السلطان الغازي محمد خان الرابع
وفي هذه الأثناء تغلبت مراكب جمهورية البندقية على عمارة الدولة عند مدخل الدردنيل، واحتلت «تنيدوس» وجزيرة لمنوس وغيرهما، ومنعت بذلك المراكب الحاملة للقمح وأصناف المأكولات عن الوصول إلى القسطنطينية من هذا الطريق حتى غلت جميع الأصناف، واستمرَّ الحال على هذا المنوال ولا نظام ولا أمن ولا سكينة، وبالاختصار لا حكومة ثابتة إلى أن قيَّض لها المولى — سبحانه وتعالى — الوزير محمد باشا الشهير بكوبريلي، الذي تولى منصب الصدارة سنة ١٠٦٧ (الموافقة سنة ١٦٥٦)، فعامل الانكشارية معاملة من يريد أن يطاع إطاعةً عمياء، وقتل منهم خلقًا كثيرًا عندما ثاروا كعادتهم لما رأوه رجلًا خبيرًا بدخائل الأمور قادرًا على قمعهم وإلزامهم العود إلى السكينة، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق بطريرك الأروام لما ثبت له تداخله في الدسائس والفتن الداخلية.
ولما وصل خبر تمرُّدهم إلى الآستانة رجع كوبريلي على جناح السرعة لمحاربتهما قبل اشتداد الخطب واتساع الخرق على الراقع، وانتصر عليهما نصرًا مبينًا، ثم عزل ميهن جزاء خيانته وعين «غيكا» قرال البغدان قرالًا على الفلاخ أيضًا سنة ١٦٥٩. وفي السنة التالية احتلَّ والي بود عاصمة المجر مدينة «جروس واردين» التابعة للنمسا بعد مناوشات خفيفة، فاعتبرت النمسا ذلك إعلانًا للحرب، وابتدأت الحركات العدوانية بين الطرفين.
فتح قلعة نوهزل
وكان خير خلف لخير سلف؛ فإنه كان متصفًا بالشجاعة والإقدام وحسن الرأي وأصالة التدبير، واستمر على خطة أبيه من عدم التساهل مع الجندية ومجازاة من يقع منه أقل أمر مخل بالنظام بأشدِّ العقاب، ومحاربة أعداء الدولة بدون فتور أو ملال حتى يُزيل من أذهانهم ما خامرها من تضعضع أحوال الدولة وقرب زوالها. ولذلك لم يقبل ما فاتحته به دولة النمسا وجمهورية البندقية من الصلح، وقاد الجيوش بنفسه، وعَبَرَ نهر الطونة لمحاربة النمسا، ووضع الحصار أمام قلعة «نوهزل» في يوم ١٣ محرم سنة ١٠٧٤ (الموافق ١٧ أغسطس سنة ١٦٦٣). ومع أن هذه القلعة كانت مشهورة في جميع أوروبا بالمناعة وعدم إمكان أي أحد التغلب عليها وفتحها، فقد اضطر كوبريلي أحمد باشا حاميتَها إلى التسليم بشرط خروج من بها من الجنود بدون أن يمسهم ضرر، تاركين ما بها من الأسلحة والذخائر، وأخلوها فعلًا في ٢٥ صفر سنة ١٠٧٤ (الموافق ٢٨ سبتمبر سنة ١٦٦٣) بعد البدء في حصارها بستة أسابيع.
