السلطان مراد خان الثاني الغازي
ولد السلطان مراد الثاني سنة ٨٠٦ﻫ (الموافقة سنة ١٤٠٣م)، وتولى سنة ٨٢٤ﻫ (الموافقة سنة ١٤٢١م) بعد موت أبيه وعمره ثماني عشرة سنة، وافتتح أعماله بإبرام الصلح مع أمير القرمان والاتفاق مع ملك المجر على هدنة خمس سنوات؛ حتى يتفرغ لإرجاع ما شق عصا الطاعة من ولايات آسيا، لكن حدث ما شغله عن هذا العمل، وذلك أن إيمانويل طلب منه أن يتعهد له بعدم محاربته مطلقًا، وأن يسلمه اثنين من إخوته تأمينًا على نفاذ هذا التعهد، وتَهَدَّدَه بإطلاق سراح عمه مصطفى بن بايزيد. ولما لم يجبه مراد الثاني لطلبه أخرج مصطفى من منفاه وأعطاه عشرة مراكب حربية تحت إمرة «دمتريوس لاسكاريس»، فأتى بها وحاصر مدينة جاليبولي فسلمت إلا القلعة، فتركها مصطفى بعد أن أقام حولها من الجند ما يكفي لمنع وصول المدد إليها، وسار ببقية جيشه قاصدًا أدرنة، فخرج الوزير بايزيد باشا لمحاربته فتقدَّم مصطفى وخطب في العساكر بإطاعته لأنه أحق بالملك من ابن أخيه؛ فأطاعته الجيوش وقتلت بايزيد باشا قائدهم، فسار مصطفى بعد ذلك لمقابلة ابن أخيه مراد الثاني الذي كان متحصنًا مع من معه من الجنود خلف نهر صغير. وهناك خانه بعض قواده، وتركه أغلب جنوده حتى التزم الهروب إلى مدينة جاليبولي؛ فسلمه بعض أتباعه إلى ابن أخيه مراد الثاني فأمر بشنقه.
وبعد ذلك أراد السلطان مراد الانتقام من ملك الروم الذي أطلق سراح عمه مصطفى ليشغله عن فتح القسطنطينية؛ فسار إليه بخيله ورجله وحاصر مدينته ثم هاجمها في يوم ٣ رمضان سنة ٨٢٥ (الموافق٢١ أغسطس سنة ١٤٢٢)، وبعد قتال عنيف رجع العثمانيون بدون أن يتمكنوا من فتحها، وبعدها رفع عنها الحصار لعصيان أخٍ له يقال له مصطفى، شق عصاه واستعان على أخيه السلطان مراد ببعض أمراء آسيا الصغرى، لكن لم تلبث هذه الفتنة أن أخمدت بالقبض على مصطفى وقتله مع كثير من محازبيه، فوقع الرعب في قلوب من ساعده من الأمراء، وتنازل أمير قسطموني عن نصف أملاكه للسلطان، وزوَّجه ابنته سنة ١٤٢٣ إظهارًا لإخلاصه وولائه. وفي السنة التالية عصى قره جنيد واستولى على إمارة آيدين، لكن قهره حمزة بك أخو الوزير بايزيد باشا وقبض عليه وأمر بخنقه، فتخلصت الدولة بذلك من هذا الخائن الذي خان عهدها أكثر من مرة.
وأعاد مراد الثاني إلى أملاك الدولة العلية ولايات آيدين وصاروخان ومنتشا وغيرها من الإمارات التي أعاد تيمورلنك استقلالها إليها، وكذلك استردَّ بلاد القرمان بعد أن قتل أميرها محمد بك وعين ابنه إبراهيم واليًا عليها مع بعض امتيازات بشرط أن يتنازل عن إقليم الحميد، وفي سنة ١٤٢٨ توفي أمير كرميان عن غير عقب، وأوصى بما كان باقيًا له من بلاده إلى السلطان مراد، وبذلك استردَّ السلطان مراد الثاني جميع ما فصله تيمورلنك عن الدولة العثمانية من البلاد، وصار في إمكانه التفرغ لإعادة فتح ما استقل من البلاد بأوروبا بعد موت بايزيد الأول، فابتدأ بأن ألزم ملك المجر — بعد محاربة شديدة كانت نتيجتها افتتاح مدينة «كولمباز» الواقعة على شاطئ نهر الدانوب الأيمن — بالتوقيع على معاهدة تقضي عليه بالتخلي عما يكون له من البلاد على شاطئ نهر الدانوب الأيمن بحيث يكون هذا النهر فاصلًا بين أملاك الدولة العلية والمجر.
وفي سنة ١٤٣٣ اعترف «فلاد» أمير الفلاخ الملقب «دره قول»؛ أي الشيطان، بسيادة الباب العالي عليه تخلصًا من الحرب التي كان لا يشك في وخامة عاقبتها عليه، لكن لم يكن هذا الخضوع إلا ظاهريًّا؛ فإنه ما لبث أن ثار هو وأمير الصرب بناءً على تحريض ملك المجر لهما، فحاربهما السلطان وقهرهما، ثم سار إلى بلاد المجر وخرَّب كثيرًا من بلدانها، وعاد منها في سنة ١٤٣٨ بسبعين ألف أسير على ما يقال.
وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزنًا شديدًا وسئم الحياة؛ فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر هو إلى ولاية آيدين للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها.
(١) تنازل السلطان عن الملك وعودته إليه
لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتمادًا على تغرير الكردينال «سيزاريني» — مندوب البابا — وتفهيمه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تعدُّ حنثًا ولا نقضًا.
