السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح وفتح القسطنطينية
وبعد أن أمر بنقل جثة والده إلى مدينة بورصة لدفنها بها أمر بقتل أخٍ له رضيع اسمه أحمد، وبإرجاع الأميرة مارا الصربية إلى والدها. ثم أخذ يستعدُّ لتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية؛ حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق. لكنه قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد أن يحصِّن بوغاز البوسفور؛ حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ البوغاز من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد يلدرم ببر آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيرًا يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها، فرفض طلبه وسعى في إيجاد سبب لفتح باب الحرب، ولم يلبث أن وجد هذا السبب بتعدِّي الجنود العثمانية على بعض قرى الروم ودفاع هؤلاء عن أنفسهم وقتل البعض من الفريقين.
وبعدها أخذ السلطان يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برًّا وبحرًا؛ فخطر بباله فكر غريب في بابه، وهو أن ينقل المراكب على البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة لمنعه، وتم هذا الأمر المستغرب بأن مهَّد طريقًا على البر اختُلف في طوله، والمرجَّح أنه فرسخان؛ أي ستة أميال، ورصت فوقه ألواح من الخشب صُبَّتْ عليها كمية من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو السبعين سفينة في ليلة واحدة، حتى إذا أصبح النهار ونظرها المحصورون أيقنوا أن لا مَنَاصَ من نصر العثمانيين عليهم، لكن لم تخمد عزائمهم، بل ازدادوا إقدامًا، وصمموا على الدفاع عن أوطانهم حتى الممات.
وفي يوم ١٥ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٤٥٣) أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعًا يتعهَّد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وأن يعطيه جزيرة مورة؛ فلم يقبل قسطنطين ذلك، بل آثر الموت على تسليم المدينة، فعند ذلك نبَّه السلطان على جيوشه بالاستعداد للهجوم في يوم ٢٠ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣)، ووعد الجيوش بمكافأتهم عند تمام النصر وبإقطاعهم أراضيَ كثيرة.
وفي الليلة السابقة لليوم المحدَّد أشعلت الجنود العثمانية الأنوار أمام خيامها للاحتفال بالنصر المحقق لديهم، وظلوا طول ليلهم يهللون ويكبرون، حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلَّقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فجٍّ، وأعملوا السيف في من عارضهم، ودخلوا كنيسة القديسة صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد عظيم من الأهالي، ويعتقد الروم حتى الآن أن حائط الكنيسة انشقَّ ودخل فيه البطرق والصور المقدَّسة، وفي اعتقادهم أن الحائط تنشق ثانية يوم يخرج الأتراك من القسطنطينية ويخرج البطرق منها ويتم صلاته التي قطعها عند دخول العثمانيين عليه عند الفتح. وقد أرَّخ بعضهم هذا الفتح المبين (بلدة طيبة) سنة ٨٥٧، وسميت المدينة إسلامبول؛ أي تخت الإسلام أو مدينة الإسلام.
أما قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه. وبعد فتحها جعلت عاصمة للدولة ولن تزال كذلك إن شاء الله، ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة، منها سبعة في القرنين الأوَّلين للإسلام، فحاصرها معاوية في خلافة سيدنا عليٍّ سنة ٣٤ﻫ (٦٥٤م)، وحاصرها يزيد بن معاوية سنة ٤٧ﻫ (٦٦٧م) في خلافة سيدنا عليٍّ أيضًا، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة ٥٢ﻫ (٦٧٢م)، وفي سنة ٩٧ﻫ (٧١٥م) حاصرها مسلمة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي، وحوصرت أيضًا في خلافة هشام سنة ١٢١ﻫ (٧٣٩م)، وفي المرَّة السابعة حاصرها أحد قوَّاد الخليفة هارون الرشيد سنة ١٨٢ﻫ (٧٦٨م).
هذا؛ ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب وغيره؛ فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء؛ فَسَادَ الأمن حالًا، ثم زار كنيسة أيا صوفيا وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين. وبعد تمام الفتح على هذه الصورة أعلن في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين، وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين، ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقًا لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسًا لطائفة الأروام، واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام الذي كان يُعمل للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسًا من عساكر الانكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالأروام، وعين معه في ذلك مجلسًا مشكَّلًا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقسوس. وفي مقابلة هذه المنح فرض عليهم دفع الخراج مستثنيًا من ذلك أئمة الدين فقط.
