مغامرات عجر الحلاق
١
تبلبلتِ الخواطرُ لموت كرم الأصيل، ولكن عجر الحلاق شُغِل بنفسه عن الدنيا وما فيها، في الظروف العادية لا يشغله شيءٌ عن الأحداث؛ فهو طفوليٌّ عريق، ينسجُ من الحبَّة قبَّة، ويُعتبر في دكانه راويةً قبل أن يكون حلَّاقًا، ويستجلب بالأخبار والمبالغات الاهتمامَ والرضا .. غير أنَّ ابتسامةً أعادت خَلْقه من جديد، وفجَّرت الأماني المكتومةَ من قديم .. وهو قصيرٌ نحيلٌ برَّاقُ العينين، غامقُ السُّمرة، لا يخلو في الأصل من وسامةٍ، ينطوي على نهم لا يدري به سواه .. صاحبة الابتسامة متوسطة العمر، تكبَره بعام أو عامَين .. لمَ تبسم إلى حلاقٍ مثله؟ لعلها تُحب الرجال، لعلها تُغري بالأنوثة وبالجود، فما يشُكُّ أحد في فقر عجر الحلاق .. يا إلهي، إنَّه يُحب النساء، ولولا الفقرُ ما بقيَتْ فتوحة زوجته الوحيدة طيلة ذاك العمر .. لعله يحلُم بالنساء كابنه اليافع علاء الدين ويحلُم أيضًا بالجاه والطعام والشراب .. وقد واظبَتْ على المرور أمام دكانه أيامًا متتابعاتٍ حتى تصدَّى لها، فضَربتْ له موعدًا عند مدرسة السلطان عقب مغيب الشمس .. انتظر وهو يقول لنفسه: «جاء دوركَ في الحظ يا عجر» .. لأول مرة يُثْني على الحظ ويسجد، لأول مرة يُرحِّب بهبوط المغيب، لأول مرة يأنس إلى الطريق وهو يُقفِر .. الدكاكين تُغلق أبوابها، وهو يمتلئ بالانفعال والانتظار .. ولما خلا الطريق أو كاد ظهر «المجنون» بجلبابه الفضفاض ولحيته المرسلة .. على غير انتظارٍ ظهر ليخترق الليل بأسراره .. هو المتطوِّع دائمًا بأنَّه مرتكب الجرائم الكبرى، والزاعم بأنَّه جمصة البلطي قاهرُ الموتِ الذي غزا قلب السلطان الحَجَري فأطلق سراحه .. وعجر يُحبه كدعابةٍ غامضةٍ، ولكنَّه لم يُرحِّب بظهوره في تلك الساعة الفاصلة .. وحدَث ما أشفق منه، فاقترب منه المجنون حتى وقف بإزائه، وقال له بصوته المليء: اذهب إلى بيتكَ؛ فلا يخرجُ في الليل إلا ذو هدفٍ.
فضحكَ عجر مغالبًا توتُّرَه، وقال له: شعر رأسكَ ينمو مثل شجرة بلخ، ولحيتك تمتد طولًا وعرضًا كالستارة، هلا زرتَني في دكاني لأُهذِّبك؟
فنَهره قائلًا: عقلُكَ فاسدٌ فلا تُطاوِعه.
– يا لكَ من مجنونٍ ظريف!
فمضى عنه وهو يقول: جاهلٌ من ذرية جهلاء!
لم يَبقَ وحده أكثر من دقيقة ثم أقبلَتِ المرأة.
٢
تجربةٌ مشتعلةٌ، يُستَهانُ فيها بالمجهول، بعد عشرين عامًا من حياةٍ زوجيةٍ يوميةٍ .. قادته في الظلام المخفَّف بفوانيس الأبواب إلى دارٍ شبه معزولة ببستانٍ خارجَ السورِ .. آمن بأنَّ التي تقوده من أهل الجاه والثراء والفجور فسعد بذلك درجةً بعد درجةٍ .. غاصَا في مكانٍ مظلمٍ وَشَتْ به روائحُه الزكيةُ فأدرك أنَّه حديقةٌ، ثم وجد نفسه في بهوٍ مضاءٍ بقناديلَ في الأركان، يتصدَّره سريرٌ وثيرٌ يتوسَّطه مجلس من الوسائد حوله مائدةٌ حفلَت بالطعام والشراب .. غابت المرأة، ثم رجعت سافرةً في جِلبابٍ حريرٍ .. مكتنزةً، حسنةَ القسمات، أكبر مما حسب، ولكنها تسيل دلالًا وخلاعة .. جرى بصره على المرأة والطعام والشراب وقال لنفسه: «انظر كيف تتحقق الأحلام» .. قال وهو يتحفز: ليلتنا ليس في الليالي مثلُها.
