علاء الدين أبو الشامات
١
هتف جمصة البلطي في هَدْأة الليل تحت النخلة: «اللهم حرِّرني من أمسِ .. اللهم حرِّرني من غدٍ».
وإذا بصوت سنجام يقول له: نحن نُحب ما تُحب، ولكن بيننا وبين الناس حاجزٌ من المقادير.
ولَعلعَت ضحكةُ زرمباحة، ثم قالت: لماذا خُلقَ الشهدُ والخمرُ؟
وكان شهريار ماضيًا في جولاته الليلية مع رجلَيه، فقال لدندان: تمر بي هواتفُ متلاحقةٌ، ولكني دائرُ الرأس في مقام الحَيْرة.
٢
نحيل القوام، مشرق الوجه، ناعس الطرف، فوق كل خدٍّ شامةٌ، يهمُّ بولوج المراهقة في حياءٍ .. رمقَه عجر الحلاق، وقال: تعلمْتَ ما أنت في حاجةٍ إليه، فخذِ العدَّة واسرح، والله يرزقكَ.
وتمتمَت فتوحة: ربنا يكفيك شر أولاد الحرام.
وذهب الفتى نشيطًا مستبشرًا، فقال عجر وكأنما يخاطب نفسه: له جمالُ نور الدين، فاللهم أسبِغْ عليه حظَّه.
فقالت فتوحة: حجابي فوق صدره يصدُّه عن طريق أبيه.
فرماها عجر بنظرةٍ سامَّةٍ ولكنه لم ينبِس.
٣
مضى يعمل في الطريق والدكاكين، وكلُّ مَن تقع عليه عيناه يقول: تبارك الخلاق العظيم.
واختار سلَّم السبيل ساعة الراحة، فنشأَت مَودَّةٌ سريعة بينه وبين فاضل صنعان بياع الحلاوة .. ومرةً دعاه إلى مسكنه بالرَّبْع، فرأى زوجته أكرمان وأمه أم السعد وأخته حسنية .. تحرَّكتْ مراهقته خفيةً، فارتطمَت بورعه وتربيته الدينية التي تلقاها في الكُتَّاب، فجعل يعتلُّ بالعِلَل كلما دعاه فاضل إلى مسكنه .. ولمس فاضل ورعَه فقال له: إنَّك فتًى جديرٌ بكلمات الله المستكنَّة في قلبكَ.
فغمغَم علاء الدين: إنَّه من فضل ربي.
فسأله بحذر: ما شعورُك عندما ترى المعاصي تجتاحُ الناس؟
فتمتَم: الحزن والأسف.
– وما جدْوى ذلك؟
فتبدَّتِ الحيرةُ في عينَيه وتساءل: ماذا تريد أيضًا؟
– الغضب!
وكرَّرها ثم قال: المرعى الطيِّب جديرٌ بالأسد.
٤
أشرق الحي بمولد سيدي الورَّاق .. زحَفتِ المواكبُ، وتلاطمتِ الأعلام، وتجاوبتِ الدفوف والمزامير .. اجتمع أهل الخير وأهل النفاق حول جفان الثريد .. ولاح في مجالس الخاصة سحلول، وحسن العطار، وجليل البزَّاز، وسليمان الزيني، والمعين بن ساوي، وشملول الأحدب، وحضر أيضًا فاضل صنعان، وعجر الحلاق، ومعروف الإسكافي، وإبراهيم السقَّاء، ورجب الحمَّال .. جاء أيضًا — بمفرده لأول مرة — علاء الدين أبو الشامات .. أجلَسه فاضل إلى جانبه، وهو يقول: لو بُعثَ الورَّاق لامتشَق السيف!
ابتسَم علاء الدين ابتسامة من يزداد خبرةً بمعرفة صاحبه .. فقال فاضل بنبرةٍ ذاتِ مغزًى: ما دام الطيِّبون لا يمتشقون السيوف!
قال علاء الدين ببراءة: يتحدَّثونَ كثيرًا عن توبة مولانا السلطان.
