معروف الإسكافي
١
لا يفوق مرحه الظاهر إلا أشجانه الباطنة .. رزقه محدود وامرأته فردوس العرة نهِمة جشِعة شرِسة مليئة بالقوة والعنف .. حياته جحيم بين الكَدح والزوجية .. لا يمر يوم دون أن تنهال عليه ضربًا وسبًّا وهو يرتعد بين يدَيها خوفًا وذلًّا .. يتمنى شجاعةً يطلِّقها بها، يحلُم بموتها، يودُّ الهرب، ولكن كيف وإلى أين .. قال إنَّه أسيرٌ كما كان فاضل صنعان أسيرًا لشيطان .. ولعله لا خلاص له — مثله — إلا بالموت.
وذات ليلةٍ التهم من المنزول فوق طاقته، ومضى إلى قهوة الأمراء والدنيا لا تَسعُه من السلطنة .. ونظر في وجوه أصحابه، وقال بصوتٍ سمعه جميع الروَّاد: أقول لكم سرًّا لا يصح أن يخفى عنكم.
همَّ عجر الحلاق أن يهزأ به ولكنه تذكَّر حزنه فعدَل عنه.
أما معروف فقال: أقول لكم الحق إنِّي عثَرتُ على خاتم سليمان!
فهتَف به شملول الأحدب: تأدَّب أمام أسيادك يا تيس.
وسأله إبراهيم السقَّاء: ويبدو أنكَ انتفعتَ به، أين القصور، أين الخدم، أين الجاه والسيادة؟!
فقال: لولا تقوى الله لفَعلتُ ما لا يخطر ببال بشر.
فقال له رجب الحمَّال: أعطنا آيةً واحدة لنُصدِّقكَ.
– ما أيسَرَ ذلك عليَّ!
– عظيم .. ارتفِع نحو السماء ثم اهبِط سالمًا.
فقال معروف في مناجاة: يا خاتم سليمان ارفَعْني إلى السماء.
عند ذاك صاح به سليمان الزيني: كُفَّ عن هَذَركَ عليكَ.
ولكنه انقطع فجأةً عن الكلام .. معروف نفسه اجتاحه رعبٌ غريب .. شعر بقوة تقتلعه من مجلسه، ومضى يعلو ببطء وثبات، حتى وقف جميع الروَّاد فزعين ذهلين .. واتجه نحو باب المقهى وخرج منه وهو يصرخ «أغيثوني»، ثم ارتفع حتى اختفى في ظلمة ليل الشتاء .. تجمهر الروَّاد في الطريق أمام المقهى، تصايَح الناس بالواقعة، انتشر الخبر كأنَّه أشعة الشمس في نهار الصيف .. وإذا به يهبط رويدًا رويدًا حتى يتجلَّى شبَحُه في الظلمة ويرجع إلى مجلسه الأول، ولكن على حالٍ لا تُوصَف من الإعياء والفزَع .. وأحدَق به الجميع من الخاصة والعامة وانهالت عليه الأسئلة: أين وجَدتَ الخاتم؟
– متى وجَدتَه؟
– ماذا أنتَ فاعل به؟
– صف لنا العِفريت.
– متى تُحقِّق أمانيكَ؟
وقال له عجر: لا تنس أصدقاءكَ.
وصاح به إبراهيم السقَّاء: إخوانكَ الفقراء.
وقال له رجب الحمَّال: اجعلها كما ينبغي لها أن تكون.
وقال سليمان الزيني: لا تنس الله؛ فهو صاحب المُلك.
لم يفقه مما قيل شيئًا .. ولم يَدرِ كيف وقع ما وقع .. أيُّ سرٍّ امتلكه؟ أيُّ معجزةٍ تحقَّقتْ على يدَيه؟ هل يعترف لهم بالحقيقة؟ حذرٌ فطري أسكَته .. إنَّه يريد أن يخلوَ إلى نفسه .. أن يستردَّ أنفاسه، أن يتأمَّل ويتأمَّل .. ونهَض من مجلسه دون أن ينبِس، فأكثر من صوتٍ هتف به: لا تتركنا حيارى، بلَّ رِيقَنا بكلمةٍ طيبة.