وبعد إتمام هذه الترتيبات وإعادة ما هدم من أسوار المدينة وتحصينها، سافر بجيوشه لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد مورة، لكن لم ينتظر أميراها دمتريوس وتوماس أَخَوَا قسطنطين قدومه، بل أرسلا إليه يخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوكا، فقبل ذلك السلطان وغيَّر وجهته قاصدًا بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري وردَّ عنهم مقدمة الجيوش العثمانية، لكن لم يرغب الصرب في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم؛ حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا رومة والصرب أرثوذكسيين لا يُذعِنون لسلطة البابا، بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرُّضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًّا ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة ١٤٥٤، وفي السنة التالية أعاد السلطان عليها الكرَّة بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومر بجيوشه من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل معارضة، حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب، وحاصرها من جهة البر والنهر.
وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة ١٤٥٥، لكن وإن لم يتمكَّن العثمانيون من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم ربحوا أمرًا عظيمًا، وهو إصابة هونياد بجراح بليغة مات بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يومًا وأراح المسلمين منه، ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم محمود باشا لإتمام فتح بلاد الصرب؛ فأتمَّ فتحها من سنة ١٤٥٨ إلى سنة ١٤٦٠، وبذلك فقدت الصرب استقلالها نهائيًّا بعد أن أعيت الدولة العلية أكثر من مرة.
وفي هذه الأثناء تَمَّ فتح بلاد مورة، ففي سنة ١٤٥٨ فتح السلطان مدينة كورنته وما جاورها من بلاد اليونان، حتى جرد توماس باليولوج أخا قسطنطين من جميع بلاده، ولم يترك إقليم مورة لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية.
وبمجرَّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار توماس وحارب الأتراك وأخاه معًا؛ فاستنجد دمتريوس بالسلطان، فرجع بجيش عرمرم ولم يرجع حتى تَمَّ فتح إقليم مورة سنة ١٤٦٠، وهرب توماس إلى إيطاليا، ونُفِيَ دمتريوس في إحدى جزائر الأرخبيل.
وفي ذلك الوقت فتحت جزائر تاسوس والبروس وغيرها من جزائر بحر الروم.
وبعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مؤقتًا مع إسكندر بك وترك له إقليميْ ألبانيا وإيبيروس، ثم حوَّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه بدون أن يعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة ١٤٦١، وهاجم أوَّلًا ميناء أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جينوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجارًا يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرِّض لأموالهم ولا أرواحهم فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب، ثم أرسل إلى أسفنديار — أمير مدينة سينوب — يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوَّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصر الميناء فسلمها إليه الأمير وأقطعه الملك أراضي واسعة بإقليم بيثينيا مكافأة له على خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها بدون مقاومة شديدة، وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.
ولما عاد إليها جهَّز جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو فلاددره قول؛ أي الشيطان، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدِّي على تجَّار العثمانيين النازلين بها. فلما قرب منها أرسل إليه هذا الأمير وفدًا يعرض على السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا، بشرط أن يصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة ١٣٩٣ بين أمير الفلاخ إذ ذاك والسلطان بايزيد، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه، ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر ومحاربة العثمانيين، فلما علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدَّد من الخشب (خازوق). وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العلية، وعثا فيها الفساد، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان يدعوه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلما مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر هذا الظالم بأن تسمر عمائمهم على رءوسهم بمسامير من حديد.
وبعد ذلك أخذ البابا بيوس الثاني يسعى في تحريض الأمم المسيحية على محاربة المسلمين حربًا دينية، لكن عاجله المنون قبل إتمام مشروعه، إلا أن تحريضاته هاجت إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانية وحصل بينهما عدَّة وقائع أهرق فيها كثير من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالًا. وفي سنة ١٤٦٧ توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العلية خمسًا وعشرين سنة بدون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خصوم الدولة وألدِّ أعدائها.
ثم بعد هدنة استمرَّت سنة واحدة عادت الحروب بين العثمانيين والبنادقة، وكانت نتيجتها أن افتتح العثمانيون جزيرة نجر بونت، وتسمى في كتب الترك أجريبوس؛ مركز مستعمرات البنادقة في جزائر الروم، وتم فتحها في سنة ١٤٧٠، وبعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا حوَّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى، ووجد سبيلًا سهلًا للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحاق، ولكون أمه أم ولد نازعه الحكم إخوته من أبيه الذين من الزوجات، فتداخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحاق وهزمه، وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة إسكندر بك كما مرَّ، فانتهز الأمير إسحاق غيابه وعاود الكرَّة على قونية لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد فرجع إليه السلطان وقهره، وليستريح باله من هذه الجهة أيضًا ضم إمارة القرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.
وبعد ذلك بقليل زحف «أوزون حسن» أحد خلفاء تيمورلنك الذي كان سلطانه ممتدًّا على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهريْ آموداريا والفرات وفتح مدينة توقات عنوة ونهب أهلها، فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرَّار، وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناطول ومصطفى باشا حاكم القرمان يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوِّ؛ فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش أوزون حسن على حدود إقليم الحميد وهزماه شرَّ هزيمة (١٤٧١).
