السلطان سليم الأول الغازي الملقب ﺑ «ياوز» أي القاطع
لما كان تعيينه بمساعي الانكشارية يقتضي توزيع المكافآت عليهم حسب المعتاد أعطى لكل نفر منهم خمسين دوكا، ثم عين ابنه سليمان حاكمًا للقسطنطينية، وسافر بجيوشه إلى بلاد آسيا لمحاربة إخوته وأولاد إخوته حتى يهدأ باله بداخليته، ولم يبق له منازع في الملك، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة، ولم يتمكن من القبض عليه لوجود علاقات بينه وبين الوزير مصطفى باشا الذي كان يخبره بمقاصد السلطان. لكن علم السلطان بهذه الخيانة فقتل الوزير شر قِتلة جزاءً له وعبرة لغيره، ثم ذهب إلى بورصة حيث قبض على خمسة من أولاد إخوته وأمر بقتلهم. وبعدها توجَّه بكل سرعة إلى صاروخان — مقر أخيه كركود — ففر منه إلى الجبال، وبعد البحث عليه عدَّة أسابيع قبض عليه وقتل.
أما أحمد فجمع جيشًا من محازبيه وقاتل العساكر العثمانية؛ فانهزم وقتل بالقرب من مدينة يكي شهر في يوم ١٧ صفر سنة ٩١٩ (الموافق ٢٤ أبريل سنة ١٥١٣).
محاربة العجم ودخول العثمانيين مدينة تبريز
وبعد ذلك أعلن السلطان سليم الشاه إسماعيل بالحرب، وسافر بجيوشه من مدينة أدرنة في ٢٢ محرَّم سنة ٩٢٠ (الموافق ١٩ مارس سنة ١٥١٤)، وفي أثناء مسيره تبادل مع الشاه إسماعيل رسائل مفعمة بالسباب. وسار الجيش العثماني تحت قيادة السلطان سليم نفسه — كما جرت به العادة — قاصدًا مدينة تبريز — عاصمة العجم — وكانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه خدعةً منهم لينهك التعب الجيوش العثمانية فينقضوا عليهم. واستمروا في تقهقرهم إلى أرباض تبريز فوقع القتال بين الجيشين في وادي جال دران في ٢ رجب سنة ٩٢٠ (الموافق ٢٤ أغسطس سنة ١٥١٤)، فانتصرت الجيوش العثمانية نصرًا مبينًا لمساعدة الطوبجية لها، وفرَّ الشاه بما بقي من جيوشه ووقع كثير من قواده في الأسر، وأُسرتْ أيضًا إحدى زوجاته، ولم يقبل السلطان أن يردَّها لزوجها، بل زوَّجها لأحد كاتبي يده انتقامًا من الشاه. وفتحت المدينة أبوابها ودخلها السلطان منصورًا في يوم ١٤ رجب سنة ٩٢٠ (الموافق ٤ سبتمبر سنة ١٥١٤)، واستولى على خزائن الشاه وأرسلها إلى القسطنطينية، وكذلك أرسل إليها أربعين شخصًا من أمهر صناع هذه المدينة؛ الأمر الذي يدل على عدم إغفاله تقدُّم الصنائع أثناء اشتغاله بالحروب، وبعد أن استراح ثمانية أيام قام بجيوشه وأخلى مدينة تبريز لعدم وجود المئونة الكافية لجيوشه بها، مقتفيًا أثر الشاه إسماعيل حتى وصل إلى شاطئ نهر الرس، وعندها امتنع الانكشارية عن التقدم لاشتداد البرد وعدم وجود الملابس والمئونة اللازمة لهم، فقفل راجعًا إلى مدينة أماسية بآسيا الصغرى للاستراحة زمن الشتاء والاستعداد للحرب في أوائل الربيع، ومر في عودته من بلاد أرمينيا لكنه لم يفتحها لعدم وجود الوقت الكافي لذلك.
وعندما أقبل الربيع بنضارته رجع السلطان إلى بلاد العجم؛ ففتح قلعة كوماش الشهيرة وإمارة ذي القدر سنة ١٥١٥، ثم رجع إلى القسطنطينية تاركًا قوَّاده لإتمام فتح الولايات الفارسية الشرقية. ولما وصل إليها أمر بقتل عدد عظيم من ضباط الانكشارية الذين كانوا سبب الامتناع عن التقدم في بلاد فارس — كما سبق الذكر — خشيةً من امتداد الفساد وعدم الإطاعة في الجيوش، وأمر بقتل قاضي عسكر هذه الفئة واسمه جعفر جلبي؛ لأنه كان من أكبر المحرِّكين لهذا الامتناع، وخوفًا من حصول مثل ذلك في المستقبل جعل لنفسه حق تعيين قائدهم العام — ولم يكن من بينهم — ليكون له بذلك السيطرة عليهم، وكان النظام السابق يقضي بتعيينه من أقدم ضباط الانكشارية.
