السلطان الغازي مراد خان الثالث
وضع الحماية على بولونيا
ولد هذا السلطان بالقسطنطينية في ٥ جمادى الأولى سنة ٩٥٣ﻫ (الموافق ٤ يوليو سنة ١٥٤٦)، وكانت فاتحة أعماله أن أصدر أمرًا بعدم شرب الخمر الذي شاع استعماله أيام السلطان السابق وأفرط فيه الجنود خصوصًا الانكشارية، فثار الانكشارية لذلك، واضطروه لإباحته لهم بمقدار لا يترتب منه ذهول العقل وتكدير الراحة العمومية. وأمر بقتل إخوته وكانوا خمسة ليأمن على الملك من المنازعة؛ إذ صار قتل الإخوة عادة تقريبًا. وفي أوائل سنة ١٥٧٥ ترك «هنري دي فالوا» — ملك بولونيا — مقرَّ حكومته عائدًا لفرنسا، ولما بلغ الباب العالي خبر سفره أوصى أشراف بولونيا بانتخاب «باتوري» — أمير ترنسلفانيا التابع للدولة العلية — ملكًا عليهم، فانتخبوه في أواخر السنة المذكورة، وبذلك صارت بولونيا نفسها تحت حمايتها.
وكانت علاقات هذا السلطان مع فرنسا حسنة جدًّا، وكذلك مع جمهورية البندقية، فجدد لهما الامتيازات القنصلية والتجارية مع زيادة بعض بنود في صالحهما، أهمها أن يكون سفير فرنسا مقدَّمًا على كافة سفراء الدول الأخرى في المقابلات والاحتفالات الرسمية، حيث كثر توارد السفراء على بابه العالي للسعي في إبرام معاهدات تجارية تكون ذريعة في المستقبل للتداخل الفعلي، وفي أيامه تحصَّلت إيزابلا — ملكة الإنكليز — على امتياز خصوصي لتجار بلادها، وهي أن مراكبها تحمل العلم الإنكليزي، وكان لا يجوز لها ذلك قبلًا، بل كانت السفن على اختلاف أجناسها ما عدا سفن البندقية لا تدخل إلى موانئ الدولة العلية إلا تحت ظل العلم الفرنساوي ليس إلا كما قضت بذلك العهود التي أُبرمت مع السلطان سليمان وابنه السلطان سليم الثاني، وتجدَّدت في أوائل حكم هذا السلطان.
وفي سنة ١٥٧٨ حصلت فتنة داخلية في مملكة مراكش بالمغرب الأقصى ونازع زعيمها السلطان في الملك، وحصلت بينهما عدَّة وقائع مهمة، وأخيرًا استنجد سلطانها بالعثمانيين، واستعان مدَّعي الملك بالبرتغاليين، فأوعزت الدولة أو بالحري محمد باشا صقللي لوالي طرابلس بإنجاد سلطانها الشرعي فأسرع بمساعدته. والتقى الترك والبرتغال بالقرب من محل يقال له القصر الكبير، وكان يومًا مشهودًا دارت فيه الدائرة على البرتغال وقتل فيه رئيس الثائرين المستنجد بهم. وبعد تمام النصر وإعادة الأمن والسكينة إلى ربوع مراكش عادت الجيوش العثمانية حاملة ما أغدق إليها من الهدايا. وبذلك دخلت مملكة مراكش ضمن دائرة نفوذ الدولة، وصار شمال أفريقيا بأجمعه تابعًا لها تمامًا أو خاضعًا لنفوذها، ولم يبقَ لها في عصرنا هذا إلا ولاية طرابلس والسيادة الاسمية على مصر، واستولت فرنسا على تونس والجزائر، وصارت مراكش ميدان مسابقة لدسائس الأجانب تسعى كل دولة في ازدياد نفوذها بها، وبعبارة أخرى لابتلاعها، فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
وفي هذه السنة ابتدأت المخابرات بين الدولة وإسبانيا للوصول إلى الصلح. وبعد أن استمرت نحو خمس سنين تم الصلح بينهما، لكن لم يمنع ذلك القراصنة من الطرفين من نهب السفن التجارية وسبي واسترقاق من بها من النساء والرجال، حتى كان يستعدُّ للسفر في البحر الأبيض المتوسط كما يستعدُّ لرحلة حربية لعدم وجود الأمن وكثرة القراصنة بما لم يسبق له مثيل؛ لأن كلًّا من الطرفين كان يعتبر غزو سفن الطرف الآخر من الواجبات الدينية والقربات المشروعة.