فقال فاضل بسخريةٍ: أحيانًا يتوب عن توبته، ويقينًا أنَّه ليس أحقَّ المسلمين بالولاية!
انجذَبتْ عينا علاء الدين نحو الركن الأيمن، فهجر حديث صاحبه ولو إلى حين .. ثمَّة شيخٌ نحيلٌ بهيجُ الوجهِ ذو نظرةٍ آسرة .. خُيِّل إليه أنَّه لم ينظر نحوه مصادفةً .. وجد عينَي الشيخ في انتظاره .. ثمة دعوةٌ خفيةٌ من هناك واستجابةٌ من هنا .. ارتاح إليه كما يرتاح السليم إلى بهجة الوردة المتفتِّحة .. ولاحظ فاضل انصرافه عن حديثه إلى الشيخ، فقال له: الشيخ عبد الله البلخي رأس الولاية.
فتساءل علاء الدين بأرْيَحيَّة: لماذا ينظر إليَّ؟
فقال فاضل بغموض: ولماذا تنظر إليه؟
فهمس: الحق أنِّي أحببتُه.
فقطَّب فاضل ولم يَجدْ ما يقوله.
٥
غادر علاء الدين المولد وحدَه مُتْرَع الصدر بأصداء الأناشيد .. سبح في الظلام تحت ضوء النجوم الخافت ونسمةُ الخريف تُلاطِفه .. إذا بصوتٍ عميقٍ مؤثرٍ يُدرِكه مناديًا: يا علاءَ الدين.
فتوقَّف وقلبُه يناجيه أنَّ هذا الصوت من ذاك الشيخ يصدُر، لحق به الشيخ وقال له: أنت مدعوٌّ لصداقتي.
فقال بحياء: نِعمَ الدعوة يا مولاي، ولكن كيف عرفتَ اسمي؟
فلم يُجبْه وواصَل: داري معروفة لمن يريد.
فقال كالمعتذر: عملي يستغرق نهاري كلَّه.
– إنَّكَ لا تدري ما عملُكَ.
– لكنَّي حلاقٌ يا سيدي.
فلم يحفِلْ بإجابته وسألَه: لماذا حضرتَ مولد الورَّاق؟
– أُحبُّ الموالد من صغري.
– ماذا تعرف عن الورَّاق؟
– إنَّه وليٌّ من الصالحين.
– إليكَ قصة رُويَت عن لسانه، قال: «أعطاني شيخي بعضَ وُريقاتٍ بقصد أن أرميَها في النهر، فلم يُطاوِعني قلبي على هذا العمل، ووضعتُها في بيتي وذهبتُ إليه وقلتُ له قد أدَّيتَ أمركَ، فسألَني وماذا رأيتَ؟ فقلتُ: لم أرَ شيئًا، فقال: لم تعمل بأمري .. ارجع فارْمِها في النهر، فرجعتُ مُتشكِّكًا في العلامة التي وعدَني بها، ورميتُها في النهر، فانشَقَّ الماء وظهر صندوق وفُتحَ غطاؤه حتى سقَطَت الوريقات فيه، فقُفِل والتقت المياه، فرجعتُ إليه وأخبرتُه بما حصل فقال لي: الآن رميتَها، فسألتُه أن يُبيِّن لي سرَّ ذلك، فقال: قد كتبتُ كتابًا في التصوف لا يمكن أن يناله إلا الكُمَّل، فطلَبه منى أخي الخضر، وقد أمر الله المياه أن تأتيه به.»
فذُهل علاء الدين ولاذ بالصمت، فمضَيا معًا على مهَل، والشيخ يقول: ومن أقواله المأثورة: «فسادُ العلماء من الغفلة، وفسادُ الأمراء من الظلم، وفسادُ الفقراء من النفاق.»
فتمتَم علاء الدين منتشيًا: ما أعذبَ حديثَهُ!
فقال بصوتٍ ارتفع درجةً في هَدْأَة الليل: فلا تكن من قرناء الشياطين.
