الشيخ
يُقيم الشيخ عبد الله البلخي في دارٍ بسيطة بالحي القديم .. تنطبع نظرتُه الحالمة في قلوب الكثيرين من تلاميذه القُدَامى والمُحدَثين، وتنطبع بعمقٍ أبديٍّ في قلوب المريدين .. العبادة الكاملة عنده مُقدِّمةٌ ليس إلا؛ فهو شيخ الطريق، وقد بلغ منه مقام الحُبِّ والرضا .. عندما غادر خَلْوتَه إلى حجرة الاستقبال أقبلَتْ عليه زُبيْدة ابنتُه المراهقةُ والوحيدة، وقالت بسرورٍ: المدينة فرحانة يا أبي.
فتساءل دون مبالاة: أَلَم يصلْ بعدُ الطبيبُ عبد القادر المهيني؟
– لعلَّه في الطريق يا أبي، لكنَّ المدينةَ فرحانة؛ لأنَّ السلطان رَضِي بشهرزاد زوجةً له، وعدَل عن سفكِ الدماء.
لا شيءَ يُخرجُه من هدوئه .. الرضا في قلبه لا ينقصُ ولا يزيد .. وزُبيْدة ابنةٌ وتلميذةٌ ولكنَّها ما زالت في أوَّل الطريق .. وسمعَتْ على الباب طَرقًا فمضَتْ قائلة: جاء صديقُكَ لزيارته المعتادة.
دخل الطبيب عبد القادر المهيني، فتعانقا، ثم اقتعَد شلْتةً إلى جانب صديقه .. ودارت المناجاة كالمعتاد على ضوء مصباحٍ في كَوَّة .. قال عبد القادر: عرفتَ — لا شكَّ — الخبرَ السعيد.
فقال باسمًا: عرفْتُ ما يهمُّني معرفتُه.
فقال الطبيب: الحناجر تدعو لشهرزاد بَيْنا أنكَّ أنتَ صاحبُ الفضل الأوَّل.
فقال بعتاب: الفضل للمحبوب وحده.
– إني مؤمنٌ أيضًا، ولكنِّي أتابِعُ المقدماتِ والنتائج، لولا أنَّها تتلمذَتْ على يدَيك صَبيَّةً ما كانت شهرزاد .. لولا كلماتُكَ ما وجدَتْ من الحكايات ما تصْرِفُ به السلطانَ عن سفكِ الدماء.
قال الشيخ: يا صديقي، لا عيبَ فيكَ إلا أنَّكَ تُغالي في تسليمكَ للعقل.
– إنَّه زينةُ الإنسان.
– من العقل أن نعرفَ حدودَ العقل.
فقال عبد القادر: من المؤمنينَ من يَرَوْنَ أنَّه بلا حدود.
– لقد فشِلْتُ في جذب كثيرين إلى الطريق، أنتَ على رأسهم.
– الناس مساكينُ يا مولاي، في حاجةٍ إلى من يتعاملُ معهم ويُبصِّرهم بحياتهم.
فقال الشيخ بثقة: رُبَّ روحٍ طاهرة تُنقِذ أمَّةً كاملة.
فتساءَل الطبيبُ بامتعاض: علي السلولي حاكمُ حَيِّنا، كيف تُنقِذ الحَيَّ من فساده؟!
فقال بأسًى: لكنَّ المجتهدينَ مراتبُ.
فقال بإصرار: إني طبيبٌ، وما يُصلِحُ الدنيا هو ما يهمُّني.
فرَبتَ على يده برقَّة، فابتسم الطبيب وقال: ولكنَّكَ الخيرُ والبركة.
فقال الشيخ: أحمدُ الله فلا السرورُ يَستخِفُّني، ولا الحزنُ يلمسُني.
– أما أنا فحزينٌ يا صديقي العزيز .. كلما تذكَّرتُ الأتقياءَ الذين استُشهِدوا لقول الحق، واحتجاجًا على سفك الدماء ونهب الأموال ازدَدتُ حزنًا!
قال الشيخ: شَدَّ ما تأسِرُنا الأشياءُ!
فقال عبد القادر في رثاءٍ: استُشهِد الشرفاء الأتقياء، أسفي عليكِ يا مدينتي التي لا يتسلَّطُ عليكِ اليوم إلا المنافقون، لِمَ يا مولاي لا يبقى في المزاود إلا شَرُّ البقر؟!
– ما أكثرَ عُشَّاقَ الأشياءِ الخسيسة!
وترامت إليهما من أطراف الحي أصواتُ زمرٍ وطبل، فأدركا أنَّ الأهاليَ يحتفلونَ بالخبر السعيد .. عند ذاك قرَّر الطبيب أن يذهبَ إلى مقهى الأمراء.