ولما ورد عليه خبر هذه الخيانة ونكث العهد قام بجيشه لمحاربة المجر فوجدهم محاصرين لمدينة وارنة الواقعة على البحر الأسود، وبعد قليل اشتبك القتال بين الجيشين فقتل ملك المجر المدعو «لادسلاس»، وتفرق الجند بعد ذلك، ولم تفد شجاعة هونياد شيئًا. وفي اليوم التالي هاجم العثمانيون معسكر المجر واحتلوه بعد قتال شديد قتل فيه الكردينال «سيزاريني»، سبب هذه الحرب، وتم للمسلمين هذا الفوز المبين في ٢٨ رجب سنة ٨٤٨ (الموافق ١٢ نوفمبر سنة ١٤٤٤).
فتنة إسكندر بك
وبعد تمام النصر واستخلاص مدينة وارنة رجع السلطان إلى عزلته، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضًا؛ لأن عساكر الانكشارية ازدروا بملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة ١٤٤٥م وأخمد فتنتهم. وخوفًا من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة أراد أن يشغلهم بالحرب فأغار على بلاد اليونان، وساعده على ذلك تقسيم إيمانويل — ملك الروم — بلاده بين أولاده بأن أعطى مدينة القسطنطينية وضواحيها إلى ابنه حنا، وبلاد مورة وثيبة وجزءًا من تساليا لابنه قسطنطين، وهو آخر ملوك الروم. ولما علم قسطنطين بعزم السلطان مراد على فتح بلاده حصن برزخ كورنته وبنى فيه قلاعًا جعلت اجتيازه غير ممكن، لكن لم يعق هذا السور المنيع الجيوش العثمانية، بل سلط عليه السلطان مدافعه (ذكر المؤرخون أن هذا أوَّل استعمال للمدافع في جيوش الدولة العلية) حتى أحدث فيها ثلمًا دخلت منه الجيوش إلى مدينة كورنته ففتحها.
ولم يتمَّ فتح بلاد مورة لازدياد عصيان إسكندر بك وإثارته الفتن في بلاد ألبانيا، واكتفى بضرب الجزية على أهلها هذه المرة، ولما هدأ باله من جهة إسكندر بك عاود الكرة عليها، وإسكندر بك هذا هو أحد أولاد جورج كستريو — أمير ألبانيا الشمالية — الذين سبق ذكر أخذ السلطان لهم رهينة وضم بلاد أبيهم إليه بعد موته. وكان قد أسلم أو بالحري تظاهر بالإسلام لنوال ما يكنه صدره، وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قربه إليه. وفي سنة ١٤٤٣ حينما كان السلطان مشتغلًا بمحاربة هونياد وملك الصرب ألزم كاتب أول الملك على أن يمضي له أمرًا بتوجيه إدارة مدينة «آق حصار» من أعمال بلاد ألبانيا إليه، وأخذ هذا الأمر بعد أن قتل ممضيه خوفًا من إفشاء سرِّه، وسار إلى هذا البلد ودخله، وفي الحال استدعى إليه رؤساء قبائل الأرنئود وأظهر لهم مشروعه، وهو استخلاص ألبانيا من يد الأتراك، فوافقوه على ما وسوسه لهم وأمدوه بالمال والرجال، فسار معهم وطرد العثمانيين من أغلب بلاد أجداده، وانتصر على القائد علي باشا سنة ١٤٤٣. وساعده على امتداد نفوذه تنازل السلطان مراد واشتغاله بمحاربة المجر، لكن لما تمَّ النصر للسلطان في واقعة وارنة واستتبَّ الأمن في بلاد اليونان أمكنه جمع جيش جرار لقمع هذا الخائن، فقصده بمائة ألف مقاتل واستردَّ منه مدينتين من أهم مدن ألبانيا سنة ١٤٤٧، ثم تركه حين بلغه خبر إغارة هونياد المجري على بلاد الصرب ليعيد لنفسه ما فقد من الشرف في واقعة وارنة، وكان معه في هذه الدفعة أربعة وعشرون ألف رجل منهم عشرة آلاف من الفلاخ، فاصطدم الجيش العثماني بقيادة السلطان نفسه مع جيش هونياد في وادي «قوص أوه»؛ فانتصر عليه السلطان نصرًا مبينًا في ١٨ شعبان سنة ٨٥٢ (الموافق ١٧ أكتوبر سنة ١٤٤٨)، كما انتصر السلطان مراد الأول على لازار — ملك الصرب — سنة ١٣٨٩ في هذا الموقع، ثم عاد السلطان مراد الثاني لمحاربة إسكندر بك بألبانيا وحاصر مدينة «آق حصار» مدة، ولما لم يجد سبيلًا إلى فتحها لضعف جيوشه بسبب هذه الحروب المتواصلة أراد أن يتفق مع إسكندر بك على الصلح بأن يقلده السلطان إمارة بلاد ألبانيا في مقابلة جزية سنوية، ولما لم يقبل إسكندر بك هذا الاقتراح رفع السلطان الحصار عن المدينة وعاد إلى أدرنة عاصمة ممالكه ليجهز جيوشًا جديدة كافية لقمع هذا الثائر، لكنه توفي في يوم ٥ محرم سنة ٨٥٥ (الموافق ٩ فبراير سنة ١٤٥١)، وتولى بعده ابنه السلطان أبو الفتح محمد الثاني، ونقلت جثته إلى مدينة بورصة وسنه ٤٩ سنة ومدة حكمه ٣٠ سنة.