ولكنه غادر المقهى دون أن يُلقيَ نظرةً على أحد.
٢
مضى نحو داره في مظاهرة من الرجال والنساء اكتظَّ بهم الطريق .. تنافَسوا في الاقتراب منه فسقَط منهم قومٌ وداس بعضهم البعض .. وصاح بهم: اذهبوا وإلا أرسلتُكُم إلى الآخرة.
وفي أقلَّ من دقيقة تفرَّقوا في فزعٍ واضطرابٍ حتى تلاشت أصواتهم، فلم يجد أمامه إلا فردوس العرة زوجته تنتظره أمام الدار وبيدها مصباح وهي تقول: يُعطي الملكَ لمن يشاء.
لأول مرة منذ دهرٍ تبتسم في وجهه، فحدَجها بنظرة غليظةٍ ولطمَها لطمةً فرْقَعتْ في سكون الليل وصاح بها: أنتِ طالق، فاذهبي إلى الجحيم.
صرخَت فردوس: تستعبدُني بفقركَ، وتطردني حال إقبال الحظ؟!
– إن لم تذهبي في الحال حملَكِ العفريت إلى وادي الجن.
فصَرخَت المرأة من الفزَع، وهرولَت لا تلوي على شيء .. ابتسم أيضًا أول ابتسامةٍ صافية منذ دهرٍ طويلٍ، ودخل مأواه المُكوَّن من حجرةٍ ودهليز.
٣
ما معنى ذلك يا معروف؟ أهو حُلمٌ أم حقيقة؟ هل حلَّ بك سِرٌّ حقًّا؟ ونظر فيما حوله، في الحجرة شبه العارية وتمتَم بحذَر: يا خاتم سليمان ارفعني ذراعًا واحدة فوق الأرض!
انتظر في لهفةٍ وإشفاق، ولكن لم يحدُث شيءٌ .. انقبَض قلبُه وغاص في صدره غريقًا في خيبةٍ مُرَّة .. أَلم أُحلِّقْ في الجو؟ .. ألا يشهدُ على ذلك أهل الحي؟ .. ألم تنهزم العرة لأول مرة؟ .. وقال من قلبٍ جريح: يا خاتم سليمان، ايتني بصينية فريكٍ بالحمام!
لم يَرَ إلا خنفساءَ تزحف فوق طرف الحصيرة المُتهرِّئة .. نظَر إلى الخنفساء طويلًا ثم أجهَش في البكاء.
٤
طمَر خيبتَه المُرَّة في أعماقه .. جعلها سرَّه الدفين، وأقام سدًّا بينه وبين لسانه .. قال: ليكن من الأمر ما تجري به مشيئة الله .. ولكن أَليسَ عليه أن يذهب إلى دكانه ليُصلح الأحذية والمراكيب والصنادل؟ وهل يهضم الناسُ سلوكه هو المالك لخاتم سليمان؟ وإن لم يفعل فهل يَهَبُ ذاته التعيسة للموتِ جوعًا؟ غير أنه صادف خليل فارس كبير الشرطة عند باب عطفته وكأنَّما كان في انتظاره .. تلقَّاه بابتسامةٍ متودِّدةٍ غيرِ معهودة، فأدرك بذكائه أنَّ القوم ينظرون إليه بوصفه مالكَ خاتمِ سليمان .. خفَق قلبه بأملٍ جديد، وصمَّم على تمثيل دوره بمهارةٍ تُناسِبه حتى يقضيَ الله أمره .. قال له الرجل برقَّة: صبَّحكَ الله بالسعادة يا معروف.
فقال بتحفُّظٍ دُهشَ له هو نفسه: وصبَّحكَ بمثلها يا كبير الشرطة.