وبعد عودة السلطان إلى القسطنطينية فتحت الجيوش العثمانية مدائن ماردين وأورفه والرقة والموصل، وبذا تم فتح إقليم ديار بكر، وأطاعت كافة قبائل الكرد بدون كثير عناء بشرط بقائهم تحت حكم رؤساء قبائلهم.
فتح مصر ودخولها ضمن الممالك المحروسة
وبعد هذه الموقعة احتل السلطان سليم بكل سهولة مدائن حماة وحمص ودمشق، وعيَّن بها ولاة من طرفه، وقابل من بها من العلماء فأحسن وفادتهم، وفرَّق الإنعامات على المساجد، وأمر بترميم الجامع الأموي بدمشق. ولما صلى السلطان الجمعة به أضاف الخطيب عندما دعا له هذه العبارة «خادم الحرمين الشريفين»، وهي مستعملة في الخطبة إلى الآن.
هذا؛ ولما وصل خبر موت السلطان الغوري إلى مصر انتخب المماليك طومان باي خلفًا له، وأرسل إليه السلطان سليم يعرض عليه الصلح بشرط اعترافه بسيادة الباب العالي على القطر المصري، فلم يقبل، بل استعدَّ لملاقاة الجيوش العثمانية عند الحدود، فالتقت مقدمتا الجيشين عند حدود بلاد الشام، وهزمت مقدمة المماليك، واحتل العثمانيون مدينة غزة على طريق مصر، وساروا نحو القاهرة حتى وصلوا بالقرب منها، وعسكر السلطان بجيشه في أواخر ذي الحجة سنة ٩٢٢ بالخانقاه المعروفة بالخانكة، وفي ٢٩ ذي الحجة سنة ٩٢٢ (الموافق ٢٢ يناير سنة ١٥١٧) انتشب القتال بين الطرفين بجهة العادلي (جهة الوايلي)، وفي أثناء القتال قصد طومان باي وبعض الشجعان مركز السلطان سليم وقتلوا من حوله وأسروا وزيره سينان بك، وقتله طومان باي بيده ظنًّا منه أنه هو السلطان سليم بنفسه، ولم تنفع شجاعتهم شيئًا، بل تغلَّب عليهم بمدافعه ومدافعهم التي استولى عليها وقت الحرب.
وبعد ذلك بثمانية أيام؛ أي في يوم ٨ محرم سنة ٩٢٣ دخل العثمانيون مدينة القاهرة رغمًا عن مقاومة المماليك الذين حاربوهم من شارع لآخر ومن منزل لآخر، حتى قتل منهم ومن أهالي البلد ما يبلغ خمسين ألف نسمة.
أما طومان باي فالتجأ ومن بقي معه إلى برِّ الجيزة، وصار يناوش العثمانيين ويقتل كل من يأسره منهم، لكنه لم يلبث أن وقع في أيدي العثمانيين بخيانة بعض من معه، وشُنِقَ بأمر السلطان سليم في ١٣ أبريل سنة ١٥١٧ (الموافق ٢١ ربيع الأول سنة ٩٢٣) بباب زويلة، ودفن بالقبر الذي كان أعده السلطان الغوري لنفسه. وبعد أن مكث السلطان سليم بالقاهرة نحو شهر أقام في منيل الروضة وأخذ في زيارة جوامع المدينة وكل ما بها من الآثار، ووزع على أعيان المدينة العطايا والخلع السنية، وحضر الاحتفال الذي يحصل بمصر سنويًّا لفتح الخليج الناصري عند بلوغ النيل الدرجة الكافية لري الأراضي المصرية، ثم حضر احتفال سفر المحمل الشريف وقافلة الحجاج التي ترسل معها الكسوة الشريفة إلى الأراضي الحجازية، وأرسل الصرة المعتاد إرسالها إلى الحرمين الشريفين بقصد توزيعها على الفقراء من عهد السلطان محمد جلبي العثماني، وأبلغها إلى ثمانية وعشرين ألف دوكا.