فتساءل مدفوعًا بشوقٍ ساخن: من هم قُرناءُ الشياطين؟
فأجابه الشيخ: أميرٌ بلا علم، وعالم بلا عفَّة، وفقير بلا توكُّل، وفساد العالم في فسادهم.
فقال علاء الدين بحماس: أريد أن أفهم.
– الصبر يا علاء الدين، ماهي إلا بدايةُ تعارُف على مشهدٍ من النجوم، وداري معروفة لمن يريد.
٦
حَلمَ علاء الدين تلك الليلة بأنَّ «المجنون» جاءه بجِلبابه المسدول على اللحم، وقال له: أرسل لحيتكَ.
فعَجب لطلبه، فقال المجنون: ما هي إلا شبكةٌ للصيد.
فقال علاء الدين: ولكني حلَّاق لا صيَّاد.
فصاح المجنون: خُلق الإنسان ليكون صيَّادًا.
٧
على طبلية الفطور حكى لوالدَيه حكاية الشيخ عبد الله البلخي، ففرحَت فتوحة وقالت: بركة من ربنا.
أما عجر فاستمع إليه بفتور، وقال: ما أنتَ إلا حلَّاق، وإنَّك لمتدينٌ بما فيه الكفاية، فاحذرِ المُغالاة.
وبسبب هذا الاختلاف تَشاجَر الزوجان وتقاذَفا بكلماتٍ قارصة.
٨
وفوق سلَّم السبيل راح يُصْغي لحديث فاضل بدهشة، ثم سألَه: إنَّك حانقٌ على رجالنا الأجلَّاء.
فسألَه فاضل: هل عرفتَهم عن قُرب؟
– أحيانًا يصحبُني أبي معه إلى دُورِهم كمساعدٍ له، فرأَيْتُ عن قُربٍ الفضل بن خاقان حاكمَ حيِّنا، وهيكل الزعفراني كاتمَ السرِّ، ودرويش عمران كبيرَ الشرطة.
– لا يعني هذا أنَّك عرفتَهم.
– رجالٌ عظام، واحد فقط انقبَض قلبي لمرآهُ هو حبظلم بظاظا بن درويش عمران، خُيِّل إليَّ أنَّ به شبهًا بالشيطان!
– هل رأيتَ الشيطان؟
– لا تَسخَر منى، ما هو إلا شُعور.
تنهَّد فاضل صنعان قائلًا محادثًا نفسه: الأوغاد!
– كيف أسأتَ الظنَّ بهم؟
– لا دخان بلا نار!
فتفكَّرَ قليلًا، ثم قال: الله موجود.
فهتف فاضل: لكننا ضمنَ أدواتِه التي يصنع بها الخير أو يمحَق الشر!
فنظر إليه في عينَيه متسائلًا: ماذا تريد يا فاضل؟
فقال بغموض: أطمعُ أن أجعلَكَ صديقًا وزميلًا!
٩
جلس في حجرة الاستقبال البسيطة بدار البلخي ينتظر دخوله .. إنَّها أول زيارة يقوم بها في أوَّل الليل .. وكان سمع أباه عجر يروي حكايةً عن الشيخ أكربَتْه وأحزنَتْه .. قال: إنَّ درويش عمران كبير الشرطة، خطب الابنة الوحيدة للشيخ لابنه حبظلم بظاظا .. إنَّها ابنةٌ تقيةٌ نقيةٌ أخذَت العهد عن أبيها، وفائقة الجمال .. وتذكَّر صورة حبظلم بظاظا الشيطانية وما يُقال عن سيرته فاستاء وتضاعَف حزنُه .. ومضى أبوه في روايته فقال: إنَّ الشيخ شكر واعتذر، ولكن لا شكَّ في أنَّ كبير الشرطة قد غَضِب، وإذا غَضِب كبير الشرطة فلا أمان للمغضوب عليه .. وقد سأَل أباه: ألا يُدرِك الشيخ البلخي هذه الحقيقة؟
فأجاب عجر: معروفٌ عن الشيخ أنَّه لا يخشى إلا الله، ولكن هل يخشى كبيرُ الشرطة الله؟!