تكلَّم بثقة من يملكُ القوة التي لا يطمحُ إليها بشَر.
قال الرجل: حاكمُ الحي يودُّ مقابلتَك.
فقال دون مبالاة: على الرحب والسعة، أين؟
– في المكان الذي يروقُك!
يا أولادَ الخنفساء يا جُبناء .. قال: في داره كما يقضي بذلك الأدب.
فقال بيقين: ستَلقى العناية والأمان.
فقال ضاحكًا في استهانة: لا خوف عليَّ من أي قوةٍ في الأرض!
فقال خليل فارس وهو يُداري امتعاضًا، وربما خوفه: سنكونُ في انتظاركَ في الضحى.
٥
رأى من اهتمام الناس ما يُنذِر بتجمهرٍ جديدٍ فرجع إلى مسكنه الحقير .. ورأى عجر الحلاق فأخبره بأنَّه أصبح أحدوثة المدينةِ لا الحيِّ وحده .. وأن مُعجزتَه هزَّت أركان القصر السلطاني .. ولمَّا علم بالمقابلة الوشيكة بينه وبين الحاكم، قال عجر: لا تبالِ بأحدٍ فإنَّك أقوى رجل في الدنيا، والناس الآن بين اثنَين؛ مَن يخشى قوَّتكَ حرصًا على جبروته ومَن يرجوها رحمةً بضعفه.
فقال مداريًا حزنه الخفيَّ بابتسامة: تذكَّر يا عجر أنَّني من عباد الله المطيعين.
فدعا له بالفوز والنجاح.
٦
وجد في انتظاره في بهو الاستقبال عباس الخليجي الحاكم، وسامي شكري كاتم السر، وخليل فارس كبير الشرطة، والمفتي، ونفرًا من الأعيان .. تأمَّلوا رثاثة ملابسه بدهشة، ولكن الحاكم دعاه إلى الجلوس إلى جانبه على سريره مُرحِّبًا به غاية الترحيب، فجلس بثقة، هدفًا للنظرات المُستطلِعة المُحترِقة المذعورة .. قال الحاكم: علمتُ أنَّكَ ملكتَ خاتم سليمان.
فقال بثقةٍ ونبرةٍ لم تخلُ من نذير: إنِّي على استعدادٍ لإقناع من في قلبه شكٌّ.
فقال الحاكم: بل أردتُ أن أعرف — في نطاق مسئوليتي — كيف مَلكتَه؟
– لم يُسمحْ لي بإفشاء السِّر.
– كما ترى، إنَّ تشريفكَ داري يقطع بثقتكَ بي، وهو ما أحمد الله عليه.
فقال بدهاء: الحقُّ أنَّه لا شأنَ لذلك بثقتي بكَ؛ فلا أنتَ ولا غيركَ بمستطيعٍ أن يمسَّني بسوءٍ.
فأحنى الحاكم رأسه موافقًا ومُدارِيًا تأثُّره في آنٍ، وقال: رأيتُ أنا وإخواني أنَّ من واجبنا أن نتبادل الرأي معكَ، الله يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ولكننا مطالبونَ بعبادته في جميع الأحوال.
فقال بجرأةٍ: ما أجدرَ أن تُوجِّه خطابكَ لنفسكَ ولإخوانكَ!
فامتُقع وجه الحاكم، وهو يقول: حقًّا، لقد تولَّينا السلطة في أعقاب تجاربَ مُرَّة، ولكننا ملتزمون بالشريعة منذ ولينا.
فقال بنفس الجرأة: العِبرة بالخواتيم.
– لن يرى منا أحدٌ إلا ما يسُر، ولتكُن لنا قدوة في مولانا السلطان شهريار.
– غير منكورٍ أنَّه فتح صفحةً جديدة، وإن لم يبلُغ الكمال المنشود بعدُ.
– الكمال لله وحده.