ملأَت كأسَين وهي تقول ضاحكةً: لا يُنكر النعمة إلا جاحدٌ.
وصفَّقتْ فجاءت جاريةٌ في العشرين، حاملة عودًا، تشبه المرأة فكأنها أختها وتتفوق بالشباب، وقالت المرأة: أسمعينا، لا يتم السرور إلا بالكمال.
لعب الشراب بالعقول كما لعب الوتَر بالقلوب .. وبقِحَة عجر المعهودة أقبل على الشراب والطعام والمرأة .. وتساءل مرَّاتٍ: متى يتمُّ التعارفُ؟ ولكن ما أهمية ذلك؟ ليحذرِ التسرُّعَ وليلعب دَورَه كما يجدُر به .. إنَّه لا يشكُّ في أنَّه بحضرة فاجرةٍ .. لكنها فاجرةٌ تجود وتهب ولا تستغلُّ .. إنَّه حُلمٌ لا يَضيرُه إلا أنَّه لا يصدَّقُ.
٣
وخَصَّتْه بيوم الإثنَين من كل أسبوع .. طَمِع في المزيد ولكنها تجاهلَتْه .. نصح نفسه بالقناعة .. تحامت أن تشير إلى هُويَّتها فأيقن أنَّها من علية القوم .. لماذا لم تستقرَّ في سراي مع كبيرٍ من الأكابر؟ لعله الفجور أو البطَر فأنعم بأيهما .. والجارية الشابة شقيقتها بلا جدال .. غائصة ولا شك في الفساد .. وهي مذعنة ومطيعة للمرأة كأنَّها تابعة .. وهي فتنة، وهما يتبادلانِ استراقَ النظرِ .. سيقع حتمًا في شِباك الصغرى كما وقع في الكبرى، وكل آتٍ قريب .. إنَّه مجلسٌ مُعبَّقٌ بالشهوة والخيانة ولكنَّه يعمل للمرأة ألف حساب .. وأَحَب الطعام والشراب مثلما أَحَب المرأة .. وبمرور الأيام أَحَب الطعام والشراب أكثرَ .. يهجمُ على المائدة بوحشيةٍ وبلا حياءٍ حتى بات فرجةً مسلِّية للمرأتَين .. حرص على ألا يفضحَه هواه بالجارية الشابَّة، وشجَّعَته هي مستخفيةً وراء المزيد من الحذر .. شعَر في مقهى الأمراء بأنَّه أعلى مرتبةً من الوجهاء، وأنَّه أسعد من يوسف الطاهر، وأنَّه شهريار آخر.
٤
وذهب ليلةً فلم يَجدْ إلا الجارية الشابَّة .. البهو هو البهو ولكن المائدة خالية .. وتساءلَت عيناه في حَيرةٍ دون أن ينبِس، فقالت الجارية: إنَّها مريضةٌ وقد كلَّفتْني بالاعتذار.
خفَق قلبه وبرقَت عيناه وابتسم، فقالت: ينبغي أن أرجع مسرعة.
فقال بلهفةٍ: إنَّها شديدةُ الثقة!
وتقدم خطوتَين فاحتواها بين ذراعَيه، فقالت دون أن تبديَ مقاومةً تُذكَر: مَن يدري؟
– ولكن الفرصة لن تفلتَ من يدنا.
– يا لها من مغامرة!
– إنَّك حرَّةٌ مثلها .. لا شكَّ أنَّكِ شقيقتُها.
