السلطان الغازي محمود خان الأول وظهور نادر شاه
هو ابن السلطان مصطفى الثاني، ولد في ٤ محرم سنة ١١٠٨ (الموافق ٣ أغسطس سنة ١٦٩٦). ولما تولى لم يكن له إلا الاسم فقط، وكان النفوذ لبطرونا خليل، يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعًا للأهواء والأغراض، حتى عيل صبر السلطان من استبداده، وتجمهر حوله رؤساء الانكشارية لتعدِّي هذا الزعيم على حقوقهم، واتفقوا على الغدر به تخلصًا من شرِّه فقتلوه، ولم يَقْوَ مُحازِبُوه على الأخذ بثأره، بل أطفئت ثورتهم في دمائهم، وبذلك عادت السكينة للمدينة وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم.
معاهدة بلغراد
وفي غضون ذلك قامت الحرب بين الدولة والروسيا بسبب مملكة بولونيا؛ وذلك أن كلًّا من الروسيا والنمسا والبروسيا اتفقت في سنة ١٧٢٢ بمقتضى اتفاق سرِّي على أن لا يجوز تعيين ملك وطني على بولونيا خوفًا من اتحاده مع الأهالي؛ الأمر الذي يكون من ورائه استقامة أحوال هذه المملكة الداخلية مع أن قصد الروسيا وجود الاضطرابات بها دائمًا حتى تضعف كلية، فتستولي عليها بأجمعها أو تقسمها مع مجاوريها تبعًا لسياسة بطرس الأكبر القاضية بالسعي في تلاشي دولتي السويد وبولونيا فالدولة العلية، فلما توفي أوغست الثاني — ملك بولونيا — انتخب الأهالي في سنة ١٧٣٣ ستانسلاس لكزنيسكي ملكًا عليهم بسعي فرنسا التي كان من صالح سياستها بقاء بولونيا في العالم السياسي عزيزة الجانب يحكمها ملك من أهلها.
فأعلنت الروسيا والنمسا الحرب على بولونيا، ونادوا بآغوست الثالث ابن آغوست الثاني ملكًا عليها ولو لم ينتخبه الأهالي، ومن جهة أخرى أشهرت فرنسا الحرب على النمسا دفاعًا عما لبولونيا من الحق الصريح في انتخاب من تريد، وسعت لدى الباب العالي بواسطة المسيو دي بونفال، الذي خدم الدولة بعد أن أسلم واشتهر فيها باسم أحمد باشا قائد الطوبجية، لاستمالته للدفاع عن استقلال بولونيا، الحاجز الحصين بينها وبين الروسيا، موضحة لها سياسة هذه الدولة الطامحة أنظارها لامتلاك القسطنطينية كما أوصى لها بذلك بطرس الأكبر، فلم يصغ وزراء الدولة لندائها لجهل في السياسة أو لأسباب أخرى، ولذلك تغلبت الروسيا على ستانسلاس واحتلت جنودها مملكة بولونيا بأسرها ووزراء الدولة لاهون عن نتائج هذه السياسة الوخيمة التي ربما كانت السبب في وصول الدولة إلى الدرجة التي هي عليها الآن.
ولما أحست النمسا أن فرنسا تسعى وراء التحالف مع الدولة، فخشيت من حصول هذا الاتفاق الذي يكون نتيجته عدم نجاح مسعاها مع الروسيا في بولونيا، أسرعت في إرضاء فرنسا، فأبرمت معها معاهدة ويانة في سنة ١٧٣٥، وأخذت في التأهب والاستعداد للاشتراك مع الروسيا في محاربة الدولة، وأوعزت إلى الروسيا بافتتاح القتال، فاتخذت هذه الأخيرة مرور بعض قوزاق القرم من أراضيها في مارس سنة ١٧٣٦ متجهين إلى بلاد الكرج لمساعدة الدولة ضدَّ العجم حجةً لإعلان الحرب، وأغارت بكل قواها على بلاد القرم، واحتلت ميناء آزاق وغيرها من الثغور البحرية، وهو ما حدا بالدولة إلى إبرام الصلح مع نادر شاه بالكيفية التي سبق شرحها لتتفرَّغ لصدِّ هجمات الروس.