وانضم هذا الجيش إلى الجيش النمساوي القائد له الكونت دي ستروتزي، وابتدأت المناوشات بين الجيشين المتحاربين، فقتل القائد العام النمساوي وخلفه القائد الشهير «مونت كوكوللي»، وكان قد انضم إلى الجيش الفرنساوي عدد عظيم من شبان الأشراف تحت رئاسة الدوك دي لافوياد. وفي الأوائل كان النصر في جانب العثمانيين، فاحتل كوبريلي أحمد باشا مدينة «سرنوار» وعسكر على شاطئ نهر يقال له نهر «راب» والأعداء معسكرون أمامه، وبعد أن حاول عبوره وصدَّه الجيش النمساوي الفرنساوي جمع كل قواه في يوم ٨ محرم سنة ١٠٧٥ (الموافق أوَّل أغسطس سنة ١٦٦٤) وعبر النهر عنوة. وبعد قليل انتصر على قلب جيش العدوِّ، ولولا تدخل الفرنساويين، وخصوصًا الأشراف منهم لتمَّ للعثمانيين النصر. لكن لم يمكن الانكشارية الثبات أمام جنود العدوِّ الأكثر منهم عددًا؛ فإنهم كلما قتل منهم صف تقدَّم الآخر، وبذلك انتهى اليوم بدون انتصار تام لأحد الفريقين، فإن العثمانيين حافظوا على مراكزهم بدون تقدم للأمام، وسميت هذه الواقعة بواقعة «سان جوتار»؛ نسبة لكنيسة قديمة حصلت الحرب بالقرب منها. وبعد ذلك تبادلت المخابرات توصلًا للصلح. وبعد عشرة أيام أبرمت بين الطرفين معاهدة أهم ما بها إخلاء الجيش لإقليم ترنسلفانيا وتعيين «أبافي» حاكمًا عليها تحت سيادة الدولة العلية، وتقسيم بلاد المجر بين الدولتين بأن يكون للنمسا ثلاث ولايات وللباب العالي أربعة، مع بقاء حصني «نوفيجراد» «ونوهزل» تابعين للدولة العلية.
وفي سنة ١٦٧٠ أرسل لويز الرابع عشر سفيرًا غيره يدعى الماركي دي نوانتل بعمارة بحرية حربية بقصد إرهاب الصدر وتهديده بالحرب إذا لم يذعن لطلبات فرنسا، لكن لم ترهبه هذه التظاهرات، بل قابل السفير بكل سكون وقال له: إن تلك المعاهدات لم تكن إلا منحًا سلطانية لا معاهدات اضطرارية واجبة التنفيذ، وإنه إن لم يرتح لهذا الجواب فما عليه إلا الرحيل. ولما وصل هذا الجواب إلى ملك فرنسا أراد إعلان الحرب على الدولة، ولولا نصائح الوزير «كولبر» لركبت فرنسا هذا المركب الخشن، وجلبت لنفسها ضررًا فادحًا بقفل أبواب الشرق أمام مراكبها، بل تمكَّن كولبر بحكمته وسياسته ومعاملة الدولة العلية باللين والخضوع من تجديد المعاهدات القديمة في سنة ١٦٧٣، وفوَّض ثانيًا إلى فرنسا حق حماية بيت المقدس كما كان لها ذلك من أيام السلطان سليمان، وبذلك عادت العلاقات إلى سابق صفائها بين الدولتين.
لكن لم تقبل الأمة البولونية بهذا الوفاق، بل أصرَّت على استمرار القتال، وأرسلت قائدهم الشهير سوبيسكي بجيوش جرارة لمحاربة العثمانيين فاستردَّ مدينة لمبرج. وإظهارًا لممنونية الأمة انتخبته ملكًا عليها بعد موت ميشل سنة ١٦٧٣، واستمرَّت الحرب بين الدولتين سجالًا إلى سنة ١٦٧٦، وفيها جدَّد الملك سوبيسكي الصلح بعد أن فقد معظم جيوشه في هذه الحروب المستمرَّة، وتنازل للدولة العلية عما كان تنازل لها عنه الملك ميشل إلا بعض مدن قليلة الأهمية، وكانت هذه المعاهدة خاتمة أعمال كوبريلي أحمد باشا الذي توفي بعد إتمامها بقليل في ٢٤ رمضان سنة ١٠٨٧ (الموافق ٣٠ أكتوبر سنة ١٦٧٦) عن إحدى وأربعين سنة قضى منها خمس عشرة سنة في منصب الصدارة العظمى بكل أمانة وصداقة سائرًا في ذلك على خطة والده المرحوم كوبريلي محمد باشا. وتقلد منصب الصدارة بعده زوج أخته قره مصطفى، ولم يكن كفؤًا للسير في الطريق الذي رسمه كوبريلي الكبير وولده، بل اتبع مصلحته الذاتية وباع المناصب العالية والمعاهدات والامتيازات المجحفة بالدولة حالًا واستقبالًا بدراهم معدودة. وبسوء سياسته كدَّر خواطر القوزاق وأبعدهم عن الدولة، حتى إن خان إقليم «أوكرين» عصاها جهارًا في فبراير سنة ١٦٧٧، واستنجد بالروسيا التي كانت آخذة إذ ذاك في تنظيم داخليتها وتقدُّم أمتها، وكانت تتوق للدخول ضمن المجتمع الأوروبي فأمدَّته بالرجال وحاربت عساكر الدولة، واستمرَّ الحرب بين القوزاق والروس من جهة والعثمانيين من جهة أخرى بين أخذٍ وردٍّ حتى سنة ١٦٨١، حيث تمَّ الصلح بينهم على بقاء الحالة على ما كانت عليه قبل ابتداء الحرب، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة رادزين.