تخلَّصَت منه بعذوبةٍ وجاءت بالطعام والشراب .. أقبلا على الشراب بإفراطٍ ليبدِّدا مناخَ التوتُّرِ والفكرِ .. وتذاوبا في رغبةٍ متأججةٍ .. واعتليا قمة التحدِّي، فغابا عن الوجود .. واستيقظ مبكرًا .. قام يترنَّحُ برأسٍ ثقيلٍ .. أزاح الستار فتدفَّق ضوء المصباح .. حانت منه التفاتةٌ إلى ذكريات الليلة الماضية ففرَّت من فيه آهةٌ وجحظَتْ عيناهُ .. رأى الجارية الجميلة مذبوحةً! .. صُفِّيَ دمُها تمامًا، واستقَر بها الموت .. متى .. مَن .. كيف .. هل يهرب؟ ما أثقل رأسَه! .. كأنما شرب في الخمر بِنجًا .. التهمة معلَّقة فوق رأسه .. فكَّر سريعًا .. وبلا منطقٍ .. الحديقة .. دفن الجثة .. إزالة آثار الدماء .. هل في الدار مَن يراقبه؟ عليه أن يعمل وأن يسلِّم نفسه للمقادر .. لا وقت للتفكير .. تقوَّضَ البناء كله .. ما كان كان .. لازمه شبح المرأة الأخرى طيلة الوقت.
وعندما ألقى على المكان نظرةً أخيرةً، رأى عقدًا ذا فصٍّ من الماس مُلقًى أسفلَ السرير، فتناوله وهو لا يدري ماذا يفعل، ودسَّه في جيبه .. تسلَّل إلى الخارج وهو يقول: ستكون معجزةً إذا نجوْتُ.
٥
مضى عجر يتخبط في زنزانة كَرْبه المقيم .. الجريمة تُحاصره وتبسطُ قبضتَها المتشنِّجةَ لتخنقَ عنقَهُ .. أعاهدكَ يا ربي على التوبة إذا أنقذتَني .. رآه ابنه علاء الدين فسُرَّ بعودته على حين كشَّرتْ فتوحة زوجته عن أنيابها، قال دون مبالاة: غلبني النعاس في غرزة.
لعنَتْه .. الحياة بينهما تجري مكتظَّة بالنقار والمودَّة .. فتح دكانه متأخرًا عن ميعاده .. استقبل الرءوس واللحى بعقلٍ شارد يهيم في وديان الرعب .. كان ثمَّة شخصٌ ثالثٌ هو القاتل بلا ريب .. لكن لماذا قتَل الشابَّة الجميلة؟ .. الغَيْرة؟ غَيْرة رجلٍ مجهول أم غَيرة امرأة؟ دائمًا تُطارِده صورة الأخت الكبرى .. قوية وفاجرة وقادرة على الكبائر .. هل تكتَشف الجثة؟ هل علم أحد بتسلُّله الليلي؟ هل يُساقُ ذاتَ يومٍ إلى السيَّاف ليضرب عنقه؟ أعاهدكَ يا ربي على التوبة إذا أنقذتَني .. وفكَّر لحظاتٍ في الهرب .. العقد المستقر فوق بطنه يُعَدُّ ثروةً ولكن عرضه للبيع قد يُوقِعه في شر أعماله .. كلا .. إنَّه لم يقتلْ ولن يهرُبَ والعناية الإلهية لا تنام .. أجل إنَّ العناية الإلهية لا تنام، ولكن من هذا؟ نظر بصدرٍ منقبضٍ إلى «المجنون» وهو يدخل الدكان فيقتعد الأرض في بساطة وهو يأكل مشمشة .. وكان يشذِّب لحية الطبيب عبد القادر المهيني فقال للمجنون: ماذا جاء بكَ في النهار على غير عادة؟
فقال المجنون ببساطة: نهاركَ ليل يا عجر.
– أعوذ بالله من شر الكلام.
وضحك الطبيب قائلًا: لا تخدعني يا رجل؛ فالجنون منتهى العقل.
فقال المجنون: إني شرطيٌّ قديم.
– ما زلتَ مُصرًّا على أنَّك جمصة البلطي؟
– والشرطي إذا توجَّه لله لم يتخلَّ عن مهنته القديمة!
فقال عجر بضيق: ارحمني من جنونكَ فلستُ رائقَ البال.
فقال المجنون بهدوءٍ: لا يدعوني إلا أمثالُكَ يا جاهل.
فضحكَ الطبيب عاليًا، وقال: إنَّه يُدعى عادةً إذا عجز عِلمُنا عن الخدمة.
ونهض المجنون فمضى وهو يقول: الله ملجأ الحي والميت، والميت الحي.