محاربة العجم ودخول العثمانيين مدينة تبريز رابع دفعة
وكذلك حاصر الأعجام مدينة تفليس نفسها ولم يقووا على استرجاعها لثبات حاميتها العثمانية حتى أتى إليها المدد ورفع عنها الحصار عنوة سنة ١٥٧٩. وفي غضون ذلك قتل الصدر الأعظم محمد باشا صقللي الذي حافظ على نفوذ الدولة بعد موت السلطان سليمان وتمكن بسياسته ودهائه من إبرام الصلح مع دول أوروبا المعادية لها، وأنشأ عمارة بحرية بعد واقعة «ليبنته»، وفتحت جزيرة قبرص بتعليماته وإرشاداته، وكوفئ على خدماته الجليلة بالقتل لا لذنب جناه أو جناية ارتكبها، بل هي دسائس حاشية السلطان قضت عليه بالموت غدرًا تبعًا لدسائس الأجانب الذين لا يروق في أعينهم وجود مثل هذا الوزير يدير دولاب الأعمال على محور الاستقامة، فدسوا إليه من قتله تخلصًا من صادق خدمته للدولة، فكان موته ضربة شديدة ومحنة عظيمة، لا سيما وقد كثر بعده تنصيب وعزل الصدور، فعين أوَّلًا من يدعى أحمد باشا، ثم عزل في أغسطس سنة ١٥٨٠، وعين بعده سنان باشا — أحد القوَّاد المشهورين وأحد رؤساء الجيش المحارب في بلاد الكرج — وتولى قيادة هذا الجيش بعد موت قائده العام مصطفى الذي قيل إنه انتحر مسمومًا لعدم حصوله على منصب الصدارة، ولكنه عزل من منصبه بعد قليل ونُفي إلى خارج البلاد، وتولى مكانه «سياوس باشا» المجري الأصل في الصدارة العظمى وفرهاد (أو فرحات) باشا — أحد القوَّاد العظام — قائدًا عامًّا للجيش المحارب في الكرج، ولم يأتِ هذا القائد بأعمال تذكر لعدم انقياد الانكشارية وامتثالهم لأوامر رؤسائهم.
فسار في جيش عرمرم مؤلف من مائتين وستين ألف مقاتل قاصدًا بلاد أذربيجان فاخترقها بدون كثير مقاومة، ثم قصد مدينة تبريز عاصمة العجم فدخلها بعد أن انتصر على حمزة ميرزا، وترك فيها حامية قوية. وبعد أن استمرت الحرب سجالًا بين الدولتين نحو ست سنوات توفي في خلالها الصدر الأعظم عثمان باشا — سر عسكر الجيش — تم الصلح وأُمضِيَ بينهما في ٢١ مارس سنة ١٥٨٥ على أن تتنازل العجم للدولة العثمانية عن إقليم الكرج وشيروان ولورستان وجزء من أذربيجان ومدينة تبريز، وتولى بعده خادم مسيح باشا صدرًا أعظم سنة ٩٩٣. وفي السنة التالية أُعيد سياوس باشا إلى هذا المنصب الخطير، وبذلك هدأت الأحوال وانقطعت الحروب على سائر حدود المملكة تقريبًا.