وبعد ذلك بذل المسيو «فلنوف» — سفير فرنسا — جهده في إقناع الباب العالي بضرورة الاتحاد مع السويد لمحاربة الروسيا لو تعدَّت على أحدهما خوفًا من أن يلحق بهما تباعًا ما أودى ببولونيا وجعلها خاضعة فعلًا لأوامر الروسيا، فاقتنعت الدولة وأبرمت مع السويد محالفة هجوم ودفاع ضدَّ الروسيا في سنة ١٧٤٠. وفي هذه السنة تحصَّل سفير فرنسا على تجديد الامتيازات القنصلية وكافة المزايا الممنوحة للتجار الفرنساويين، وأمضى الطرفان هذه المعاهدة الجديدة في ١٧ سبتمبر سنة ١٧٤٠، وهي عبارة عن معاهدة سنة ١٦٧٣ مع بعض تسهيلات جديدة لفرنسا وتجارتها. وأرسل السلطان سفيرًا من طرفه اسمه سعيد ليقدِّم صورة المعاهدة إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر مع كثير من الهدايا الثمينة؛ فقابله الملك بالاحتفاء والإكرام اللائق بمقام مرسله السامي، وعند عودته شيَّعه بالتبجيل والإجلال، وأرسل معه مركبين حربيين وجملة من المدفعية الفرنساويين هدية منه للخليفة الأعظم ليكونوا معلمين في الجيوش العثمانية، فيمرِّنوا الجنود المظفرة على النظامات الجديدة التي أدخلها «لوفوا» الشهير في الجيوش الفرنساوية.
لكن قضت التقادير الإلهية أن لا تُصغي إلى هذه النصائح حبًّا في السلم وعدم إراقة دماء العباد والاشتغال بالإصلاحات الداخلية، وكتبت إلى الدول ذات الشأن تدعوهم للتصالح، وهذه سياسة صادرة عن إحساسات شريفة إلا أنها تعدُّ من الغلطات المهمة التي عادت على الدولة بوخيم العواقب؛ لأنها أضاعت فرصة لو انتهزتها لفازت بالقدح المعلَّى واسترجعت ما فصل عنها من الفتوحات بدون كثير عناء.
وهناك غلطة أخرى ارتكبها رجال الدولة؛ وهي نزع السلطة في إقليمي الفلاخ والبغدان من أشراف البلاد خوفًا من تمرُّدهم وطلبهم الاستقلال وتعيين بعض أغنياء الروم من تجار الآستانة قرالات ممتازين فيهما، في مقابل جعل سنوي يدفع للخزانة السلطانية، وكانت تعطى لمن يدفع خراجًا أكثر من غيره، وظاهر أن من يقدم على التعهد بمثل هذه المبالغ الطائلة عازم ولا شك على الحصول على ما يدفعه أضعافًا مضاعفة من دماء الأهالي، فاستبدَّ هؤلاء المعينون بالسكان وساموهم الذل والخسف، وفتكوا بالأشراف الأصليين، وقتلوا كل من خالفهم منهم، وباعوا ألقاب الشرف جهارًا حتى انقرضت أغلب العائلات الأثيلة في المجد، وحلت محلها عائلات جديدة أغلبها من تجار الأروام الذين اشتروا الألقاب بدراهم معدودة، وكانت نتيجة هذه السياسة أن سئم الأهالي هذه السلطة ومالوا بكلياتهم إلى الروسيا، ووجهوا أنظارهم لها معتقدين أنها ستكون منقذتهم من هذه المظالم المستمرة، ولو أنصفت الدولة لجعلتها ولايتين بدون امتيازات تتناوبها الولاة فما كانت تطمح إلى الاستقلال الإداري فالسياسي.
وفي يوم الجمعة ٢٧ صفر سنة ١١٦٨ (الموافق ١٣ دسمبر سنة ١٧٥٤) توفي السلطان محمود الأوَّل بالغًا من العمر ستين سنة مأسوفًا عليه من جميع العثمانيين؛ لاتصافه بالعدل والحلم، وميله للمساواة بين جميع رعاياه بدون نظر لفئة دون أخرى، وكانت مدَّة حكمه ٢٥ سنة، وفي أيامه السعيدة اتسع نطاق الدولة بآسيا وأوروبا، ومحت معاهدة بلغراد ما لحق بالدولة من العار بسبب معاهدة كارلوفتس، ومن آثاره الحسان تأسيس أربع كتبخانات ألحقها بجوامع آيا صوفيا ومحمد الفاتح والوالدة وغلطه سراي. ومن وزرائه الذين تركوا لهم في التاريخ اسمًا طوبال عثمان باشا وحكيم زاده علي باشا.