وفي هذه السنة سار قره مصطفى باشا إلى بلاد المجر لمحاربة النمسا بناءً على استدعاء «تيليكي» أحد أشراف المجر الذي أثار الإيالات المجرية التابعة للنمسا للتخلص من استبدادها الديني، فإن الإمبراطور ليوبولد لكونه كاتوليكيًّا كان يأمر بقتل كل من يلوح عليه أدنى ميل إلى مذهب البروتستانت.
حصار مدينة ويانة آخر دفعة
وبعد أن انتصر عدَّة مرات على النمساويين قصد مدينة ويانة — عاصمة النمسا — فحاصرها سنة ١٦٨٣ مدَّة شهرين، واستولى على كافة قلاعها الأمامية وهدم أسوارها بالمدافع وألغام البارود. ولما لم يبقَ عليه إلا المهاجمة الأخيرة المتممة للفتح أتى سوبيسكي — ملك بولونيا — ومنتخبي «ساكس» و«بافييرا» بجيوشهم بناءً على إلحاح البابا عليهم واستنهاضه هممهم لمحاربة المسلمين حتى أضرم في قلوبهم نار التعصب الديني. وفي يوم ٢٠ رمضان سنة ١٠٩٤ (الموافق ١٢ سبتمبر سنة ١٦٨٣) هاجم سوبيسكي ومن معه العثمانيين في المرتفعات المتحصنين بها، وبعد أن استمرَّ القتال طول النهار فاز المسيحيون بالنصر وانهزم قره مصطفى باشا وجيوشه أمامهم، تاركًا كافة المدافع والذخائر والمؤن، فكان يومًا مشهودًا يجعل الولدان شيبًا، ثم جمع قره مصطفى باشا ما بقي من جنوده ولمَّ شعثهم على نهر «راب»، ومن هناك قَفَلَ راجعًا إلى مدينة بود والملك سوبيسكي سائر خلفه يقتل كل من يتخلَّف في السير، وفتح مدينة جران بكل سهولة. ولما وصل خبر هذا الخذلان الذي لم يسبق لجيوش الدولة أمر السلطان محمد الرابع بقتل الصدر قره مصطفى باشا، وأرسل أحد رجال حاشيته فقتله وأرسل برأسه إلى القسطنطينية، وعين مكانه إبراهيم باشا سنة ١٠٩٥.
وفي سنة ١٦٤٨ أطلق دوكين أيضًا المدافع على مدينة الجزائر بالغرب مدَّة، ولم يكف عن إلقاء المقذوفات النارية عليها حتى دفع إليه أهلها مليونين ومائتيْ ألف غرش غرامة حربية، وأطلقوا سراح من عندهم من أسرى الفرنساويين. وفي السنة التالية فعل هذا الأمر الشنيع أيضًا في ميناء طرابلس الغرب، ولاشتغال الدولة بمحاربة التحالف المقدَّس ضربت كشحًا من هذه التعدِّيات المخالفة لقوانين الحرب، ووجهت اهتمامها إلى الجيوش المتعددة التي زحفت على بلادها من كل حدب؛ فإن جيوش الملك سوبيسكي كانت تهدد بلاد البغدان وسفن البنادقة تهدد سواحل اليونان وبلاد مورة، ولعدم وجود المراكب الكافية لصدِّ هجمات سفن البنادقة التي كانت تعززها مراكب البابا ورهبنة مالطة احتلت جيوش البنادقة في سنة ١٦٨٦ أغلب مدن اليونان حتى كورنته وآتينه. أما النمسا فأغارت جيوشها على بلاد المجر، واحتلوا مدينة يست الواقعة أمام مدينة بود، وحاصروا هذه المدينة أيضًا، ولولا مدافعة حاكمها وحاميتها دفاع الأبطال لسقطت في أيديهم.