وجاء لزيارته بقلبٍ ثقيل بالحزن له .. ولكنه ما كاد يراه مقبلًا مشرقًا حتى نسيَ حزنه وأدركَ أنَّه حقًّا لا يخشى إلا الله. تربَّع الرجل على شلْتةٍ في الصَّدر، وسألَه: ما شُعوركَ وأنت تزورني لأول مرة؟
فقال علاء الدين صادقًا: أشعُر كما لو كنتُ أعرفكَ منذ وُلدت.
فقال باسمًا: لكلٍّ منا أبٌ آخر والسعيد منا من يكتشفه.
– وحديثُكَ في ليلة المَولدِ أَسَر قلبي.
– نحن نشُد إلى الطريق الأكفاءَ الضالين، ماذا قال أبوكَ؟
اضطَرب علاء الدين وقال: إنَّه يريدني على أن أُكرِّس قلبي لعملي.
فقال جادًّا: إنَّه نائم ويأبى أن يصحوَ، ولكن كيف تُقيِّم نفسكَ يا علاء الدين؟
لم يدرِ بماذا يجيب، فسألَه متبسطًا: أي مسلمٍ أنتَ؟
– إنِّي مسلمٌ صادق.
فتساءل: هل تُصلِّي؟
– الحمد لله.
– أرى أنكَ لم تُصلِّ قَط.
فنظَر إليه بدهشة، فقال الشيخ: الصلاة عندنا تؤدَّى بعمق فلا يَشعُر صاحبها بمسِّ النارِ إذا أحرقَتْه.
فصمَت علاء الدين مغلوبًا على أمره، فقال الشيخ: فعليكَ أن تقبل الإسلام من جديدٍ لتصير مؤمنًا حقًّا، وعندما يتمُّ لكَ الإيمانُ تبدأ الطريقَ من أوله إذا شئتَ.
ظل علاء الدين صامتًا، فقال الشيخ: لا أُهَوِّنُ من مشقَّة الطريق بمعسول الكلام، فنورُ الخلاص ثمرةٌ مضنونٌ بها على غير أهلها، والله يتقبل منكَ ما دون ذلك، ولكلٍّ على قَدْر همَّته.
وخيَّم الصمت، حتى شقَّه علاء الدين متسائلًا: أيقتضي ذلك أن أتخلَّى عن عملي؟
فأجاب بقوةٍ: لكل شيخ طريقةٌ، أما أنا فلا أقبل إلا العاملين.
فقال علاء الدين: سوف أجيء بقلبي وقدمي.
فقال: لا تجئ إلا إذا دفعَتْكَ رغبةٌ لا تُقاوَم!
١٠
أقبل على فاضل صنعان في ملتقى السبيل شخصًا جديدًا .. تَوجَّس فاضل ريبةً فهمَس بنفاد صبر: حتى متى تتركُني في مقام الأمل؟
فقال علاء الدين: إنِّي في مقام الحَيْرة.
– اهتديتَ إلى دار الشيخ؟
– أجل، كيف عرفتَ ذلك؟
– أعرف أثَره.
ثم مستدركًا: وقد طفْتُ به طويلًا!
– أنتَ؟!
– نعم.
– إنَّه شيخٌ طاهر.
فحنَى رأسه مُسلِّمًا، وهو يقول: هو ذلك وأكثر.
– لعل الصبرَ خانكَ فانقطعتَ؟
– تلقَّيتُ على يديه تربيةً لا تزول آثارها، ولكني آثرتُ البقاء على الفَناء.
– لا أفهم يا صديقي.
– اصبِر، الفهم لا يتَيسَّر إلا مع الزمن، أودُّ أن أراكَ من جنود الله لا من دراويشه!
– حقًّا إنِّي لفي حَيْرة.