ونظَر الحاكم نحو المفتي، فقال المفتي: لي كلمةٌ يا معروف، تقبَّلْها من رجل لا يخشى إلا الله وحده، الله يمتحن عباده في السرَّاء والضرَّاء، وهو الأقوى دائمًا وأبدًا، وهو سبحانه يُحاكم القوي من خلال قوَّتِه كما يُحاكِم الضعيفَ من خلال ضعفه .. وقد ملَكَ قبلكَ آحادٌ خاتم سليمان فكان وبالًا عليهم، فلتكُن في امتلاككَ له آية للمؤمنين وموعظة للمشركين.
ابتسَم معروف منتفخًا بقوَّة من ساد الموقف، وقال: اسمعوا أيها الرجالُ الكبار، إنَّه لمن يُمْنِ الطالع أنَّ خاتم سليمانَ قدِّر أن يكون من نصيب رجلٍ مؤمن يذكُر الله بكرةً وعشيًّا، إنَّه قوةٌ لا قِبل لقُوَّتكم بها ولكني أدَّخرها للضرورة، كان بوسعي أن آمر الخاتم بتشييد القصور وتجييش الجيوش والاستيلاء على السلطنة، ولكنني قرَّرتُ أن أتبع طريقًا آخر.
تنفَّس الحاضرون بارتياحٍ لأول مرة، فانهالَ عليه الثناء من كل جانب .. عند ذاك قال وقلبُه يخفق: ولكن لا يجوزُ أن أُهمِل نعمةً أتاحها الله لي.
فتطلعوا إليه باهتمامٍ فقال: يلزمني في الحال ألفُ دينارٍ لأُصلِح به شأني.
فقال الحاكم بارتياح: سأُراجع حِسابَ ما تحتَ يديَّ من مال، فإن لم يكفِ طلبتُ معونةً من مولاي السلطان.
٧
ونال معروف ما تمنَّى من مالٍ وأغدَق عليه الأعيانُ الهدايا بغير حساب .. ابتاع قصرًا وكلَّف المعلم سحلول بتأثيثه فخلق له منه متحفًا .. وتزوَّج من حسنية صنعان أخت فاضل .. وقرَّب إليه صحبه عجر الحلاق، وإبراهيم السقَّاء، ورجب الحمَّال، وأمطر الفقراء بجوده، وحمل الحاكم على توفير أرزاقهم ورعايتهم واحترامهم، فحلَّت بشاشةُ الأنس في وجوههم محل تجاعيد الشقاء، وأحبُّوا الحياة كما يُحبُّون الجنة.
٨
وذات يومٍ دُعِيَ إلى مقابلة السلطان شهريار، فمضى إليه وهو يُبسمل ويُحوقل ويتمنَّى السلامة .. استقبلَه السلطان في مثواه الشتوي والمعروف ببهو المرجان، تفرَّس فيه بهدوءٍ وقال: أهلا بك يا معروف، لقد سمعتُ بأذني في جولاتي الليلية ثناءَ العباد عليكَ فشاقَني ذلك إلى رؤيتك.
فقال معروف وهو يُغالِب خفقان قلبه: نعمةُ هذا اللقاء عندي أغلى من خاتم سليمان نفسه يا مولاي.
– شعورٌ كريم لرجلٍ كريم.
فحنَى معروف رأسه، وهو طيلة الوقت يتساءل عما يفعل لو طالبَه السلطان بمعجزة .. أَتنصرفُ يا معروف من القصر إلى النطع؟ .. قال السلطان متسائلًا: كيف عثَرتَ على الخاتم يا معروف؟
فأجاب وقلبه ينقبض: تعهَّدْتُ بحفظ السرِّ يا مولاي.
– لكَ العذرُ يا معروف، ولكن ألا أستطيع أن أراه من بعيدٍ من دون أن أمسَّه؟
– ولا هذا أيضا يا مولاي، ما أتعسَني لعجزي عن تحقيق رغبتكَ!
– لا عليكَ من ذلك.
– شكرًا لرحمتكَ يا مولاي.