ومما جعل لفتح وادي النيل أهمية تاريخية عظمى أن محمدًا المتوكل على الله — آخر ذرية الدولة العباسية الذي حضر أجداده لمصر بعد سقوط مدينة بغداد مقر خلافة بني العباس في قبضة هولاكو خان التتري سنة ٦٥٦ﻫ (الموافقة سنة ١٠٩١م) وكانت له الخلافة بمصر اسمًا — تنازل عن حقه في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم العثماني، وسلمه الآثار النبوية الشريفة، وهي البيرق والسيف والبردة، وسلمه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين، ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرًا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين، اسمًا وفعلًا.
لما أخذ مصر ورأى غالب حكامها من المماليك الذين ورثوها عن ساداتهم رأى أن بُعد الولاية عن مركز الدولة ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة وتطلبه الاستقلال؛ فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وجعل في كل قسم رئيسًا، وجعلهم جميعًا منقادين لكلمة واحدة هي كلمة وزير الديوان الكبير، وجعله مركبًا من الباشا — الوالي من قبله — ومن بيكوات السبع وجاقات، وجعل للباشا مزية توصيل أوامر السلطان إلى المجلس وحفظ البلاد وتوصيل الخراج إلى القسطنطينية، ومنع كلًّا من الأعضاء العلوَّ على صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزية نقض أوامر الباشا بأسباب تبدو لهم وعزله إن رأوا ذلك، والتصديق على جميع الأوامر التي تصدر منه في الأمور الداخلية، وجعل حكام المديريات الأربع والعشرين من المماليك وخصَّهم بمزية جمع الخراج في البلاد وقمع العربان، وصدِّهم عنها، والمحافظة على ما في داخلها، وكل ذلك بأوامر تصدر لهم من المجلس، وجرَّدهم عن التصرف من أنفسهم، ولقَّب أحدهم — المقيم بالقاهرة — بشيخ البلد، ثم رتب الخراج وقسمه أقسامًا ثلاثة، وجعل من القسم الأول ماهية عشرين ألف عسكري بالقطر من المشاة واثنيْ عشر ألفًا من الخيالة، والقسم الثاني يرسل إلى المدينة المنورة ومكة المشرفة، والقسم الثالث يرسَل إلى خزينة الباب العالي، ولم يلتفت إلى راحة الأهالي، بل تركها عرضة للمضار كما كانت، ومن هذا الترتيب تمكَّنت الدولة العلية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفها نحو مائتيْ سنة.
ثم أهملت بعد ذلك القوانين التي وضعها السلطان سليم من حين استيلائه عليها وكانت هي الأساس، ولم تلتفت الدولة لما كان يحصل من المماليك من الأمور المخلة بالنظام؛ فضعفت شوكة الدولة وهيبتها التي كانت لها على مصر، وأخذ البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية؛ فآل الأمر والنهي لهم في الحكومة، وصارت الدولة صورية غير حقيقية، وسبب ذلك إكثارهم من شراء المماليك، ولو كانت الدولة العلية تنبَّهتْ لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان سليم، ولكن غفلت عن هذا الأمر كما غفلت عن أمور كثيرة، ومن ذلك لحق الأهالي الذُّلُّ والإهانة، وهاجر كثير منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد، وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان الذي عليها مدار الخصب، ونتج من ذلك ومن خوف الدولة العلية من تمكن الباشا في الحكومة أن تغلبت البيكوات وصارت كلمتهم هي النافذة، وانفردوا بالتصرف. ا.ﻫ.
وفي أوائل شهر سبتمبر سنة ١٥١٧ سافر السلطان سليم من القاهرة عائدًا إلى القسطنطينية التي صارت من ذلك الوقت مقر الخلافة الإسلامية العظمى، وكان سفره عن طريق بلاد الشام مستصحبًا معه آخر بني العباس، وعين خير بك واليًا على مصر، وهو أحد أمراء المماليك الذين خانوا طومان باي وانضموا إليه، وترك بالقاهرة حامية كافية لحفظ الأمن تحت قيادة خير الدين آغا الانكشاري، وفي أثناء مروره بصحراء العريش التفت لوزيره الأكبر يونس باشا، الذي كان فتح مصر على غير رأيه وقال له ما معناه أنه قد أتم فتحها خلافًا لرأيه، فجاوبه يونس باشا بأن فتحها لم يعد عليه بشيء إلا قتل نحو نصف الجيش بما أنه سلَّمَها لخائن كان غرضه التملك عليها لنفسه فلا يؤمَن ولاؤه للدولة، فغضب السلطان من هذا الكلام الموجه إليه بصفة لوم وأمر بقتله في الحال فقتل، وكان ذلك في ٦ رمضان سنة ٩٢٣، وعين مكانه بير محمد باشا، الذي كان معينًا قائم مقام السلطان في القسطنطينية أثناء تغيبه في فتح مصر لثقته به بناءً على ما أظهره من أصالة الرأي في محاربة الشاه إسماعيل.
