السلطان عثمان خان الثاني وخلعه ثم قتله وإرجاع السلطان مصطفى ثم عزله
هو ابن السلطان أحمد الأوَّل، وأمر بإطلاق قنصل فرنسا وكاتبه ومترجمه، وأرسل مندوبًا لملك فرنسا لويس الثالث عشر يسمى حسين جاووش بجواب اعتذار عما حصل من الإهانة لسفيره، وبذلك انحسمت هذه المشكلة.
وحدث في هذه الأثناء أن تداخلت بولونيا في شئون إمارة البغدان لمساعدة «جراسياني» الذي عزل بناءً على مساعي بتلن جابور — أمير ترنسلفانيا — وأضيفت إمارته إلى إسكندر شربان — أمير الفلاخ — وصارت الإمارتان تابعتين له؛ فاتخذ السلطان عثمان هذا التداخل سببًا في إشهار الحرب على مملكة بولونيا وتحقيق أمنيته، وهي فتح هذه المملكة وجعلها فاصلًا بين أملاك الدولة ومملكة الروسيا التي ابتدأت في الظهور، وقبل الشروع في الحرب أمر بقتل أخيه محمد تبعًا للعادة المشروعة؛ فقتل في ١٢ يناير سنة ١٦٢١ مأسوفًا عليه.
ثم أصدر أمرًا بتقليل اختصاصات المفتي، ونزع ما كان له من السلطة في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفته قاصرة على الإفتاء حتى يأمن شرَّ دسائسه التي ربما تكون سببًا في عزله كما كانت سبب عزل سلفه، لكن أتى الأمر على الضدِّ بما كان يؤمِّل كما سيجيء، وبعد أن أتمَّ هذه التمهيدات الداخلية سيَّر الجيوش والكتائب لمحاربة مملكة بولونيا فالتقت بجيشهم تحت قيادة أمير «ولنا»، وكان متحصنًا في محل منيع بالقرب من بلدة يقال لها «شوك زم»، فهاجم العثمانيون في حصونهم عدَّة دفعات متوالية بدون أن يزحزحوهم عن معاقلهم، فطلبت الانكشارية الكفَّ عن الحرب، وطلب البولونيون الصلح لفقد قائدهم وتبادلت بينهما المخابرات، وتم الصلح وأُمضِي من الطرفين في ٦ أكتوبر سنة ١٦٢٠، فحنق السلطان على الانكشارية من طلبهم الراحة وخلودهم إلى الكسل وإلزامه على الصلح مع بولونيا بدون تتميم قصده؛ أي ضمها إلى أملاكه، وعزم على إبطالها وإفنائها عن آخرها. ولأجل التأهب لتنفيذ هذا الأمر الخطير أمر بحشد جيوش جديدة في ولايات آسيا وتنظيمها وتدريبها على القتال حتى إذا كملت عدة وعددًا استعان بها على إبادة هذه الفئة الباغية. وشرع فعلًا في نفاذ هذا المشروع، لكن أحسَّ الانكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمَّروا، واتفقوا على عزل السلطان، وتمَّ لهم ذلك في يوم ٩ رجب سنة ١٠٣١ (الموافق ٢٠ مايو سنة ١٦٢٢)، وأعادوا مكانه السلطان مصطفى الأوَّل، ولم يكتفوا بعزله، بل هجموا عليه في سرايه وانتهكوا حرمتها، وقبضوا عليه بين جواريه وزوجاته وقادوه قهرًا إلى ثكناتهم موسعيه سبًّا وشتمًا وإهانة مما لم يسبق له مثيل في تاريخ دولتنا العلية. وزيادة على ذلك أنهم نقلوه من هناك إلى القلعة المعروفة بذات السبع قلل «يدي قله» حيث كان بانتظاره كل ممن يدعى داود باشا وعمر باشا الكيخيا وقلندر أوغلي وغيرهم؛ فأعدموا السلطان عثمان الحياة غير مبالين بهذا الجرم العظيم والإثم الذي ما بعده إثم إلا الكفر المبين، فإنه إن كانت مخالفة أوامر الخليفة الأعظم تعدُّ كفرًا بنص الكتاب الشريف فما بالك بقتله؟!
وهنا يقف القلم ويكفُّ المداد عن وصف هذه الفعلة الشنعاء والكبيرة الشعواء تاركًا وصفها للقارئ اللبيب والمطلع الأديب؛ لعجزي عن هذا المقام العالي وتقصيري عن هذه المراتب العوالي وقلة بضاعتي وقصور قريحتي، مكتفيًا بنقل أسماء مرتكبيها إلى الخَلَف لتكون هدف سخطتهم ومرمى سهام فضيحتهم. وقتل رحمه الله ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ومدَّة حكمه أربع سنين وأربعة أشهر.
وبعد ذلك صارت الحكومة ألعوبة في أيدي الانكشارية ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم، فعزلوا داود باشا — قاتل السلطان — بعد بضعة أيام، وصاروا يمنحون المناصب لمن يجزل إليهم العطايا، فكانت الوظائف تُبَاع جهارًا، وارتكبوا أنواع المظالم في القسطنطينية. ولما بلغ خبر قتل السلطان إلى الولاة وانتشرت بينهم أخبار الفوضى السائدة في الآستانة وَسْوَسَ لهم إبليس الطمع فأطاعوه، وسرى في عروقهم شيطان الغواية فاتبعوه، فأشهر والي طرابلس الشام استقلاله وطرد الانكشارية من ولايته، واقتفى أثره والي أرضروم المدعو أباظة باشا مدَّعيًا أنه يريد الانتقام للمرحوم السلطان عثمان شهيد الانكشارية، وسار بمن تبعه إلى سيواس وأنقرة ففتحهما مصادرًا التزامات الانكشارية وإقطاعاتهم قاتلًا كل من وقع في مخالبه من هذه الفئة التي تلوَّثت بدم سلالة سلاطينهم، وتبعه والي سيواس وسنجق قره شهر. ثم سار إلى مدينة بورصة فحاصرها ودخلها بعد ثلاثة أشهر إلا قلعتها فلم تسلم.
واستمرَّت الاضطرابات الداخلية في نفس كرسي الخلافة العظمى ولا أمن ولا سكينة مدة ثمانية عشر شهرًا متوالية، حتى إذا شعر العموم بما وراء هذه الفوضى من الدمار والخراب وشبع الانكشارية نهبًا وسلبًا وقتلًا في نفوس الأهالي وأموالهم عيَّنوا من يدعى «كمانكش علي باشا» صدرًا أعظم لتوسمهم فيه الخبرة والاستعداد، فأشار عليهم بعزل السلطان مصطفى ثانيًا لضعف عزيمته ووهن قواه العقلية، فعزلوه في ١٥ ذي القعدة سنة ١٠٣٢ (الموافق ١١ سبتمبر سنة ١٦٢٣)، وولوا مكانه السلطان مراد الرابع، وبقي في العزل إلى أن توفي في غضون سنة ١٠٤٩ﻫ (الموافقة سنة ١٦٣٩م).