بين القبودان البندقي والقبودان الإسبانيولي، حتى إن جمهورية البندقية سعت في التقرب إلى الدولة العلية، فعرضت عليها الصلح واستمرت بينهم المخابرات مدَّة. وفي ٣ ذي القعدة سنة ٩٨٠ (الموافق ٧ مارس سنة ١٥٧٣) تمَّ الصلح على أن تتنازل البندقية للدولة عن جزيرة قبرص، وأن تدفع لها غرامة حربية قدرها ٣٠٠ ألف دوكا.
أما من جهة إسبانيا فقد قصد دون جوان مدينة تونس في أواخر سنة ١٥٧٢، واحتلها بدون مقاومة؛ لارتحال من كان بها من العثمانيين عند قدوم السفن الإسبانيولية، وتحققهم من أن الدفاع لا يُجدي نفعًا لقلة عددهم بالنسبة للإسبانيول؛ فاحتلها دون جوان وأعاد إليها سلطانها مولاي حسن الذي التجأ إليهم عند احتلال العثمانيين لبلاده، لكن لم يلبث إلا نحو ٨ أشهر لاسترجاعها ثانية إلى أملاك الدولة بمعرفة سنان باشا في أغسطس سنة ١٥٧٥. وفي جهة بلاد البغدان انتصر العثمانيون بعد موقعة هائلة أهرقت فيها الدماء كالسيول المنهمرة في ٩ يونيو سنة ١٥٧٤ على الأمير «أيوونيا» الذي تمرَّد على الدولة طلبًا للاستقلال، وصُلِبَ جزاء عصيانه وعبرة لغيره.
وفي ٢٧ شعبان سنة ٩٨٢ (الموافق ١٢ دسمبر سنة ١٥٧٤) توفي السلطان سليم الثاني وعمره اثنان وخمسون سنة قمرية ومدة حكمه ثماني سنين و٥ أشهر، وتوفي عن ستة أولاد وهم: مراد، ومحمد، وسليمان، ومصطفى، وجهانكير، وعبد الله، وثلاث بنات. تولى بعده ابنه السلطان مراد الثالث.