إلا أن هذه السكينة لم تكن لتُرضي الانكشارية الذين كانوا يفضلون استمرار الحروب للنهب والسلب وارتكاب ما لا خير فيه، فكانت إذا انقطعت الحروب تمرَّدوا وارتكبوا هذه القبائح في بلاد الدولة المعسكرين بها، بل وفي نفس الآستانة. فلما بلغهم أن المخابرات سائرة بين الدولة والعجم للوصول إلى الصلح ثاروا بالقسطنطينية وطلبوا تسليم الدفتردار (ناظر المالية) ومحمد باشا بكلر بك الرومللي لقتلهما بدعوى أنهما أرادا أن يصرفا إليهم نقودًا ناقصة العيار وحاصروهما في منزلهما إلى أن قتلوهما شر قِتلة، ولم يقوَ السلطان على منعهم. وتمرَّدوا مرة أخرى سنة ١٥٩٣ في الآستانة وأخرى في مدينة بود وقتلوا واليها. وفي القاهرة وفي تبريز مما يطول شرحه. ووصلت بهم القحة إلى آخرها؛ ولذلك أشار سنان باشا الذي أعيد إلى منصة الوزارة في سنة ٩٩٧ بإشغالهم بمحاربة بلاد المجر، وأوعز إلى حسن باشا والي بلاد البشناق (بوسنة) أن يجتاز حدود بلاد المجر إعلانًا للحرب، لكن هل يرجى نجاح أو فلاح حقيقي من جيوش بلغ عندها عدم النظام الدرجة القصوى حتى استطالت لقتل الولاة وعزل الحكام؟ كلا ولو كان قائدها الإسكندر المقدوني أو إبراهيم باشا المصري أو نابليون الفرنساوي، (ورب معترض يعترض علينا في تسمية إبراهيم باشا بالمصري مع أنه لم يولد بها، فنجاوبه أن إبراهيم باشا نشر الراية المصرية في بلاد العرب والشام وجنوب الأناطول والسودان، وانتصر بالمصريين لا بغيرهم، ولم يكن ذلك منه إلا لإعلاء شأن الوطن المصري واستقلاله في الداخل ونشر نفوذه في الخارج، ولذلك حق لنا أن نسميه المصري بل المصري الوحيد بعد والده محمد علي باشا الكبير.)
ولنرجع إلى ذكر حروب الدولة مع المجر فنقول: إن الحرب كانت تارة لأحد الفريقين وطورًا للآخر، فقتل حسن باشا — والي الهرسك — وانهزم والي «بود» وفتحت جيوش النمسا التي انحازت إلى المجر عدَّة قلاع عثمانية، ثم استردها سنان باشا — الصدر الأعظم — سنة ١٥٩٥. وفي هذا الموقع يجب علينا وعلى كل عثماني التأسف والتحسر على عدم خروج السلطان بنفسه إلى الحرب وتحجبه عن أعين جيوشه وعدم قيادتهم بذاته الشريفة إلى ساحات النصر، فلولا ذلك لكانت الغلبة دائمًا لهم بإذنه تعالى؛ فقد عوَّدهم عز وجل النصر على الأعداء في زمن أجداده سليمان وسليم الأول ومن قبلهم؛ لأن وجود الخليفة الأعظم في رأس جيوشه يبثُّ فيهم روحًا جديدة فيتَّحِدُون معه قلبًا وقالبًا، ويسيرون معه إلى النصر المبين والفوز العظيم. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله!
ومما زاد أحوال المملكة ارتباكًا إشهار الفلاخ والبغدان وترنسلفانيا العصيان بالاتحاد، وتحالفهم مع رودلف الثاني — ملك النمسا — وإمبراطور ألمانيا على محاربة الدولة والحصول على الاستقلال، فسار إليهم الصدر الأعظم سنان باشا في سنة ١٥٩٥، ودخل مدينة بوخارست — عاصمة الفلاخ — عنوة، ثم انتصر عليه «مخائيل» — أمير الفلاخ — الملقب في كتب الإفرنج بالشجاع، ودخل مدينة «ترجوفتس» وقتل حاميتها ورئيسها، فأخذ العثمانيون في الانسحاب والتقهقر خلف نهر الدانوب، وتبعهم مخائيل الفلاخي، وانتصر عليهم مرة ثانية بالقرب من مدينة «جورجيوا» عند عبورهم النهر، وفتح المدينة وعدة مدائن أخرى أهمها مدينة «نيكوبلي».
وفي هذه الأثناء ولي فرهاد باشا منصب الصدارة في سنة ٩٩٩، ثم أعيد سياوس باشا ثالثًا إليها سنة ١٠٠٠، ثم أصيب السلطان بداء عياء، وتوفي مساء ٨ جمادى الأولى سنة ١٠٠٣ (الموافق ١٩ يناير سنة ١٥٩٦) وله من العمر خمسون سنة، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة تقريبًا، وكان شاعرًا مجيدًا فطنًا لبيبًا، إلا أنه كان كثير الميل لاقتناء الجواري الحسان عاملًا بمشورتهن، وكان من ضمن حظياته جارية بندقية الأصل من عائلة شهيرة بها اسمها «بافو» سباها قراصين البحر وبِيعتْ في السراي السلطانية وسميت صفية، اصطفاها السلطان لنفسه، وتدخلت كثيرًا في السياسة الخارجية، وساعدت بلادها الأصلية كثيرًا، وهي والدة السلطان محمد الثالث.