السلطان الغازي أحمد خان الثالث
ابن السلطان الغازي محمد الرابع، المولود في ٣ رمضان سنة ١٠٨٣ (الموافق ٢٣ دسمبر سنة ١٦٧٣)، وعند تعيينه وزَّع أموالًا طائلة على الانكشارية وسلم لهم في قتل المفتي فيض الله أفندي لمقاومته لهم في أعمالهم، ثم لما قرَّت الأحوال وعادت السكينة اقتصَّ من رءوس الانكشارية؛ فقتل منهم عددًا ليس بقليل، وعزل في ٦ رجب سنة ١١١٥ الصدر الأعظم نشانجي أحمد باشا الذي انتخبه الانكشارية وقت ثورتهم، وعيَّن في هذه الوظيفة المهمة زوج أخته داماد حسن باشا، لكن لم تحمه مصاهرته للسلطان ولا ما أتاه من الأعمال النافعة — كتجديد الترسانة وإنشاء كثير من المدارس — من أن يكون هدفًا لدسائس المفسدين أرباب الغايات الذين لا يروق في أعينهم وجود أعنَّة الأمور في قبضة رجل حازم يحول بينهم وبين ما يشتهون.
ولو فطنت الدولة ووزراؤها إلى ما انطوت عليه هذه السياسة للزمها مساعدة السويد على الروسيا حتى يكونا مع بولونيا حاجزًا ضدَّ أطماعها، لكنها لم تفقه لهذا السرِّ السياسي فقلبت لشارل الثاني عشر ظهر المِجَنِّ، حتى لما التجأ بعد واقعة بولتاوا إلى مدينة «بندر» وأخذ في استمالة الدولة لمحاربة الروسيا، ولكن لم ينجح في مسعاه لمعارضة الوزير نعمان باشا كوبريلي للحرب.
وتولى بعده يوسف باشا، وكان محبًّا للسلم، فأمضى مع الروسيا معاهدة جديدة تقضي بعدم المحاربة بينهما مدَّة ٢٥ سنة، لكن لم تمضِ على هذه المعاهدة بضعة أشهر حتى قامت الحرب ثانية بين الدولتين بسبب عدم قيام بطرس الأكبر بأحد شروط معاهدة فلكزن القاضي بتخريب فرضة تجانرك الواقعة على بحر آزاق، فتداخلت إنكلترا وهولاندا في منع الحرب لإضرارها بتجارتهما، وبعد مخابرات طويلة أُمْضِيَتْ بينهما معاهدة جديدة سميت بمعاهدة أدرنة في ٢٤ جمادى الأولى سنة ١١٢٥ (الموافق ١٨ يونيو سنة ١٧١٣) تنازلت الروسيا بمقتضاها عما لها من الأراضي على البحر الأسود حتى لم يبقَ لها عليه موانئ أو ثغور، وفي مقابلة ذلك أبطل ما كانت تدفعه سنويًّا إلى أمراء القرم بصفة جزية كي لا يتعدَّوا على قوافلها التجارية، وعند ذلك يئس شارل السويدي من نوال غرضه؛ وهو مساعدة الدولة العلية على الروسيا، فبارح بلاد الدولة في أوَّل أكتوبر سنة ١٧١٣ بعد أن أقام فيها نحو سنتين.