فقال بعد تفكير: إنِّي أعجب لشأنكَ؛ فلو شئتَ الجلوس على عرشي ما مَنعتْكَ قوة في الأرض!
فهتَف معروف مستنكرًا: معاذ الله يا مولاي، ما أنا إلا عبدٌ مؤمن، لا تُغرِيه قوة بالتعرُّض لمشيئة الله.
– إنَّكَ مؤمنٌ حقًّا، والخاتم في يد المؤمن عبادة!
– الحمد لله رب العالمين.
فسأل السلطان باهتمام: هل حظيتَ بالسعادة يا معروف؟
– سعادة بلا حدود يا مولاي.
– ألا يُفسِد الماضي عليكَ سعادتكَ أحيانًا؟
– ما مضى سلسلةٌ من تعاساتٍ تلقَّيتُها من الآخرين، ولكني لم أرتكب ما أندم عليه!
– هل تنعَم بالحب يا معروف؟
– الحمد لله، لي زوجة تهَب السعادةَ مع أنفاسها.
– جميع ذلك بفضل الخاتم؟
– بفضل الله يا مولاي!
فصمَت السلطان مليًّا، ثم سأله: أَتستطيعُ أن تهبَ السعادة للآخرين؟
– لا حدود لقوة الخاتم، ولكنه لا يستطيع اقتحام القلوب.
تجلَّى في أعماق عينَي شهريار فتورٌ يُوحي بخيبة الرجاء، ولكنه ابتسَم قائلًا: دعني أراكَ وأنتَ ترتفع في الفراغ حتى تمسَّ عمامتُكَ نقوش قبَّة البهو!
انقضَّ الطلب عليه كقمَّة جبل قذَف بها زلزال، تطايَرتْ آماله هباءً وأيقن بالهلاك .. قال بحرارة: لا يليق في حضرة السلطان إلا الأدب.
– إنما تطير بناءً على طلبي.
– مولاي، إنِّي عبدُكَ معروف الإسكافي.
– أَتدين لي بالطاعة يا معروف؟
أجاب من حَلْقٍ جافٍّ: الله شهيد على ذلك.
– إني آمركَ يا معروف!
نهَض من مجلسه فتربَّع في وسط البهو .. ناجى ربه في سره: «ربي لتكُن مشيئتك .. لا تدع كل شيء يتلاشى كحُلم» .. ومن قلبٍ مكلومٍ يائسٍ همَس: ارتفِعْ يا جسدي حتى تمسَّ عمامتي السقف.
وأغمض عينَيه مستسلمًا لمصيره الأسود. ولمَّا لم يحدث شيء هتَف من قلبٍ معذَّب: «الرحمة يا مولاي!» .. وقبل أن ينبِس بكلمةٍ أخرى دبَّت في قلبه حيويةٌ ملهمة فخَفَّ وزنه وتلاشى خوفه .. وإذا بالقوة المجهولة ترتفع به في هدوءٍ ووقارٍ وهو مُتربَّع على لا شيء، والسلطان يتابعه مذهولًا متخليًا عن رصانته، مغلوبًا على أمره .. حتى مسَّت عمامتُه القبَّة المرجانية، ثم مضى يهبط رويدًا حتى استقَر في مجلسه .. هتف السلطان: ما أتفَه السلطَنة! .. ما أتفه الغرور!
ولم يستطع أن يعقِّبَ بكلمةٍ؛ فقد فاق ذهولُه ذهولَ السلطان نفسه!