ولما غيَّبه الباب قال عجر للطبيب: قلبي يحدِّثني الآن بأنَّ هذا المجنون قاتلٌ خطير.
فتمتَم عبد القادر المهيني: ما أكثَر القتلة يا عجر!
شعَر عجر بأنَّ المجنون مطَّلِع على سِرِّه .. تُرى أهو الذي ذبح الجميلة؟! متى تنكشف الغُمَّة يا رب السموات والأرض؟!
٦
وليلة الإثنين جاءت .. موعدُ جلنار المنذرُ بالاحتمالات المبهمة .. إذا ذهب فإلى الجحيم يذهب .. وإذا لم يذهب قدَّم الدليل على جريمة لم يرتكبها .. مضى إلى دار الجريمة والفزع .. سلَّم نفسه إلى المقادر مقشعِرَّ البدن .. أخفى الحديقة من الوجود بغضِّ البصر .. أما العنق المنزوع من الجسد الجميل فقد لازمه خطوةً خطوةً .. رأى جلنار والمائدة فتلقَّى أول نسمة في جو الصيف المشبع بالرطوبة .. عليه أن يكبح اضطرابه أن يفضحه .. عليه أن يمارس الحب فوق فِراش الدم .. الجثة تملأ المكان وتُغطِّي على المرأة النهمة .. ما أعذبَ الهربَ! .. أقبل على الشرب بيأس .. المرأة هادئةٌ باسمة .. أَيسأل عن زهريار أم ينتظر؟ أيهما يشي بالريبة أكثر؟ لكن جلنار بادَرتْه متسائلة: أين زهريار؟
فتساءل بدوره: أَلم تحضرْ معكِ؟
فحدَجته بحَيرة وهي تُشارِبه، ثم قالت: أرسلتُها إليكَ حاملةً اعتذاري.
فقال بقلبٍ خافقٍ جافٍّ: تبادلنا كلمتَين ثم افترقنا.
– اختفت كأنما تبخَّرتْ، يئس المجدُّونَ في البحث عنها، البيت مشتعلٌ نارًا.
فضَرب كفًّا بكفٍّ، وتمتَم: حدَثٌ عجيب حقًّا، هل ثمَّة ما يدعوها إلى الاختفاء؟
– لا أدري عن ذلك شيئًا ولا أتصوَّرُه! .. البيت مشتعلٌ نارًا.
– أيُّ بيتٍ يا جلنار؟
– بيتُنا يا عجر، أحسبتَنا بلا أهل؟
– وهذه الدار ما شأنها؟
– ما هي إلا استراحةٌ لنا أوقفناها على الطرب!
فتردَّد، ثم تساءل ورأسه مثقلٌ بلا نشوةٍ: من أهلُكِ يا جلنار؟
فقالت باسمة: ناسٌ من الخلق، ماذا يهمك منهم؟
فغاص في الهم أكثر، وتساءل بحزن: ترى أين أنتِ يا زهريار؟!
– أحزنكَ الخبر ولا شك؟
فانقبَض صدره، وقال بحذر: ما أنا إلا إنسانٌ يا جلنار.
فداعبَت لحيته قائلة: وإنسانٌ طيب يا عجر.
وانتشت بالخمر فاقتربَت منه .. أطبقت الكآبة متجسدة .. ران الإحباط على الطعام والشراب وجفَّت ينابيع الرغبة .. جفل من المرأة بقَدْرِ ما توجَّس منها خيفةً .. إنَّه كابوسٌ ثقيل طويل ويجب أن يتلاشى.
