السلطان الغازي مراد خان الرابع
هو ابن السلطان أحمد الأوَّل ابن السلطان محمد الثالث. ولد في ٢٨ جمادى الأولى سنة ١٠١٨ (الموافق ٢٩ أغسطس سنة ١٦٠٩م)، وولاه الانكشارية بعد عزل عمه السلطان مصطفى الأوَّل ابن السلطان محمد الثالث مع حداثة سنه كي لا يكون معارضًا لهم في أعمالهم الاستبدادية، ولا مضعفًا لنفوذهم الذي اكتسبوه بقتل سلطان وعزل غيره، واستمروا مدَّة العشر سنين الأولى من حكمه على غيهم وطغيانهم.
(١) محاربة العجم واستيلاؤهم على بغداد
وانتهز الشاه عباس — ملك العجم — هذا الاختلال فرصة لتوسيع أملاكه من جهة حدود الدولة العلية، فكان الأمر حينئذٍ بعكس ما كان عليه أيام المرحوم الغازي السلطان سليمان القانوني؛ وذلك أن رئيس الشرطة في مدينة بغداد واسمه بكير أغا ثَارَ على الوالي وقتله واستبدَّ في الأحكام، فأرسلت له الدولة قائدًا يدعى حافظ باشا حاربه وحصره في دار السلام، فسولت لبكير أغا نفسه الخبيثة أن يخون الدولة، وراسل الشاه عباسًا، وعرض عليه تسليم المدينة، فسار الشاه بجنوده لاحتلالها. وفي الوقت نفسه عرض بكير أغا على القائد العثماني أن يرد المدينة للعثمانيين لو أقرته الدولة على ولايتها؛ فقبل ذلك واحتلتها الجنود المظفرة قبل وصول شاه العجم، وهو لما وصلها حاصرها ثلاثة أشهر، ثم فتحها بخيانة ابن بكير أغا الذي سلمها له بشرط تعيينه حاكمًا عليها من قبلهم، لكن خاب سعيه؛ فقد قتله الشاه جزاء خيانته كما قتل أباه.
وفي ذلك عبرة لكل جاهل خائن يظن أن الأجنبي يعتقد فيه الإخلاص ويكافئه لو ساعده على ابتلاع وطنه، فهل يرجو من باع وطنه العزيز بيعَ المتاع خيرًا من تلك الدولة؟ كلَّا؛ فإنها تستعمله آلة لنوال غرضها ثم تلفظه لفظ النواة، فيرجع يعضُّ بنان الندم على ضياع شرفه وتسويد صفحات تاريخه حيث لا ينفع الندم، وينكص على عقبيه مذمومًا مدحورًا. وبمناسبة سقوط بغداد في أيدي العجم وعدم إخباره السلطان بذلك سعى المنافقون بالصدر الأعظم كمانكش علي باشا لدى السلطان، وأفهموه أنها لم تسقط إلا لخيانته، فحنق عليه وأمر بقتله، وولَّى مكانه جركس محمد باشا. ولم يلبث هذا الأخير أن توفي، وعين بعده حافظ أحمد باشا سنة ١٠٣٣ هجرية (الموافقة سنة ١٦٢٤م)، وهو الذي اشتهر في مكافحة أباظة باشا والفوز عليه في واقعة قيصرية ومحاصرته في أرضروم حتى التزم بالخضوع للدولة وإظهار الولاء لها، فعفت عنه عفوَ كريم مقتدر وأقَّرته في ولايته سنة ١٦٢٤م، فسار حافظ باشا — الصدر الجديد — إلى مدينة بغداد لاستردادها، وحاصرها في أوائل سنة ١٦٢٤ وضيَّق عليها الحصار. ولما استمر الحصار مدة بدون أن تنثني عزيمة المحصورين تذمَّر الانكشارية، وأظهروا عدم الرغبة في الحرب بكيفية اضطرته لرفع الحصار عن المدينة والرجوع إلى الموصل، ومنها إلى ديار بكر، حيث ثار الجند مرة ثاينة؛ فعزل السلطان حافظ باشا سنة ١٠٣٤ هجرية (الموافقة سنة ١٦٢٤) وعين بدله من يدعى خليل باشا الذي سبق تقلده هذا المنصب في عهد السلاطين أحمد الأول ومصطفى الأول وعثمان الثاني شهيد الانكشارية، وكانت فاتحة أعماله أنه استدعى أباظه باشا إلى معسكره، فظن أنه يريد الغدر به؛ فرفع راية العصيان ثانيًا وقتل حامية أرضروم من الانكشارية، وانتصر على القائد حسين باشا وجيشه، فسار إليه الصدر خليل باشا بنفسه وحصره، ثم رفع عنه الحصار بعد شهرين (نوفمبر سنة ١٦٢٧)، فعزل من الصدارة سنة ١٠٣٥ هجرية وولي مكانه خسرو باشا، وهو عاود الكرَّة على أرضروم وأدخل أباظه باشا في طاعة الدولة وعينه واليًا على البشناق (بوسنة) سنة ١٠٣٧ﻫ (سنة ١٦٢٨م).
