السلطان الغازي بايزيد خان الثاني وأخوه الأمير جم
وفي يوم ١٣ ربيع الأوَّل وصل الرسول إلى بايزيد فسافر في اليوم التالي بأربعة آلاف فارس ووصل القسطنطينية بعد مسير تسعة أيام مع أن المسافة تبلغ ١٦٠ فرسخًا تقطع عادة في نحو ١٥ يومًا، فقابله أمراء الدولة وأعيانها عند بوغاز (مضيق) البوسفور، وفي أثناء اجتيازه البوغاز أحاطت به عدَّة قوارب ملأى بالانكشارية وطلبوا منه عزل أحد الوزراء المدعو مصطفى باشا وتعيين إسحاق باشا ضابط القسطنطينية مكانه فأجاب طلبهم.
وكذلك عند وصوله إلى السراي الملوكية وجدهم مصطفين أمامها طالبين العفو عنهم فيما وقع من قتل الوزير ونهب المدينة، وأن ينعم عليهم بمبلغ سرورًا بتعيينه، فأجابهم إلى جميع مطالبهم، وصارت هذه سُنةً لكل من تولى بعده إلى أن أبطلها السلطان عبد الحميد خان الأوَّل سنة ١٧٧٤. أما الرسول الذي كان أرسله الوزير محمد إلى الأمير جم فقبض عليه سنان باشا حاكم الأناطول وقتله حتى لا يصل خبر موت السلطان محمد إليه.
وكان السلطان بايزيد الثاني ميالًا للسلم أكثر منه إلى الحرب، محبًّا للعلوم الأدبية مشتغلًا بها، ولذلك سماه بعض مؤرخي الترك بايزيد الصوفي. لكن دعته سياسة الدولة إلى ترك أشغاله السلمية المحضة والاشتغال بالحرب، وكانت أول حروبه داخلية، وذلك أن أخاه جمًّا لما بلغه خبر موت أبيه سار على الفور مع من حاز به ولاذ به قاصدًا مدينة بورصة، فدخلها عنوة بعد أن هزم ألفيْ انكشاري، ثم أرسل إلى أخيه يعرض عليه الصلح بشرط تقسيم المملكة بينهما فيختص جم بولايات آسيا وبايزيد بأوروبا فلم يقبل بايزيد، بل أتى إليه وقهره بالقرب من مدينة «يكي شهر» في يوم ٢٣ جمادى الأولى سنة ٨٨٦ (الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٤٨١)، وتبعه حتى أوصله إلى تخوم البلاد التابعة لمصر، وفي عودته إلى عاصمته طلب منه الانكشارية أن يبيح لهم نهب مدينة بورصة مجازاة لها على قبولها الأمير جمًّا فلم يوافقهم على ذلك، وخوفًا من حصول شغب منهم دفع إلى كل نفر منهم قرشين، فأقام جم هذه السنة بالقاهرة ضيفًا عند السلطان قايدباي، ثم عاد في السنة الثانية إلى حلب ومنها راسل قاسم بك — آخر ذرية أمراء القرمان — ووعده أنه لو أنجده وساعده للحصول على ملك آل عثمان يردُّ له بلاد أجداده، فاغترَّ قاسم بك بهذه الوعود وجمع أحزابه وسار مع الأمير جم لمحاصرة مدينة قونية عاصمة بلاد القرمان، فصدهم عنها القائد العثماني كدك أحمد باشا فاتح مدينتي كافا وأوترنت وألزم الأمير جمًّا بالفرار.
وفي أثناء هذه المخابرات أغار شارل الثامن — ملك فرنسا — على بلاد إيطاليا لتنفيذ مشروعه الوهمي، وهو فتح مدينة القسطنطينية والوصول إليها عن طريق بلاد البنادقة فألبانيا، ولذلك كان أرسل دعاة الفتنة والفساد إلى بلاد مقدونيا واليونان لإثارة الأفكار ضدَّ العثمانيين، لكن خشي ملك نابولي وجمهورية البنادقة من تعاظم شأن الدولة الفرنساوية، فوضعوا العراقيل أمامه وأرسلوا إلى السلطان بايزيد يخبرونه بمشروع ملك فرنسا ودسائسه، وطلبوا منه أن يرسل جيوشه إلى بلاد إيطاليا وأن يأخذ حذره في داخليته.
وفي هذه الأثناء حاصر ملك فرنسا مدينة رومة وطلب من البابا أن يسلمه الأمير جمًّا العثماني فسلمه إليه، ويقال: إنه دس له السم قبل تسليمه إليه وما فتئ هذا الأمير مصاحبًا لجيوش فرنسا حتى توفي في يوم ١٨ جمادى الأولى سنة ٩٠٠ (الموافق ١٤ فبراير سنة ١٤٩٥) في مدينة نابولي، ودفن في بلدة «جاييت» بإيطاليا، ثم نقلت جثته بعد ذلك بمدَّة إلى البلاد العثمانية ودفن في مدينة بورصة في قبور أجداده. وتوفي رحمه الله عن ٣٦ سنة قضى منها ١٣ في هذه الحالة الشبيهة بالأسر خارجًا عن بلاده.