٩
عجز عجزًا تامَّا عن إدراكِ ما يقَع له .. وقد حاول أن يستغلَّ قوَّتَه الخفيَّة في داره فلم تستجبْ له، ولكنَّه حمد الله على النجاة .. ليكن من أمر قوَّته ما يكون .. ولتَختفِ ما شاءت ما دامت تُبادِره بالنجاة في المواقف الحاسمة .. وطردَ وساوسَه وتوكَّل على الله .. وكان جالسًا في حديقة داره يتشمَّس عندما طلب مقابلتَه رجلٌ غريب .. حَسِبه ذا حاجةٍ فأمر بإحضاره .. قَدِم عليه يرفُل في عباءةٍ فارسيةٍ فاخرة .. طويل العمامة، مهذَّب اللحية، مترفِّع النظر، فلم يُداخِله شكٌّ في عُلوِّ منزلته .. أجلَسه بتَرحابٍ متسائلًا: مَن الضيفُ الكريم؟
فأجاب باقتضابٍ وبنبرةٍ مثل طرقة المطرقة فوق معدنٍ صلب: أنا صاحبُ هذا القصر!
فأُخذ معروف وقال بحدَّةٍ: أي هذَيان؟!
فأعاد الرجل قوله بقوةٍ أشدَّ: إنِّي صاحب هذا القصر.
فصاح به: إنِّي صاحبه دون شريك.
تحدَّاه بنظرةٍ وقحة، وقال ما أنتَ إلا دجالٌ محتال!
فصاح معروف غاضبًا: مجنونٌ وقِح!
– لقد خدعتَ الجميع، حتى السلطانَ الأحمق، ولكنني أعرفُكَ أكثر مما تعرف نفسك.
فقال منذرًا: في وسعي أن أُحوِّلكَ إلى هشيمٍ تذروه الرياح!
فقال ساخرًا: إنَّك لا تُحسِن إلا رتقَ النعال أو إصلاحها، أتحدَّاكَ أن تصنع بي ما يضُر!
غاص قلبه متراجعًا ساحبًا معه ثقتَه بنفسه، ولكنه تساءل بصوتٍ خانته نبرته رغم تماسُكِه: لعلك لم تسمع عن المعجزة في مقهى الأمراء؟
– لم أسمع عنها؛ لأنني أنا الذي صنعتُها، فلا تُحاول خداعي، وأنا الذي أنقذتُكَ مِن العجز في حضرة السلطان.
توسَّل في سرِّه إلى خاتم سليمانَ أن يَمحَق الرجلَ مَحقًا .. ولمَّا لم يحدُث شيءٌ انثَنى جِذْعُه تحت ثقلِ اليأس فتساءل في خوفٍ: من أنتَ؟
– إني سيدُكَ ووليُّ نعمتكَ.
تأوَّه ولاذ بالصمت، فقال الآخر: بيدِكَ أن تحفظ النعمة إذا شئتَ!
فسأله بصوتٍ لا يكاد يُسمع: ماذا تريد؟
فقال بهدوء: اقتُل عبد الله البلخي والمجنون!
فاجتاحه الرعب وقال بانكسار: إنِّي أعجزُ من أن أقتلَ نملة!
– أدبِّر لك الوسيلة!
– لِمَ تستعين بي وأنتَ القويُّ؟
– لا شأن لكَ بذلك.
تذكَّر الشَّرَك الذي سقط فيه فاضل .. تذكَّر مآسي صنعان الجمالي وجمصة البلطي .. قال بضراعةٍ: أستحلفُكَ بالله أن تُعفيَني من مطالبكَ.
فقال الآخر ساخرًا: ليس أسهل عليَّ من أن أُقنعَ الحاكمَ باحتيالكَ، إنَّهم لا يأمنون جانبكَ، ويتمنَّون هلاككَ ليتحرَّروا من استعبادكَ المهذَّب لهم، ستُدعى سريعًا لصنع معجزة أمامهم، وإذا أخفقتَ — ولا بُدَّ أن تُخفِق — انقضُّوا عليك كالنمور.
تجلَّت في عينَيه نظرةٌ يائسةٌ حزينةٌ عمياء، ولكن الآخر لم يرحَمْه فقال: إنِّي منتظر رأيكَ.
فهتف بحدَّة: اغرب عن وجهي، لا أستطيع تركيز فكري في حضوركَ.
فقام قائلًا: سأغيب عنك ساعة، وإذا لم تدعُني جاء كبير الشرطة بديلًا عني!