ثم تولى منصب الصدارة علي باشا داماد بعد يوسف باشا، وكان ميالًا للحرب، غيورًا على صالح الدولة، ميالًا لاسترجاع ما ضاع من أملاكها، خصوصًا بلاد مورة؛ ولذلك أعلن الحرب على جمهورية البندقية، وفي قليل من الزمن استردَّ البحيث جزيرة بأجمعها والمدن التي كانت باقية للبنادقة بجزيرة كريد، حتى لم يبقَ لهم ببلاد اليونان إلا جزيرة كورفو، فاستعانت البندقية بشارل الثالث إمبراطور النمسا أحد الماضين على معاهدة كارلوفتس، ولكون الحرب كانت قد انقَضَتْ ووضعت أوزارها بين النمسا وفرنسا، وتم الصلح بينهما بمعاهدتيْ أوترك ورستاه أسرع الإمبراطور لمدِّ يَدِ المساعدة إلى البنادقة بأن أرسل إلى السلطان بلاغًا يطلب منه فيه إرجاع كل ما أخذه من البنادقة، وكان أُعْطِيَ لهم بمقتضى معاهدة كارلوفتس، وإلا فيكون امتناعه بمثابة إعلان للحرب، فلم تقبل الدولة هذا الطلب، وفضلت الحرب في هذا الوقت الغير المناسب بعدم تبصر وزيرها، فإنه كان من الواجب عليه عدم عمل ما يسبب هذه الحروب مع عدم اشتغال النمسا بمحاربة فرنسا وإمكانها توجيه كل قواها وأمهر قوَّادها إلى ساحة القتال، خصوصًا القائد الذائع الصيت البرنس «أوجين دي سافوا» الذي سبق ذكره أكثر من مرة، فكان من المحقق تقريبًا فوزه على العثمانيين؛ لتضلعه من فنون الحرب التي لا تقوى عليها شجاعة العثمانيين وما اتصفوا به من الثبات.
(١) معاهدة بسار وفتس
ومما يؤيِّد ذلك أن البرنس أوجين انتصر عليهم في موقعة بترواردين في يوم ٥ أغسطس سنة ١٧١٦، وفيها قتل الصدر الأعظم علي باشا داماد لاقتحامه مواقع الخطر حتى لا يعيش بعد الانهزام، وبعد ذلك فتح النمساويون مدينة «تمسوار» بعد أن حاصروها أربعة وأربعين يومًا، ووضعوا الحصار أمام مدينة بلغراد، ودخلوها في ١٩ أغسطس سنة ١٧١٧ بعد أن تغلبوا على الصدر الجديد خليل باشا الذي أتى لمساعدة المدينة، ثم ابتدأت المخابرات للصلح، فتمَّ بينهما في ٢٢ شعبان سنة ١١٣٠ (الموافق ٢١ يوليو سنة ١٧١٨) على أن تأخذ النمسا ولاية تمسوار ومدينة بلغراد مع جزء عظيم من بلاد الصرب وآخر من بلاد الفلاخ، وأن تبقى جمهورية البندقية محتلة ثغور شاطئ دلماسيا، أما بلاد مورة فترجع إلى الدولة، وسميت هذه المعاهدة معاهدة «بسار وفتس».
وعقب ذلك طلبت الروسيا من الدولة تحوير المعاهدة السابقة بكيفية تُبيح لتجارها المرور من أراضي الدولة وبيع سلعهم فيها، ولحجاجها التوجه لبيت المقدس وغيره من الأماكن والأديرة المقدَّسة عندهم بدون دفع خراج مدة إقامتهم أو رسوم على جوزات المرور، فقبلت الدولة، وأضافت إلى هذه المعاهدة الجديدة المؤرخة ٩ نوفمبر سنة ١٧٢٠ شرطًا من الأهمية السياسية بمكان عظيم؛ وهو تعهد كل من الروسيا والباب العالي بمنع زيادة نفوذ الملك المنتخب ببولونيا على نفوذ الأشراف، وعدم تمكينه من جعل منصبه وراثيًّا في عائلته، ومنع حصول هذين الأمرين بكل الوسائط الممكنة بما فيها الحرب.