هذا؛ ولنأتِ على ذكر ما حصل في مدة سلطنة بايزيد الثاني من الحروب بطريق الإيجاز لعدم حصول فتوحات في أيامه تقريبًا، فكانت أغلبها على التخوم لصدِّ هجمات المتاخمين ومجازاتهم على ما يرتكبونه من السلب، لكن في سنة ١٤٨٧ كانت الحروب تنتشب بين العثمانيين وملوك مصر لمتاخمة بلادهم عند أطنه وطرسوس، فبعد مناوشات خفيفة بين الطرفين على الحدود توسَّط بينهما باي تونس لعدم حصول الحرب بين أميرين مسلمين، فاتفقا على حل مرضٍ للطرفين، وساعد على ذلك حب السلطان بايزيد للسلم كما سبق الذكر، وكان ذلك في سنة ١٤٩١. وفي السنين التالية حصلت عدة وقائع ذات شأن لم تحصل منها الدولة على نتائج تذكر؛ إذ لم تفتح مدينة بلغراد التي كانت مطمح أنظار الدولة لبقائها كنقطة سوداء على شاطئ نهر الدانوب الأيمن الفاصل بين أملاك الدولة والمجر.
ابتداء العلاقات مع دول أوروبا
فخافت جمهورية البندقية من تقدم الأتراك إلى مركز حكومتها من ضياع استقلالها، واستغاثت بممالك أوروبا المسيحية؛ فأنجدها البابا وملك فرنسا ببعض مراكب حربية وساعدوها على محاصرة جزيرة ميدللي لإشغال الدولة عن بلادها فلم تنجح، بل فتح العثمانيون مدينة «رودتسو» الواقعة على بحر الأدرياتيك، ولولا عصيان أولاد السلطان عليه ببلاد الأناطول كما سيجيء لفتحت باقي بلاد البنادقة، لكن اضطرت أحوال المملكة الداخلية السلطان إلى إبرام الصلح مع محاربيه بأوروبا، وهم المجر والبنادقة، فتم الصلح بينه وبين الجمهورية سنة ١٥٠٢، وفي السنة التالية تمَّ الصلح كذلك مع ملك المجر.
عصيان أولاد السلطان عليه وتنازله عن الملك لابنه سليم
ولقد تكدَّر صفاء حياة الملك في سني حكمه الأخيرة بعصيان أولاده عليه وإضرامهم نار الحروب الداخلية التي لولا ما وقع في قلوب أعدائها من الرعب لكانت هذه الحروب العائلية فرصة عظيمة لهم؛ وذلك أن السلطان بايزيد الثاني كان له ثمانية أولاد ذكور توفي منهم خمسة في صغرهم وبقي ثلاثة، وهم كركود وأحمد وسليم، وكان أوَّلهم مشتغلًا بالعلوم والآداب ومجالسة العلماء؛ ولذا كان يمقته الجيش لعدم ميله للحرب، والثاني كان محبوبًا لدى الأعيان والأمراء، وكان علي باشا — أكبر الوزراء — مخلصًا له. وكان ثالثهم وهو سليم محبًّا للحرب ومحبوبًا لدى الجند عمومًا والانكشارية خصوصًا.
ولما وصل إلى كركود خبر نجاح أخيه سليم في مقاومته انتقل إلى ولاية صاروخان واستلم إدارتها بدون أمر أبيه ليكون قريبًا من القسطنطينية عند الحاجة.
ثم سار سليم إلى أدرنة وأعلن نفسه سلطانًا عليها، فأرسل والده إليه من هزمه وألجأه إلى الفرار ببلاد القرم. وأرسل جيشًا آخر لمحاربة كركود بآسيا فهزمه أيضًا، لكن التزم السلطان بايزيد بالعفو عن ابنه سليم بناءً على إلحاح الانكشارية لتعلقهم به وإعادته إلى ولاية سمندرية. وفي أثناء توجه سليم إليها قابله الانكشارية وأتوا به إلى القسطنطينية باحتفال زائد وساروا به إلى سراي السلطان، وطلبوا منه التنازل عن الملك لولده المذكور، فقبل واستقال في يوم ٨ صفر سنة ٩١٨ (الموافق ٢٥ أبريل سنة ١٥١٢)، وبعد ذلك بعشرين يومًا سافر للإقامة ببلدة ديموتيقا، فتوفي في الطريق يوم ١٠ ربيع الأول سنة ٩١٨ (الموافق ٢٦ مايو سنة ١٥١٢) عن ٦٧ سنة ومدة حكمه ٣٢ سنة، ويدَّعي بعض المؤرخين أن ولده دسَّ إليه السم خوفًا من رجوعه إلى منصة الملك، كما فعل السلطان مراد الثاني الذي سبق ذكره. ولم تزد أملاك الدولة العلية في زمن السلطان بايزيد الثاني إلا قليلًا لحبه السلم وحقن الدماء، فكانت حروبه الخارجية اضطرارية للمدافعة عن الحدود؛ حتى لا يستخف بها أعداؤها. وكان سلمي الطباع كارهًا للقتل، وكان أشهر وزرائه داود باشا الذي تولَّى الوزارة بعد كدك أحمد، ومكث بها أربع عشرة سنة واستقال منها باختياره سنة ١٤٩٧، وقضى باقي عمره في عمل الخيرات والمبرَّات.