قال ذلك وذهب.
١٠
تركَه في جحيمٍ مُسْتَعِر .. هو يقتل عبد الله البلخي والمجنون؟! أجل، إنَّه حريص على النعمة ولكنه طيِّب وضعيف ومؤمن .. وتجاذَبتْه التخيُّلات، ولكنه كان يتشبَّث دائمًا بالأرض عند حافَة الهاوية .. وفي ظلمات العذاب أشرق عليه خاطرٌ سعيد .. لِم لا يهرب بحسنية والمال؟ واندفع نحو الدارِ فأمر زوجتَه بارتداء عباءتها، وعبَّأ نقوده في بقجة .. سألَتْه زوجته عما يعنيه ذلك، فأخبرها بأنَّها ستعرف السر عندما يصلان إلى بر الأمان .. وامتطيا بغلتَين وانطلقا وفي نيته أن يذهبا إلى مرفأ النهر .. لكنَّه رأى وهو يقترب من نهاية الشارع خليل فارس كبير الشرطة قادمًا على رأس قوةٍ من الجند.
١١
انفجَرتِ الفضيحة فدوَّت طبولها في أركان المدينة .. ومشى الرواة باعترافات معروف الإسكافي في كل مكانٍ .. اطمأنت قلوبٌ وتدحرجَت قلوبٌ إلى الهاوية .. عُرف أنَّ النطع سيستقبل معروف عمَّا قليلٍ وأنَّه سيلحق بفاضل صنعان، وعلاء الدين .. خرج الفقراء والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير .. اندفعوا وراء مشاعرهم القلِقة الدفينة .. وفي تجمُّعٍ لا مثيل له .. وجدوا أنفسهم جسمًا عملاقًا لا حدود له، يجأر بالاحتجاج والخوف من المستقبل .. سيتلاشى معروف فيتلاشى الرزق وتَكفَهِر لهم الوجوه من جديد، تُبودلَت أنَّاتُ الشكوى في هيئة همساتٍ مبحوحة، ثم غلظَت واحتدمَت بالمرارة، ثم تلاطمَت كالصخور، وبسببٍ من القوة المتجسِّدة المخلوقة من عدم تأجُّج الغضب .. شعروا بأنَّهم سدٌّ منيعٌ بتكتُّلهِم، وأنَّهم طوفان إذا اندفع: معروف بريء.
– معروف رحيم.
– معروف لن يموت.
– الويل لمن يمسُّه بسوء.
وما إن نادى صوتٌ بالذهاب إلى دار الحاكم حتى اندفعَت الجموع كأنَّها سيل يَنْصَبُّ من فوق قمة جبلٍ تبعَث في الجوِّ هديرًا .. وعند أول شارع دار الإمارة اعترضهم الجنود المُدجَّجون بالسلاح .. سرعان ما نَشبَت معركة بين السهام والزلَط، تواصلَت في عنفٍ تحت غيمٍ يُنذِر بالمطر .. وقُبيل الغروب دوَّت طبولٌ وصاح منادٍ: كفُّوا عن الشغب .. مولانا السلطان قادم بنفسه.
تحاجَز الفريقان وساد الصمْت .. جاء الموكب السلطاني في قوةٍ كبيرة من الفرسان، ودخل شهريار دار الإمارة محوطًا برجال دولته .. استغرق التحقيق طيلة الليل .. وخرج المنادي قُبيل الفجر ورذاذٌ يتساقط في نعومةٍ يغسل الوجوه المُشتعِلة بالقلَق .. توقَّع العباد توقُّعاتٍ كثيرة ولكن لم يبلغ بهم الخيال ما حصل .. صاح المنادي: جرت مشيئة السلطان بنقل الحاكم إلى رياسة حيٍّ آخر، على أن يُقلَّدَ ولايةَ الحيِّ معروف الإسكافي!
تعالت الهتافات مُدَوِّيَةً، وثَملَ العباد بالفوز المبين.