السلطان الغازي مصطفى خان الرابع
وأقيم بعده مصطفى الرابع، ابن السلطان عبد الحميد الأوَّل المولود سنة ١١٩٣ﻫ (الموافقة سنة ١٧٧٩م)، وكلف المفتي بتبليغ السلطان سليم خبر عزله، فذهب إليه وبلغه ذلك مُظْهِرًا أسفه من هذه الحادثة الجبرية، فقبل السلطان وذهب إلى سرايه الخصوصية، وتفرَّق الجنود النظامية شذر مذر، وأُهمل هذا المشروع الجليل لعدم موافقته لأغراض الانكشارية ومن حازبهم.
ولم يكن السلطان مصطفى إلا كآلة يديرها مبغضو النظام الجديد كيف شاءوا تبعًا لأهوائهم، فثبت الوزراء الذين لم يُقتلوا في الثورة في وظائفهم، واعتمد تعيينَ قباقجي أوغلي حاكمًا لجميع قلاع البوسفور، فأعاد الانكشارية قُدُورَهم إلى ثكناتهم دلالة على ارتياحهم مما حصل وخلودهم إلى الراحة والسكينة.
ولا يخفى ما في هذه المعاهدة من الإضرار بحقوق الدولة العلية، والتخلي عنها وتركها بمفردها أمام الروسيا، رغمًا عن وعود فرنسا السابقة التي كانت سببًا في إثارة هذه الحرب، وناهيك عن ما جاء في المعاهدة السرِّية من تقسيم الأملاك المحروسة، فيظهر للمطالع أن كل وعود الأجانب للشرقيين وعود عرقوبية وسراب كاذب يحسبه الظمآن ماءً، وإن إظهارهم لنا الولاء والصداقة لم يكن إلا لنوال أمانيهم والفوز بغاياتهم، فالعاقل من لم يتمسَّك بذيل وعودهم ولا يخالج فكره أن دولة أوروبية تودُّ خيرًا أو تبغي صلاحًا لدولة أو أمة شرقية مطلقًا؛ والحوادث التاريخية التي ذكرت وستذكر في هذا الكتاب أكبر شاهد، فلعلها تكون عبرةً لمن تذكَّر.
هذا؛ ثم أرسل نابليون في ٣ جمادى الأولى (الموافق ٩ يوليو) الجنرال «جلليمينو» أحد أركان حربه إلى الجيوش العثمانية والروسية المتحاربة لتبليغهم المعاهدة المذكورة، وعرض توسُّط الدولة الفرنساوية عليهم، فقبل الفريقان بذلك. وفي ١٩ جمادى الثانية (الموافق ٢٤ أغسطس) أُمضيت بينهما بحضور المندوب الفرنساوي هدنة ابتدائية، ومع ذلك فلم تُخْلِ الروسيا ولايتي الأفلاق والبغدان، وهو أوَّل إخلال بشروط معاهدة تلسيت؛ ولذا لم يمكن الفريقين أن يتفقا على شروط الصلح النهائي، لكن لم يستأنف القتال إلا بعد سنتين لاشتغال كل فريق منهما بما هو أهمُّ من ذلك.
ولنرجع إلى ذكر ما حصل في الآستانة بعد نجاح ثورة قباقجي أوغلي فنقول: إنه لم يمضِ قليل حتى وقع الخلاف بين رؤساء الثورة، فاتحد أولًا قباقجي أوغلي مع المفتي على عزل القائم مقام مصطفى باشا، فعُزِل وأُبعِد إلى خارج البلاد، وأقيم مكانه من يدعى طاهر باشا، ثم عزل لرغبته المحافظة على حقوق وظيفته، وسافر إلى روستجق، والتجأ إلى حاكمها مصطفى باشا البيرقدار، وكان هذا الأخير من محازبي السلطان سليم ويودُّ إرجاعه لمنصة الأحكام، فكاشف بذلك جلبي مصطفى باشا — الصدر الأعظم — وباقي الوزراء، وأقنعهم بوجوب مجازاة المفتي وقباقجي مصطفى على تهييج الجنود الغير المنتظمة وعزل السلطان والاستئثار بالسلطة، فوافقه على هذا الأمر كل من كاشفهم به، وأصدر الصدر حكمًا على قباقجي مصطفى قاضيًا بإعدامه، ووكل على تنفيذه أحد رجال المؤامرة واسمه حاجي علي، وهو تعهَّد بالقبض عليه عنوة، وسار إلى الآستانة في مائة فارس بينما كان البيرقدار قاصدها في ستة عشر ألف جندي عن طريق أدرنة، ولما وصل حاجي إلى ضواحي الآستانة علم أن قباقجي مصطفى مقيم في قصر له خارج المدينة فهاجمه وقتله، ثم أبرز لجنوده حكم الصدر الأعظم، وأخبرهم أنه عُيِّن قائدًا لهم؛ فلم يقبلوا بذلك، بل أحاطوا به وبمن معه من الفرسان وكادوا يأسرونه لولا ما أظهره من الشجاعة التي تمكَّن بها من التخلص واللحاق بالبيرقدار، وكان قد وصل هو والصدر الأعظم إلى الآستانة وعسكر خارجها.
ولما علم السلطان بهذه الوقائع خَشِيَ من تعدِّي الثورة عليه ووصول ضررها إليه، وأمر بعزل المفتي وصرف جنود قباقجي مصطفى الغير المنتظمة التي عضدته على عزل السلطان سليم، فأظهر البيرقدار الاكتفاء بما حصل ولم يكاشف أحدًا بعزمه على إعادة السلطان سليم إلى عرش الخلافة العظمى، وأشاع أنه عازم على العودة إلى روستجق، لكن في صبيحة ٤ جمادى الأولى سنة ١٢٢٣ (الموافق ٢٨ يونيو سنة ١٨٠٨) أُلْقِيَ القبض على شلبي مصطفى باشا — الصدر الأعظم — وسار بجيوشه إلى السراي السلطانية، وطلب إرجاع السلطان سليم الثالث إلى الملك، فأمر السلطان مصطفى بقتله وإلقاء جثته إلى الثائرين كي يكفُّوا عن الثورة لما يعلموا أن الذي يريدون إرجاعه قد دخل في خبر كان، لكن أتى الأمر على عكس ما كان يؤمِّل، فقد زاد الثائرون هياجًا ونادوا على الفور بعزل السلطان مصطفى الرابع وحجزه في نفس السراي التي كان محجوزًا بها السلطان سليم، فعزل بعد أن حكم ثلاثة عشر شهرًا، وقتل في سرايه بعد ذلك بقليل.