السلطان الغازي مصطفى خان الثاني
وبعد ذلك أغار السلطان بجيوشه ثانيًا على بلاد المجر وفتح حصن «لبا» عنوة، وهزم الجنرال «فتراني» في موقعة لوجوس، وقتل من عساكره ستة آلاف جندي وأخذه أسيرًا، وقتله في ٢٢ سبتمبر سنة ١٦٩٥ (الموافق ١٢ صفر سنة ١١٠٧). وفي سنة ١٦٩٦ فاز السلطان فوزًا مبينًا على منتخب «ساكس» في موقعة أولاش. وبعد ذلك تقلد البرنس «أوجين دي سافوا» — القائد الشهير — قيادة الجيش النمساوي؛ فأعمل الفكرة في عدم ملاقاة الجيش العثماني في الأراضي السهلة، بل حاوله مدَّة بدون أن يمكن السلطان من مهاجمته حتى فاجأه هو أثناء عبور الجنود العثمانية لنهر «تيس»، وعدم استعدادها للدفاع بالقرب من قرية صغيرة اسمها زينتا، فقتل منهم عددًا عظيمًا من ضمنهم الصدر الأعظم الماس محمد باشا، وغرق منهم في النهر أكثر ممن قتل، ولولا وجود السلطان على الضفة الأخرى لسقط في أيديهم أسيرًا. وكان ذلك في ٢٥ صفر سنة ١١٠٩ (الموافق ١١ سبتمبر سنة ١٦٩٧)، ثم تبعهم البرنس أوجين ودخل بلاد البوسنة فاتحًا، وعين بعد ذلك عموجه زاده حسين باشا كوبريلي صدرًا أعظم.
وبعد مخابرة طويلة أُمضِيتْ بين الدولة العلية والنمسا والروسيا والبندقية وبولونيا معاهدة كارلوفتس في ٢٤ رجب سنة ١١١٠ (الموافق ٢٦ يناير سنة ١٦٩٩).
فتركت الدولة بلاد المجر بأجمعها وإقليم ترنسلفانيا لدولة النمسا، وتنازلت عن مدينة آزاق وفرضتها للروسيا، فصار لها بذلك يد على البحر الأسود، وزادت أهمية جوارها للدولة العلية أضعاف ما كانت عليه من قبل، وردَّت لمملكة بولونيا مدينة «كامينك» وإقليمي «بودوليا» وأوكروين، وتنازلت للبندقية عن بحيث جزيرة مورا إلى نهر «هكساميلون» وإقليم دلماسيا على البحر الأدرياتيكي بأجمعه تقريبًا، واتفقت مع النمسا على مهادنة خمس وعشرين سنة، وأن لا تدفع هي أو غيرها شيئًا للدولة العلية على سبيل الجزية أو مجرَّد الهدية. وبهذه المعاهدة فقدت الدولة جزءًا ليس بقليل من أملاكها بأوروبا، وزادت أطماع الدول في بلادها كما سيأتي مفصلًا.
ويمكننا القول بأن الاتفاق قد تمَّ من ذلك التاريخ بين جميع الدول — إن لم يكن صراحة فضمنًا — على الوقوف أمام تقدُّم الدولة العلية أولًا ثم تقسيم بلادها بينهم شيئًا فشيئًا، وهو ما يسمونه في عرف السياسة بالمسألة الشرقية المبنية على الخوف من انتشار الدين الإسلامي وحلوله محل الدين المسيحي ليس إلا. أما ما يسترون خلفه غاياتهم من الدفاع عن حقوق الأمم المسيحية الضعيفة الخاضعة للدولة فمما لم يعد أحد يغترُّ به.
وبعد إتمام هذه المعاهدة التي ربما كانت أوخم عاقبة لولا استظهار كوبريلي حسين باشا على البرنس أوجين — قائد الجيوش النمساوية في بلاد البوسنة — وجه هذا الوزير اهتمامه إلى الأمور الداخلية والشئون المالية والأحوال العسكرية مما لا قوام لأيِّ دولة إلا بانتظامها وتقويم المعوجِّ منها، فأتى لكل منها بالدواء الكافي والعلاج الشافي، وترك كثيرًا من الأموال المتأخرة على الأهالي — لا سيما المسيحيين منهم — حتى لا يجد منهم المفسدون المضلون نصراء الأجانب وسماسرتهم أذنًا صاغية لدسائسهم الإيهامية ووساوسهم الشيطانية التي يسلمون بها بلادهم للأجانب طمعًا في مال أو جاه لن يكونوا بالغيه، ولله في خلقه آيات.
ثم استقال هذا الوزير المصلح في ١٢ ربيع الآخر سنة ١١١٤ (الموافق ٥ سبتمبر سنة ١٧٠٢)، وعين مكانه في منصب الصدارة «دال طبان مصطفى باشا»، وكان جنديًّا ميالًا للحرب؛ ولذلك لم يَسِرْ على خطة سلفه من إصلاح الشئون الداخلية وتنظيم البلاد وإنشاء الطرق العمومية وغيرها من الأعمال والأشغال العمومية، وعدم إضاعة النفوس والأموال في الحروب، وإضافة البلاد لبعضها بدون إصلاح أو تنظيم اكتفاءً بما يؤخذ من الغنائم وقت الحرب، بل أراد أن يخرق عهدة كارلوفتس مع حداثتها ويثير الحرب على النمسا، ولشعور الأهالي والجنود بمضارِّ هذه السياسة على الدولة لما وراءها من تألب الدول عليها ثانيًا، وأخذ بعض بلادها، تذمروا ضدَّ الوزير، واشترك معهم بعض الجنود، وطلبوا من السلطان عزله؛ فأقاله في ٦ رمضان سنة ١١١٤ (الموافق ٢٦ نوفمبر سنة ١٧٠٢)، وتعين محله «رامي محمد باشا»، فسار على أثر كوبريلي حسين باشا، وشرع في إبطال المفاسد ومعاقبة المرتشين ومنع المظالم؛ فأهاج ضده أرباب الغايات، وكثير عدادهم، وأثاروا عليه الانكشارية لميلهم بالطبع إلى الهياج للسلب والنهب وهتك الأعراض؛ فطلبوا عزله من السلطان فامتنع وأرسل لقمعهم فرقة من الجنود؛ فانضمت إلى الثائرين، وعزلوا السلطان مصطفى الثاني في ٢ ربيع الآخر سنة ١١١٥ (الموافق ١٥ أغسطس سنة ١٧٠٣) بعد أن حكم ٨ سنوات و٨ شهور، وبقي معزولًا إلى أن توفي في ٢٢ شعبان من السنة المذكورة (الموافق ٣١ دسمبر سنة ١٧٠٣م) وعمره أربعون سنة تقريبًا، وأقاموا مكانه بعد عزله أخاه.