السلطان الغازي أحمد خان الأول وانتصار الشاه عباس
وفي سنة ١٦٠٨ انتصر على من بقي من العصاة بقرب «وان»، وفي السنة التالية قتل آخر زعمائهم المدعو يوسف باشا الذي كان استقلَّ بأقاليم صاروخان ومنتشا وآيدين. وبذلك عادت السكينة وساد الأمن بهمة هذا الشجاع الذي لقب بسيف الدولة عن استحقاق.
هذا؛ وانتهز الشاه عباس هذه الفرصة لاسترجاع بلاد العراق العجمي، واحتل مدائن تبريز ووان وغيرهما. ولمناسبة اضمحلال جيوش الدولة في هذه الحروب — التي استمرت عدَّة سنوات متوالية — وموت أهمِّ قوَّادها، خصوصًا الصدر الأعظم قويوجي، يوم ٥ أغسطس سنة ١٦١١، تراسلت الدولتان على الصلح، وتم الأمر بينهما في سنة ١٦١٢ بمساعي نصوح باشا الذي تولى منصب الصدارة بعد موت قويوجي مراد باشا، على أن تترك الدولة العلية لمملكة العجم جميع الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون من عهد السلطان الغازي سليمان الأوَّل القانوني بما فيها مدينة بغداد. وهذه أوَّل معاهدة تركت فيها الدولة بعض فتوحاتها، ويمكننا القول بكل أسف وحزن إنها كانت فاتحة الانحطاط وأوَّل المعاهدات المشئومة التي ختمت بمعاهدة برلين الشهيرة.
أما من جهة المجر والنمسا، ففي أثناء اشتغال الدولة بحروبها الداخلية استبدَّ النمساويون ببلاد المجر، وأساءوا معاملة أشرافها نظير إخلاصهم للدولة العلية حتى رفضوا نير النمسا المسيحية، وطلبوا من الدولة أن ترمقهم بعين حمايتها وتخلِّصهم من استرقاق النمسا لهم، وانتخبوا الأمير «بوسكاي» ملكًا عليهم سنة ١٦٠٥، فانشرحت الدولة لهذه النتيجة التي ما كانت تنتظرها من أمة مسيحية، لا سيما وهي في حالة كربة لكثرة الحروب الداخلية وتقهقر جيوشها أمام الشاه عباس، فقبلت هذا الاسترحام واعتمدت انتخاب «بوسكاي» وأمدته بجيوشها؛ ففتحت في زمن يسير حصون «جران» و«يسجراد» و«سيريم» وغيرها.
وفي سنة ١٦٠٦ خشيت النمسا من امتداد الفتوحات العثمانية؛ فسعت في سلخ بوسكاي عن الدولة؛ فاعترفت بانتخابه ملكًا للمجر وأميرًا لإقليم ترنسلفانيا، وتنازلت عن كافة الأقاليم المجرية التي كانت للسلطان «باتوري» بشرط رجوع ما يكون منها ألمانيًّا — وخصوصًا إقليم ترنسلفانيا — إلى إمبراطور ألمانيا بعد موت بوسكاي. ولزيادة اضطراب أحوال الدولة بآسيا وتعسر استمرار الحرب مع النمسا بدون مساعدة جيوش المجر لها أبرمت الصلح مع إمبراطور النمسا في سنة ١٦٠٦ عينها على أن لا تدفع النمسا الجزية السنوية التي قدرها ثلاثون ألف دوكا في المستقبل مقابل التعويض عنها للدولة بدفع مبلغ مائتيْ ألف دوكا، وأن تضم الدولة العلية لأملاكها حصون «جران» و«أرلو» و«كانيشا». وفي سنة ١٦٠٨ اجتمع نواب النمسا والمجر في مدينة برسبورج وصدَّقوا على هذا الاتفاق، وكذلك صدَّق عليه لمدة عشرين سنة من تاريخ التصديق مندوبو مملكة ألمانيا مجتمعين بهيئة مؤتمر بمدينة «ويانة» سنة ١٦١٥. أما بلاد المجر فبقيت تابعة للدولة بعضها تبعية فعلية والبعض تبعية حماية، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة «ستواتوروك».
وبعد التصديق نهائيًّا على هذا الاتفاق من جميع أولي الشأن توفي «بوسكاي» وامتنع أهالي إقليم ترنسلفانيا عن الدخول ضمن أملاك الإمبراطورية، مفضلين البقاء تحت حماية الدولة العثمانية الإسلامية التي لم تتعرَّض لهم لا في دينهم ولا في عوائدهم اكتفاءً بالجزية السنوية، فعينت لهم الدولة «سجسمون راجوتسكي» ثم «جبرائيل باتوري» ثم «بتلن جابور»، وهو من أشد خصوم دولة النمسا وألدِّ أعدائها. وتعهَّد هذا الأمير بمنع أمراء الفلاخ والبغدان من اقتناء الأراضي والقصور في إمارته حتى لا يلتجئوا إليها لو تمردوا على الدولة، وبتسليمهم لها لو فرُّوا إليها. وبذلك صارت ترنسلفانيا حائلًا بين الإمارتين وبلاد المجر.
هذا؛ ولو أن الحروب انقطعت على كافة حدود الدولة تقريبًا إلا أنه قد حصلت ما بين سنة ١٦١١ وسنة ١٦١٤ بعض مناوشات بحرية بين مراكب الدولة وسفن رهبان مالطة وملك إسبانيا وولايات إيطاليا كان الفوز فيها غالبًا لمراكب الأعداء، ولذلك أمر الصدر نصوح باشا بجمع جميع سفن الدولة في مياه البحر الأبيض المتوسط لصدِّ تعدِّيات مراكب الإفرنج وحفظ طريق البحر بين الآستانة وولايات الغرب، فانتهز بعض أخلاط القوزاق انسحاب السفن الحربية من البحر الأسود وأغاروا على ثغر سينوب ونهبوا ما به. ولما علم السلطان بذلك غضب على الصدر الأعظم وسعى به بعض مبغضيه طمعًا في نوال منصبه، وما فتئوا يوغرون صدر سيده عليه حتى أمر بقتله في ١٤ أكتوبر سنة ١٦١٤، فخنق في قصره.