تقسيم مملكة العجم بين العثمانيين والروس وعزل السلطان الغازي أحمد الثالث
هذا؛ ولما تولَّى من يدعى داماد إبراهيم باشا منصب الصدارة سنة ١١٣٠ﻫ أراد أن يستعيض عما فقدته الدولة من ولايات بفتح بلاد جديدة في جهة آسيا. ولقد أتاح له الحظ حصول انقلابات ببلاد العجم بسبب تنازل الشاه حسين عن الملك جبرًا إلى مير محمد — أمير أفغانستان — فأسرع الصدر إبراهيم باشا باحتلال أرمينيا وبلاد الكرج، لكن كان سبقه بطرس الأكبر واجتاز جبال القوقاز التي كانت تحد بلاده من جهة الجنوب واحتل إقليم طاغستان مع كافة سواحل بحر الخزر الغربية، فكادت الحرب تقوم بين الدولة والروس، ولعدم إمكان الروس مقاومة الجيوش العثمانية وتحقق بطرس الأكبر من عدم اقتداره على محاربتها طلب من سفير فرنسا بالآستانة المسيو «دوبو» أن يتوسَّط بينهما، فقبل هذه المأمورية ووفق بين الطرفين بأن يمتلك كل منهما ما احتله من البلاد، وقبلت الدولتان بذلك، وأمضيتا بهذه الشروط معاهدة بتاريخ ٢ شوَّال سنة ١١٣٦ (الموافق ٢٤ يونيو سنة ١٧٢٤).
أما الفرس فلم يقبلوا هذا التقسيم المزري بشرفهم والقاضي بضياع جزء ليس بقليل من بلادهم، بل قاموا كرجل واحد لمحاربة الأجانب وإخراجهم من ديارهم، لكن لم تكن شجاعتهم كافية لصدِّ هجمات العثمانيين الذين فتحوا في سنة ١٧٢٥ عدَّة مدن وقلاع أهمها مدائن همذان وأريوان وتبريز، وساعد ذلك تسلط الفوضى في داخلية إيران وتنازع كل من الشاه أشرف الذي قتل مير محمد — أمير أفغانستان — والشاة طهماسب — ملك ساسان — وانتهت هذه الحرب بالصلح مع الشاه أشرف في ٢٥ صفر سنة ١١٤٠ (الموافق ١٣ أكتوبر سنة ١٧٢٧). إنما لما مات الشاه أشرف وانفرد طهماسب بالملك، طلب من الدولة العلية أن تردَّ إليه كل ما أخذته من بلاد أجداده فلم تجبه الدولة؛ ولذا أغار على بلادها، ولعدم ميل السلطان إلى الحرب ورغبته في الصلح ثار الانكشارية وأهاجوا الأهالي فأطاعوهم طلبًا للسلب والنهب في ١٥ ربيع الأوَّل ١١٤٣ (الموافق ٢٨ سبتمبر سنة ١٧٣٠م)، وطلب زعيم هذه الثورة المدعو «بترونا خليل» من السلطان قتل الصدر الأعظم والمفتي وقبودان باشا؛ أي أميرال الأساطيل البحرية؛ بحجة أنهم مائلون لمسالمة العجم، فامتنع السلطان عن إجابة طلبهم، ولما رأى منهم التصميم على قتلهم طوعًا أو كرهًا، فخوفًا من أن يتعدَّى أذاهم إلى شخصه سلَّم لهم بقتل الوزير والأميرال دون المفتي فقبلوا وألقوا جثثهم إلى البحر، لكن لم يمنعهم انصياع السلطان لطلباتهم من التطاول إليه، بل جرَّأهم تساهله معهم على العصيان عليه جهارًا، فأعلنوا بإسقاطه في مساء اليوم المذكور عن منصة الأحكام، ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأوَّل خليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين، فأذعن السلطان أحمد الثالث وتنازل عن الملك بدون معارضة، وكانت مدَّة حكمه ٢٧ سنة و١١ شهرًا.
ومما يذكر في التأريخ لهذا الملك إدخال المطبعة في بلاده وتأسيس دار طباعة في الآستانة العلية بعد إقرار المفتي وإصداره الفتوى بذلك مشترطًا عدم طبع القرآن الشريف خوفًا من التحريف، واسترجاع إقليم مورة وقلعة آزاق، وفتح عدَّة ولايات من مملكة العجم، وبقي معزولًا إلى أن توفي في سنة ١١٤٩.