وبعدها بقليل سار إليه السلطان بنفسه ومعه مائة ألف جندي، وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة أذربيجان التي لا تبعد كثيرًا عن نهر الفرات، ولم يَعُدْ أوزون حسن لمحاربة الدولة بعد ذلك. وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا رومة وأمير نابولي، ومع كلٍّ فكان النصر دائمًا للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم. وفي سنة ١٤٧٥ أراد السلطان فتح بلاد البغدان، فأرسل إليها جيشًا بعد أن عرض دفع الجزية على أميرها المسمى إسطفن الرابع ولم يقبل.
وبعد محاربة عنيفة قتل فيها كثير من الجيشين المتحاربين عادت الجيوش العثمانيين بدون فتح شيء من هذا الإقليم، ولما بلغ خبر هذا الانهزام آذان السلطان عزم على فتح بلاد القرم حتى يستعين بفرسانها المشهورين في القتال على محاربة البغدان، وكان لجمهورية جنوا مستعمرة في بحيث جزيرة القرم، في مدينة كافا، فأرسل السلطان إليها عمارة بحرية ففتحتها بعد حصار ستة أيام، وبعدها سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوا. وبذلك صارت جميع شواطئ القرم تابعة للدولة العثمانية ولم يقاومها التتار النازلون بها، ولذلك اكتفى السلطان بضرب الجزية عليها.
وبعد ذلك فتحت العمارة العثمانية ميناء آق كرمان، ومنها أقلعت السفن الحربية إلى مصاب نهر الدانوب لإعادة الكرَّة على بلاد البغدان، بينما كان السلطان يجتاز نهر الدانوب من جهة البر بجيش عظيم، فتقهقر أمامه جيش البغدان لعدم إمكانه المحاربة في السهول، وتبعه الجيش العثماني، حتى إذا أوغل خلفه في غابة كثيفة يجهل مفاوزها انقضَّ عليه الجيش البغداني وهزمه (١٤٧٦)، وبذلك اشتهر إسطفن الرابع — أمير البغدان — بمقاومة العثمانيين، كما اشتهر هونياد المجري وإسكندر بك الألباني من قبل وسماه البابا شجاع النصرانية وحامي الديانة المسيحية.
فتح جزائر اليونان ومدينة أوترانت
حصار مدينة رودس
وفي يوم ٤ ربيع الأوَّل سنة ٨٨٦ﻫ (الموافق ٣ مايو سنة ١٤٨١م) توفي أبو الفتح السلطان محمد الثاني الغازي عن ثلاث وخمسين سنة، ومدة حكمه ٣١ سنة تمم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وزاد عليها فتح مملكة طرابزون الرومية والصرب والبوشناق وألبانيا (الأرنئود) وجميع أقاليم آسيا الصغرى، ولم يبقَ في بلاد البلقان إلا مدينة بلغراد التابعة للمجر وبعض جزائر تابعة للبنادقة. ودفن في المدفن المخصوص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسَّسَها في الآستانة.
ترتيباته الداخلية
وكانت مهارة هذا السلطان في الأعمال المدنية تُعادل خبرته في الأعمال الحربية، فإليه ينسب ترتيب الحكومة على نظامات جديدة، فسمى نفس الحكومة العثمانية بالباب العالي، وجعل لها أربعة أركان وهي: الوزير وقاضي عسكر والدفتردار (وتعادل اختصاصاته اختصاصات ناظر المالية الآن)، والرابع يسمى نيشانجي (وهو عبارة عن كاتب سرِّ السلطان)، ثم بعد امتداد سلطة الدولة العلية في جهة أوروبا جعل لها قاضي عسكر مخصوص اسمه قاضي عسكر الروملي وقاضي عسكر آخر للأناطول، وكان اختصاصهما التعيين في وظائف القضاء ما عدا بعض وظائف خصوصية، يختص بها الوزير الأكبر. ثم رتب وظائف الجند فجعل للانكشارية رئيسًا مخصوصًا (أغا)، وناطه بأشغال الضبط والربط بمدينة القسطنطينية ورئيسًا آخر للطوبجية، وثالثًا لما يختص بذخائر ومؤنة الجيوش. وكذلك وضع ترتيبًا لداخليته الخصوصية وأهم أعماله المدنية ترتيب وظائف القضاء من أكبر وظيفة وهي قضاء الروملي إلى أقل وظيفة. ووضع أوَّل مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية؛ أي السنُّ بالسنِّ والعين بالعين، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمَّها السلطان سليمان القانوني الآتي ذكره.
ومن مآثره أيضًا عدة جوامع في القسطنطينية وغيرها، وله اليد البيضاء في إنشاء كثير من المكاتب الابتدائية والمدارس العالية مما يطول شرحه.