مقهى الأمراء
يتوسَّطُ المقهى الجانبَ الأيمنَ من الشارع التِّجاري الكبير .. وهو مُربَّعُ الأركان واسعُ الساحة، يفتحُ مدخلُه على الطريق العام، وتُطِلُّ نوافذُه على حَوارٍ جانبية .. تقوم في جوانبه الأرائكُ للسادة وتستقرُّ في دائرة من وسطه الشلت للعامَّة .. يُقدِّمُ مشروباتٍ شَتَّى ساخنةً وباردةً تبَعًا للفصول، وبه أيضًا أجودُ صنوفِ المنزولِ والحشيش .. تشهدُ لياليهِ كثيرينَ من السادة أمثالِ صنعان الجمالي وابنِه فاضل، وحمدان طنيشة وكرم الأصيلِ وسحلول وإبراهيم العطارِ وابنِه حسن، وجليل البزَّاز ونور الدين وشملول الأحدب .. كما تشهَد كثيرين من العامَّة أمثال رجب الحمَّال وزميله السندباد وعجر الحلاق وابنِه علاء الدين وإبراهيم السقَّاءِ ومعروف الإسكافيِّ .. غلَب المرح على الجميع في تلك الليلةِ السعيدةِ، وسرعانَ ما انضمَّ الطبيبُ عبدُ القادر المهيني إلى مجلسٍ يضُمُّ إبراهيم العطار وكرم الأصيل صاحبَ الملايين وسحلول تاجرَ المزاداتِ والتُّحف .. أفاقوا ليلتَهم من خوفٍ متسلِّط، واطمأنَّ كلُّ أبٍ لعذراءَ جميلة، فوعدَه النومُ بأحلامٍ تخلو من الأشباح المخيفة .. وتردَّدتْ أصواتٌ.
– الفاتحة على أرواح الضحايا …
– من العذارى والرجال الأتقياء.
– وداعًا للدموع.
– الحمد والشكر لله رب العالمين.
– وطول العمر لدرَّةِ النساء شهرزاد.
– شكرًا للحكايات الجميلة.
– ما هي إلا رحمةُ الله حلَّت.
تواصَل المرحُ والحديثُ حتى علا صوتُ رجب الحمَّال متسائلًا: أَمجنونٌ أنتَ يا سندباد؟
فسأل عجر الشغوفُ بدسِّ أنفِه في كلِّ شيء: ماذا جنَّنَهُ في هذه الليلةِ السعيدة؟
– يبدو أنه كَرِه عمله وضاق بالمدينة، لا يريد أن يكون حمَّالًا بعدَ اليوم.
– أيطمعُ في أن يتولَّى إمارةَ الحي؟
– ذهب إلى رُبَّان سفينةٍ وما زال به حتى قَبِلَه خادمًا بها!
فقال إبراهيم السقَّاء: مجنونٌ حقًّا من يُعرِض عن رزقٍ مضمون على البَرِّ ليجريَ وراءَ رزقٍ مجهول فوق الماء.
فقال معروف الإسكافيُّ: الماء الذي يستمدُّ غذاءَهُ من الجثث منذ قديمِ الزمان.
فقال السندباد بتحدٍّ: ضجرْتُ من الأزِقة والحواري، ضجرْتُ من حمل الأثاث والنقل، لا أملَ في مشهدٍ جديد، هناك حياةٌ أخرى؛ يتصل النهر بالبحر، يتوغَّل البحر في المجهول، يتمخَّض المجهول عن جزرٍ وجبالٍ وأحياءٍ وملائكةٍ وشياطين، ثمَّة نداءٌ عجيبٌ لا يُقاوَم، قلتُ لنفسي جرِّب حظَّك يا سندباد وألقِ بذاتكَ في أحضان الغيب.
فقال نور الدين بيَّاعُ العطور: الحركة بركة.
فقال السندباد: تحيةٌ جميلةٌ من زميل الصِّبا.
فسأل عجر الحلاق ساخرًا: هل تتمسَّح في السادة يا حمَّال؟
فقال نور الدين: جلسنا جنبًا لجنبٍ في الزاوية نتلقَّى الدرس على يد مولانا عبد الله البَلْخي.
فقال السندباد: وقنعتُ بمبادئ القراءةِ والدينِ شأنَ الكثيرين.
فقال عجر مواصلًا سُخريتَه: لن ينقصَ بذهابك البَرُّ ولن يزيدَ البحرُ.
عند ذلك قال له الطبيب عبد القادر المهيني: اذهبْ مصحوبًا برعاية الله، ولكن اشحذْ حواسَّكَ، ليتكَ تُسجِّلُ ما يُصادفُكَ من بديع المشاهدات؛ فقد أمرنا اللهُ بذلك. متى تسافر؟
فقال متمتمًا: صباح الغد، أستودعكم اللهَ الحيَّ الباقي.
فقال رجب الحمَّالُ زميله: ما أحزنَني لفِراقكَ يا سندباد!