فقال فاضل: المنطلَق من الإيمان دائمًا وأبدًا، الطريق واحد في الأول ثم ينقسم بلا مفَر إلى اتجاهَين .. أحدهما يؤدي إلى الحُب والفَناء، والآخر إلى الجهاد. أما أهل الفَناء فيُخَلِّصُون أنفسهم، وأما أهل الجهاد فيُخَلِّصُون العباد.
وغرق علاء الدين في تفكيرٍ عميق نسي به الوقت.
١١
كان درويش عمران كبير الشرطة، وابنه حبظلم بظاظا يمضيان على بغلتَين من مقر الشرطة إلى دارهما والشمس تؤذن بالمغيب .. وعند منعطف ميدان الرماية طالعَهُما فجأةً المجنون، فاعترض سبيلهما صائحًا في وجه درويش عمران: زُر صاحبكَ المعين بن ساوي وبلِّغه السلام!
وذهب الرجل إلى حال سبيله، فتساءل حبظلم: ماذا يريد المجنون؟
فقال كبير الشرطة: لا يُحاسَب مجنون على قول أو فعل.
لكنَّه أدركَ أنَّه يُذكِّره بمصير كبير الشرطة وأنَّه يُشير إلى انحرافاته .. ابنه أيضًا أدرك ذلك رغم تساؤله، بخاصة وأنَّه يقوم بالوساطة عادةً بين التجار وأبيه .. وقال حانقًا: للمجانين مكانٌ لا يبرحونه.
فقال درويش عمران: إنَّه يحظى بعطف مولانا السلطان.
فقال حبظلم بازدراء: إنَّه يخافه فيما أرى.
– احذر لسانكَ يا حبظلم!
فهتَف الشاب: أيُّ هوانٍ يا أبي؟! ألم يَكْفِنا أنَّ الشيخ المنحرف رفض يدي.
فقطَّب درويش عمران دون أن ينبِس.
١٢
«من كان سروره بغير الحق فسروره يُورِث الهموم، ومن لم يكن أُنسُه في خدمة ربه فأنسُه يُورِث الوحشة.»
بين دروس الدين يُلقيها الشيخ على علاء الدين، تفيض كأسه بنُثار الكلم المضيئة كأنَّما يُناجي بها ذاته، ولكن الفتى يتلقَّاها مبهورًا.
– كلُّ من عليها فانٍ إلا وجهَه، ومن يفرح بالفاني فسوف ينتابه الحزن عندما يزول عنه ما يُفرِحه، كل شيءٍ عبث سوى عبادته، الحزن والوحشة في العالم كله ناجم عن النظر إلى كلِّ ما سوى الله.
وتذكَّر علاء الدين أحلامه وأحاديثه وأفعاله، فَتبَدَّتْ له الدنيا غشاءً من الألغاز، وتذكَّر أباه وأمه فهيمَن عليه الأسى.
– من رُزِقَ ثلاثة أشياءٍ مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات؛ بطنٌ خالٍ على قلب قانعٍ، وفقرٌ دائمٌ مع زهدٍ حاضر، وصبرٌ كاملٌ مع ذكرٍ دائم.
وقال علاء الدين لنفسه: إنَّنا نُصلِّي للرحمن الرحيم باسم الرحمن الرحيم .. وإذا بالشيخ يسأله: فيم تفكِّر يا بُني؟
فخرج من غفوته مُوَرَّد الخدَّيْن، وقال: لن يُخرجَني من حَيْرتي إلا لطفُ الرحمن.
– عليكَ قبل أن تتلقَّى الخمر أن تُطهِّر الوعاء وتُنقِّيه من الشوائب.
فقال برجاءٍ: نِعم المرشدُ أنتَ!
– ولكن «الآخر» يُقحِم نفسه علينا وهو غائب!
فأدرك أنَّه يشير إلى فاضل صنعان، فتساءل: كيف تراه يا مولاي؟
– شابٌّ نبيلٌ عرف ما يناسبه وقنع به.
– أَهو على ضلالٍ؟
– إنَّه يجاهد الضلال على قَدْر همَّتِه!
فقال علاء الدين بسرورٍ: الآن اطمأنَّ قلبي.