وفي هذه الأثناء كانت ثورات الجنود متتابعة بالآستانة، وفي كل مرة يطلبون قتل من يشاءون من رؤساء الحكومة المخالفين لهم في الرأي، ولا يرى السلطان مندوحة من إجابة طلباتهم إسكاتًا لهم وخوفًا من أن يصل إليه أذاهم. ثم توفي الشاه عباس وتولى ابنه شاه ميرزا، وكان حديث السن؛ فدخل العشم في أفئدة القواد العثمانيين، وسار خسرو باشا من حينه إلى بلاد العجم رغمًا عن تذمر جنوده، ووصل بعد العناء الشديد إلى مدينة همذان؛ فدخلها فجأة في أواخر شوَّال سنة ١٠٣٩ (الموافق ١٨ يونيو سنة ١٦٣٠)، ثم قصد مدينة بغداد وانتصر أثناء عودته إليها ثلاث دفعات متواليات على جيوش العجم، ووصل إليها وابتدأ في محاصرتها في شهر سبتمبر من السنة المذكورة، فدافع عنها قائد حاميتها دفاعًا شديدًا وصد هجوم العثمانيين عنها في ٧ ربيع الآخر سنة ١٠٤٠ (الموافق ١٤ نوفمبر سنة ١٦٣٠). ولهجوم الشتاء رفع خسرو باشا عنها الحصار، ورجع إلى مدينة الموصل لقضاء فصل الشتاء. وفي الربيع التالي أراد معاودة الكرة على مدينة بغداد فلم تمتثل الجنود أوامره؛ ولذلك اضطر إلى التقهقر إلى مدينة حلب خوفًا من وصول العدوِّ إليه بالموصل وهو غير واثق من جنوده.
ثورة الانكشارية وقتلهم الصدر الأعظم حافظ باشا وثورة فخر الدين الدرزي
وفي غضون ذلك أصدر السلطان أمره بعزل خسرو باشا وإعادة حافظ باشا إلى منصب الصدارة؛ فسعى المعزول لدى الجند وأفهمهم أنه لم يعزل إلا لمساعدته لهم، فثاروا وأرسلوا إلى الآستانة يطلبون إرجاعه. ولما لم يُجِب السلطان طلبهم ساروا إلى القسطنطينية وقاموا بثورة عظيمة خيف منها على حياة الملك؛ فإنهم دخلوا السراي السلطانية في ١٨ رجب سنة ١٠٤١ (الموافق ٩ فبراير سنة ١٦٣٢)، وقتلوا حافظ باشا رغمًا عن تداخل السلطان ومنعهم عنه، فاغتاظ السلطان وأمر بقتل خسرو باشا محرِّك هذه الفتنة، فقتل ولم ينلْ بُغيته من البقاء في الصدارة، وعين من يدعى بيرام محمد باشا صدرًا أعظم، ومن ذلك الحين أظهر السلطان عزمًا شديدًا قويًّا في مجازاة رءوس الانكشارية وغيرهم ممن كان يهيج الخواطر ويقلق الراحة العمومية، وصار يأمر بقتل كل من ثبت عليه أقل اشتراك في الحركات الأخيرة، وبذلك داخلهم الرعب ووقعت مهابته في قلوبهم، وخشيه الصغير والكبير والأمير والحقير، وسار كلٌّ في طريقه مكبًّا على عمله بدون أن يأتي ما يكدِّر صفو كأس الراحة العمومية، وأمن الناس على أموالهم وأعراضهم من التعدِّي، وسادت السكينة في القسطنطينية وضواحيها وجميع أنحاء المملكة.
وكانت آخر ثورة للانكشارية في آخر شوَّال سنة ١٠٤١ (الموافق ١٩ مايو سنة ١٦٣٢) حرَّكها من يدعى رجب باشا لغاية في النفس، فأمر السلطان بقتله وإلقاء جثته من شبابيك السراي حتى يراها المتجمهرون، فسكنت الخواطر، ولم يحصل ما يعبث بالأمن بعد ذلك في مدَّته. وبعد كسر شوكة الانكشارية أراد السلطان أن يُعيد للدولة ما فقدته من النفوذ بسبب إهمال بعض أسلافه وعدم إطاعة الانكشارية وامتناعهم عن الحرب عند الحاجة القصوى، فأرسل إلى والي دمشق بمحاربة فخر الدين أمير الدروز، وإدخاله في طاعة الدولة، فقام الوالي بالمأمورية خير قيام وهزم فخر الدين وأسره هو وولديه وأرسلهم إلى القسطنطينية، حيث عاملهم السلطان بكل احتفاء وإكرام، ولكن لما بلغ السلطان أن أحد أحفاده ثار ثانيًا ونهب بعض مدائن الشام أمر بقتله وولده الأكبر، فقتلا في ذي القعدة سنة ١٠٤٤ (أبريل سنة ١٦٣٥)، فأطاع الدروز وبقيت الإمارة في ذرية فخر الدين المذكور نحو مائة سنة، ثم انتقلت إلى عائلة شهاب، التي منها الأمير بشير الشهير في حروب إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والدولة في النصف الأوَّل من هذا القرن المسيحي.