وفي ٢٠ رمضان سنة ٩٢٣ وصل السلطان إلى مدينة دمشق، ومكث بها إلى ٢٢ صفر سنة ٩٢٤، ثم سافر إلى مدينة حلب بعد أن حضر الاحتفال بإقامة الصلاة أوَّل مرة في الجامع الذي أقامه بدمشق على قبر محيي الدين بن العربي في ٢٤ محرم سنة ٩٢٤، وبعد أن أقام بحلب مدَّة شهرين سافر قاصدًا عاصمة ملكه فوصلها في ١٧ رجب سنة ٩٢٤ (الموافق ٢٥ يوليو سنة ١٥١٨)، ثم ارتحل عنها إلى مدينة أدرنة بعد عشرة أيام قضاها في الاستراحة من أتعاب السفر، وكان ولده سليمان معينًا حاكمًا لها مدَّة غياب والده، وبعد وصول أبيه بتسعة أيام استأذنه الأمير سليمان في السفر إلى ولاية صاروخان المعين واليًا عليها.
وفي أثناء إقامة السلطان بمدينة أدرنة وصل إليه سفير من قبل مملكة إسبانيا ليخابره بشأن حرية زيارة المسيحيين للقدس الشريف، الذي كان قبلًا تابعًا لسلطنة مصر وتبعها في دخولها تحت ظل الدولة العلية، في مقابلة دفع المبلغ الذي كان يُدفع سنويًّا للمماليك، فأحسن السلطان مقابلته وصرَّح بقبوله ذلك إذا أرسل ملكه رسولًا آخر مخوِّلًا له حق إبرام معاهدة مع الباب العالي، وكذلك أتى إليه فيها سفير من قبل جمهورية البندقية ليدفع له خراج سنتين، متأخر الخراج المقرر عليها نظير بقائها في جزيرة قبرص.
وكان في هذه المدة مشتغلًا بتجهيز عمارة بحرية لمعاودة الكرة على جزيرة رودس بحرًا، وكان يستعدُّ أيضًا لمحاربة شاه العجم ثانيًا، فجمع خمسة عشر ألف فارس بمدينة قيصرية وضم إليهم ثلاثين ألف جندي من المشاة تحت قيادة فرحات باشا بيلر — بك الأناطول — وأرسل إليهم عددًا عظيمًا من المدافع والذخائر. لكن لم يمهله المنون ريثما يُتم مشروع فتح جزيرة رودس، بل عاجله في رحلته من القسطنطينية إلى أدرنة، فتوفي في يوم ٩ شوال سنة ٩٢٦ (الموافق ٢٢ سبتمبر سنة ١٥٢٠) في السنة التاسعة من حكمه والحادية والخمسين من عمره؛ إذ كانت ولادته في سنة ٨٧٥.
وأخفى طبيبه الخصوصي خبر موته عن الحاشية ولم يبلغه إلا للوزراء، فاجتمع كل من بير محمد باشا وأحمد باشا ومصطفى باشا، وقرروا إخفاء هذا الأمر حتى يحضر ولده سليمان من إقليم صاروخان خوفًا من أن تثور الانكشارية كما هي عادتهم.
فكانت مدة حكمه كمدة حكم جدِّه محمد الفاتح، أيام فتوحات خارجية وتنظيمات داخلية، إلا أنه كان ميَّالًا لسفك الدماء؛ فقتل سبعة من وزرائه لأسباب واهية.
وكان كل وزير مهدَّدًا بالقتل لأقل هفوة حتى صار يُدعى على من يرام موته بأن يصبح وزيرًا له، وبنى كثيرًا من الجوامع وحوَّل أجمل كنائس القسطنطينية إلى مساجد، مع سبق الوعد من السلطان محمد الثاني الفاتح لبطريق الروم بعدم مسِّ نصف الكنائس الثاني الذي تركه لهم بعد فتح المدينة كما مر.