وفي سنة ١٦٨٥ احتل النمساويون عدَّة حصون وقلاع شهيرة أهمها قلعة نوهزل. وبسبب هذه الانهزامات المتعاقبة عزل الصدر إبراهيم باشا ونفي في جزيرة رودس، ولم يلبث في منصب الصدارة إلا سنتين، وتعين مكانه السر عسكر سليمان باشا، وكان مشهورًا بحسن التدبير والشجاعة والإقدام، لكن كانت الدولة قد وصلت إلى درجة من التقهقر أمام هذه القوى المتألبة عليها صار معها الخلاص صعبًا، لا سيما وقائد الجيوش النمساوية كان الدوك دي لورين الشهير.
وكان أول أعمال سليمان باشا الإسراع إلى إنجاد مدينة بود التي كان يحاصرها الدوك دي لورين بتسعين ألف جندي، لكن لم تُجْدِ مساعدته شيئًا، فإن القائد المذكور دخلها عنوة في يوم ١٣ شوال سنة ١٠٩٧ (الموافق ٢ سبتمبر سنة ١٦٨٦) بعد أن قتل حاكمها عبدي باشا وأربعة آلاف من جنوده في الدفاع عنها، ولم تدخل هذه المدينة ثانيًا في حوزة العثمانيين إلى الآن.
وبعد سقوط هذه المدينة في قبضة النمساويين ومحالفيهم أراد الصدر سليمان باشا أن يأتي عملًا يكفِّر عنه عند الأمة ما أتاه من التهاون في مساعدة مدينة بود، لكن أتاه الضرر من حيث كان يريد النفع لنفسه؛ فإنه جمع من بقايا كتائبه جيشًا مؤلفًا من ستين ألف مقاتل يعززهم سبعون مدفعًا، وانتظر انقضاء الشتاء والربيع لشدة بردهما وكثرة ما يسقط فيهما من الثلوج في هذه الجهات، باذلًا جهده في جمع الذخيرة الكافية وفي تدريب جنوده خيفة الفشل والتصاق الهوان باسمه، ثم هاجم جيوش التحالف المقدَّس في سهل موهاكز الذي سبق انتصار العثمانيين فيه على المجر نصرًا عزيزًا قبل هذا التاريخ بمائة وستين سنة، فالتحم الجيشان في ٣ شوال سنة ١٠٩٨ (الموافق ١٢ أغسطس سنة ١٦٨٧)، وبعد قتال شديد دارت الدائرة على الجيوش العثمانية فانهزموا عن آخرهم، وأخذ العدوُّ في جمع ما معهم من المدافع والسلاح والمؤن والذخائر، واحتلت جيوشه إقليم ترنسلفانيا وعدَّة قلاع من «كرواسيه». ولما ذاع خبر هذا الانكسار بين الجيوش الموجودة بالآستانة هاجوا وماجوا وأرسلوا للجيوش الباقية مع الصدر سليمان باشا؛ فأشهروا عليه العصيان، ولولا فراره إلى بلغراد لأعدموه الحياة، ثم أرسل الانكشارية والسباه وفدًا للآستانة يطلب من السلطان الأمر بقتل الصدر، فلم ير بدًّا من ذلك، وأمر بقتله تسكينًا لثورة غضب الجند. ولما لم يفد شيئًا ولم تعد السكينة بين الجيوش وخيف على المملكة العثمانية من الداخل، قرر الوزير الثاني (القائممقام) قره مصطفى باتحاده مع العلماء عزل السلطان محمد الرابع؛ فعزلوه في ٢ محرم سنة ١٠٩٩ (الموافق ٨ نوفمبر سنة ١٦٨٧م) بعد أن حكم أربعين سنة وخمسة أشهر، وبقي في العزلة إلى أن توفي في ٨ ربيع الآخر سنة ١١٠٤ (الموافق ١٧ دسمبر سنة ١٦٩٢م) بالغًا من العمر ٥٣ سنة، ودفن في تربة والدته ترخان سلطان وولوا بعد عزله أخاه.