فتح أريوان واسترجاع بغداد
ثم سار السلطان بنفسه الشريفة إلى بلاد العجم لاسترجاع فتوحات السلطان الغازي سليمان الأول القانوني، ففتح مدينة أريوان في ٢٥ صفر سنة ١٠٤٥ (الموافق ١٠ أغسطس سنة ١٦٣٥)، وأرسل السلطان رسولين إلى الآستانة لتزيين المدينة مدة سبعة أيام، وقتل أخويه بايزيد وسليمان لبلوغه عنهما ما كدَّر خاطره واتِّباعًا للعادة المذمومة. وبعد ذلك قصد السلطان مدينة تبريز ففتحها عنوة في ٢٨ ربيع الأول سنة ١٠٤٥ (الموافق ١٠ سبتمبر سنة ١٦٣٥) المذكورة، ثم عاد إلى الآستانة للاستراحة من عناء السفر ومشقات الحرب.
ومما يدل على أن وجود السلطان مع جيوشه له أهمية عظمى ويبعث فيهم روحًا جديدة أنه بمجرد رجوع السلطان اشتدَّ عزم العجم ووقفوا أمام الجيوش العثمانية بعد أن كانوا يفرون من أمامهم أينما التقوا بهم والسلطان قائدهم، ثم تغلبوا عليهم واستردُّوا مدينة «أريوان» وفازوا بالغلبة في واقعة منتظمة في وادي مهربان سنة ١٦٣٦.
فلما وصل خبر انتصار العجم على الجنود العثمانية إلى مسامع السلطان أراد إذلالهم وكسر شوكتهم، فسار بجيش عظيم كامل العَدَد والعُدَد إلى مدينة دار السلام، وابتدأ حصارها بكيفية منتظمة في ٨ رجب سنة ١٠٤٨ (الموافق ١٥ نوفمبر سنة ١٦٣٨)، وكان يشتغل بنفسه في أعمال الحصار الشاقة تنشيطًا للجند، وسلط على أسوارها المدافع الضخمة التي نقلها إليها. ولما فتحت المدافع فيها فتحة كافية للهجوم أصدر السلطان أوامره بذلك؛ فهجمت الجيوش كالليوث الكواسر في صبيحة ١٨ شعبان سنة ١٠٤٨ (الموافق ٢٥ دسمبر سنة ١٦٣٨)، ولم يثنها قتل الصدر الأعظم طيار محمد باشا، الذي تولى بعد موت بيرام محمد باشا المتوفى في ٦ ربيع الآخر سنة ١٠٤٨ (الموافق ١٧ أغسطس سنة ١٦٣٨)، بل استمرت الحرب ٤٨ ساعة متوالية ختمت بانتصار الجنود العثمانية نصرًا مبينًا ودخولهم المدينة وإرجاعها إلى المملكة العثمانية، ولم تزل تابعة إليها حتى الآن.
وبعد ذلك رغب شاه العجم عدمَ استمرار القتال، وعرض الصلح على الدولة العلية بأن يترك لها مدينة بغداد بشرط أن تترك هي إليه مدينة «أريوان»، ودارت المخابرات بين الدولتين نحو عشرة أشهر كاملة. وفي ٢١ جمادى الأولى سنة ١٠٤٩ (الموافق ١٩ سبتمبر سنة ١٦٣٩) تَمَّ الصلح على ذلك، وانقطعت أسباب العدوان من بينهما. وكان يؤمل في السلطان مراد الرابع أن يضارع السلطان الغازي سليمان الأوَّل القانوني في الفتوحات وبعد الصيت لولا أن قصفت المنون عود حياته الرطيب وهو في مقتبل الشباب، فتوفي رحمه الله عن غير عقب في ١٦ شوَّال سنة ١٠٤٩ هجرية (الموافق ٩ فبراير سنة ١٦٤٠م) وسنُّه ٣١ سنة ومدَّة حكمه ١٦ سنة و١١ شهرًا، وتولى بعده أخوه إبراهيم.