– ولكن عليكَ أن تعرف نفسكَ.
– إنَّه فقير ولكنه غنيٌّ بحمل هموم البشر.
– مذهب للسيف ومذهب للحب.
فصمَت علاء الدين، فقال الشيخ: طوبى لمن تمَّ له تحويلُ القلب من الأشياء إلى رب الأشياء، ليس يخطُر الكون ببالي، وكيف يخطُر الكون ببال من عرف الكون؟
واصَلَ الشيخ بعد ذلك دَرسَه.
١٣
وذات ليلةٍ استقبلَه الشيخ في الحجرة نفسها، ولكنَّه رأى ستارةً مسدولة في ركنها الأيمن، فغَزتْه خواطر الشباب .. وقال الشيخ: اسمع يا علاء الدين.
تحرَّكتْ أوتارُ عُودٍ من وراء الستار وأنشد صوتٌ عذب:
سكن الصوت ولكن صداه واصَلَ نفاذه إلى الأعماق .. قال الشيخ: هذه زبيدة ابنتي، وإنَّها لمريدةٌ صادقةٌ.
غمغَم علاء الدين منتشيًا: أنعِمْ وأكرِمْ.
– لقد رفضتُ أن أعطيَها لابن كبير الشرطة.
ثم مواصلًا بعد صمت: ولكنِّي وهبتُها لكَ يا علاء الدين.
فقال بنبرةٍ مرتعشةٍ من التأثُّر: ما أنا إلا حلاقٌ متجوِّل.
فأنشد الشيخ:
ثم قال: من ذلَّ في نفسه رفَع الله قدْره، ومن عزَّ في نفسه أذلَّه الله في أعين عباده.
١٤
عُقِد لعلاء الدين على زبيدة .. انتقل الفتى إلى دار الشيخ الكبير .. شَهِد الوليمة البسيطة عجر وفتوحة وفاضل صنعان والمعلم سحلول وعبد القادر المهيني .. ووَفَد المجنون بلا دعوة فجلَس إلى يمين العريس .. وعقب الوليمة مضى عجر إلى داره بصحبة نفَر من خاصَّته، فدارت أرطالُ النبيذ، وراح يرقص ويغني حتى مطلع الفجر.
١٥
ولم تمضِ على ليلة الزفاف أيامٌ حتى تكدَّر صفو الحي بأحداثٍ أليمة، فزحف عليه وباء الشر بوجهه الكالح .. فُقدَتْ جوهرةٌ نادرةٌ من دار الإمارة، جَزعَتْ لفقدها حرمُ الحاكمِ الفضل بن خاقان، وتذكَّر بها الحاكم أحداث الفوضى التي تنتاب الحيَّ بين الحين والحين من اغتيالاتٍ وسرقاتٍ تنكشف عن أبشع المؤامرات وتنتهي بقتل الحاكم أو عزله .. وصبَّ الرجل غضبه على درويش عمران كبير الشرطة، ولكن الرجل نفى عن جهازه الغفلة، ووعد بالقبض على الفاعل والعثور على الجوهرة.
وأطلق كبير الشرطة مخبريه في كل مكانٍ من الحي .. وبناءً على ما تلَقَّى من معلوماتٍ اقتحم دار الشيخ عبد الله البلخي غير مبالٍ بتذمُّر الأهالي، وفتَّشها تفتيشًا دقيقًا، وإذا به يعثُر على الجوهرة في صوان علاء الدين، كما عثَر به على رسائلَ تقطع بتعاونه مع الخوارج، هكذا قُبض على علاء الدين وأُلقي به في السجن، فتقرَّرت محاكمتُه بصفةٍ عاجلة.
١٦
في تلك الأثناء شاع الحزن في قلوب الناس .. لم يحرق الحزن زبيدة وحدَها، ولا فتوحة وعجر وحدهما، ولكن القلوب تألَّمَت لمصير الفتى الجميل، وأصرَّت على تبرئته مما رُميَ به، وأشارت إلى كبير الشرطة وابنه حبظلم بظاظا باعتبارهما المدبِّرَيْن للجريمة .. وزاد من شك الناس ظهور نعمةٍ مفاجئة على المعين بن ساوي فآمنوا بأنَّ المدبِّريْن استعانا بخبرته السابقة كرئيسٍ للشرطة في تنفيذ ما بَيَّتَا .. والتمس عجر الرأفة عند الفضل بن خاقان وهيكل الزعفراني ولكنه وجد منهما الزجر والرفض .. وحُثَّ الشيخُ عبد الله البلخي على السعي مستعينًا بمهابته، ولكن لم تَنِدَّ عن الشيخ كلمةٌ أو حركة .. وتلاحقتِ الإجراءات بسرعةٍ مذهلةٍ فحُوكِم علاء الدين وقُضِيَ عليه بالنطع.
١٧
وفي صباح يومٍ باردٍ من أيام الخريف، سيق علاءُ الدين إلى النطْعِ في حراسةٍ مشددةٍ، وسط جمهورٍ غفيرٍ من أهل الحيِّ، جمع بين الرسميين والكادحين .. لم يصدِّقْ علاء الدين ما يحدُثُ .. وكان يصيحُ: إنِّي بريءٌ والله شهيدٌ.
زاغ بصره بين الوجوه المحملقة، المشفقة والشامتة، ورفع وجهه إلى السماء المتوارية وراء السحب مُسلمًا أمره إلى خالقه .. تَناهَى إليه صُراخ أمه وزوجته فارتجف قلبه .. تذكَّر رغم ذهوله أنَّه كان يأمل أن يخرج من حَيْرته إلى سيف الجهاد أو الحب الإلهي، ولم يخطُر بباله قطُّ سيف الجلاد .. وتطلَّع كثيرونَ إلى معجزةٍ تقع في اللحظة الأخيرة كما حدث لعجر وغيره، ولكن السيف ارتفع أمام أعينهم في جَوٍّ قاتم ثم هوى مُبدِّدًا الآمال، فانفصل الرأس النبيل الجميل عن الجسد.
١٨
في دار الشيخ تأوه عجر هاتفًا: ابني بريءٌ.
وولولَت زبيدة: بريءٌ طاهر وحسبي الله.
وتربَّع الشيخ صامتًا وهادئًا .. لم يفعل شيئُا وحتى الحزن لم يُعلِنْه .. وقالت له ابنتُه: إنِّي معذَّبةٌ يا أبي.
وقال له عجر بعنف: لم تحرك ساكنًا كأنَّ الأمرَ لا يعنيكَ.
نظر إلى ابنته دون مبالاةٍ بعجر، وقال: الصبر يا زبيدة.
ثم استطرد بعد صمتٍ: إليكِ حكايةَ شيخٍ جليلٍ قال: «سقطتُ في حفرة وبعد مُضِيِّ ثلاثةِ أيامٍ مرَّت عليَّ قافلة من المسافرين فقلتُ أناديهم، ثم انثنيتُ عن عزمتي قائلًا: لا، إنَّه ليس من الصالح أن أطلبَ المساعدة إلا من الله تعالى، ولما اقتربوا من الحفرة وجدوها في وسط الطريق فقالوا لنسد هذه الحفرة حتى لا يقعَ فيها أحدٌ، فقلقْتُ قلقًا شديدًا حتى فقدت كلَّ رجاءٍ، فبعَد أن سدُّوها وسافروا دعوتُ الله تعالى وسلمتُ نفسي للموت وتركتُ كل رجاء في بني الإنسان، فلما جنَّ الليل سمعتُ حركة على ظاهر الحفرة فأنصتُّ لها فانفتح فم الحفرة، ورأيتُ حيوانًا كبيرًا كالتنين أرسل إليَّ ذيله، فعلمتُ أنَّ الله قد أرسله لنجاتي، فأمسكتُ بذيله وسحبَني، فناداني صوت من السماء: «إنَّا قد نجَّيناكَ من الموت بالموت».