٧
في الموعد التالي ذهب وكأنما يذهب إلى النطْع، ولكن لم يستجِبْ لطرقاته على الباب أحدٌ، ولم يُفتَحْ له بعد ذلك، فتلقَّى أول شعورٍ بالراحة منذ اكتشاف الجريمة .. لعل أهلَها فَطِنوا أخيرًا إلى سلوكها السريِّ، لعلها نَفرتْ منه، لعلها لحقَتْ بأختها، ليكن من أمرها ما يكون فقد انتهى قَدْرٌ لا يُستهانُ به من عذابه .. لن يقترب مرةً أخرى من مقام الجريمة، وسوف يقاوم لون الدم الذي يُطارِده، ولن يألوَ أن يُذكِّر نفسه بأنَّه لم يرتكب طيلةَ حياتِه جريمةَ قتل .. هيهاتَ .. ولا قتلُ دجاجةٍ مما يستطيعه .. وابتعدَت ذكريات الطعام والشراب والغرام، فقال لنفسه المنهزمة: لعلها لم تكن حقيقةً قَط .. وكل يوم يمُرُّ يجودُ بهبة من الطمأنينة .. الخوف حقٌّ على المجرمين لا الأبرياءِ .. وهو بريءٌ ما في ذلك شكٌّ .. وكلما رسخَت الطمأنينة دبَّتِ الحياة في الرغبة المكبوتة .. رجَع يتذكَّر ليالي الغرام والطعام ويتنهَّد .. ويتذكَّر العِقد الثمين فوق بطنه المحروم من عرضه للبيع ويتأسَّف .. إنَّه يحمل ثروةً معطَّلةً، وله تجربةٌ مع السعادة لا تُنسَى، ويتفجَّر في أعماقه النَّهَمُ وأشواق اللذة .. وتساءل في حيرة: أَليست التوبةُ أجدرَ بي؟
ولكن ليالي جلنار أشعلَت في وجدانه جنون النساء .. جالت عيناه متلصصةً بين الحسان، تنطلق من نارٍ وترتد بنارٍ أشدَّ .. في إحدى جولاتها وقعَت على حسنيةَ بنت صنعان شقيقة فاضل، فشجَّعه فَقرُها وسمعةُ أبيها المُتوَفَّى على الطمعِ فيها .. وانتهز فرصة مجيءِ فاضل إلى دكانه ليُشذِّب لحيته وشاربه فغالى في الترحيب به وسألَه ببساطةٍ عجيبة: يا سيد فاضل صنعان، هناك من يطلُب شَرفَ القُرب منكَ.
فتساءل فاضل بعقلٍ خالٍ: من يا عجر؟
فقال بالبساطة نفسها: العبد لله.
صُدِم فاضل وكتَم انفعاله .. قال لنفسه: لعل عجر أيسرُ في الرزق مني، ولكنه عجر وأنا فاضل، وحسنية لا تقل في التهذيب عن شهرزاد نفسها .. تساءل ليكسب مهلة للتفكير: أختي؟
– نعم.
فقال كالمعتذر: يبدو أن أحدَهم سبقكَ يا عجر!
لاذ عجر بالصمْت دون أن يُصدِّقه .. لو سبقه سابقٌ لعَلِم به. وهل يخفى عليه شيءٌ مما يجري في الحيِّ كلِّه؟ وغضِب عجر .. كيف لا يعتبر فاضل طلبه منَّةً، وهو يطلُب القرب من بيت حلَّتْ به لعنةُ الشيطان؟!
٨
ازداد رغبةً في الحب، ولم يكفَّ عن التلهُّف على الجاه .. خاض في أجساد العذارى كالمراهقين رغم أنَّ ابنه علاء الدين لم يتزوَّج بعدُ .. وتقلَّب بين الوسائد في دورٍ سحرية على مثال الدور التي يدخُلها أحيانًا لخدمة أصحابها .. وكما وقع في حبِّ حسنيةَ تعلَّق قلبه بقمر أختِ حسن العطار .. حبٌّ أقوى من الأول .. وزاده قوةً أنه حبٌّ ميئوسٌ منه .. حبٌّ مقضيٌّ عليه بالكتمان والأسى والعذاب .. ذهب يومًا إلى دار العطار ليشذِّب لحية المعلم حسن، فلمَح البنت الجميلة ففقَد راحة البال إلى الأبد .. لكنه لم يفقد الحلم .. إنَّه يهيم بالدُّور العظيمة كدُور العطار وجليل البزَّاز ونور الدين .. ونور الدين ما أسعدَه من شاب! .. من بياع عطورٍ بسيطٍ لا يرتفع درجة عن عجر، ولعله دون ابنِه علاءِ الدينِ في الجمال والكمال، إلى عينٍ من الأعيان، قريبٍ وعديلٍ للسلطان، وزوجٍ لدنيازاد أختِ شهرزاد، أَليس اللهُ بقادرٍ على كل شيء؟
٩
في قهوة الأمراء جلس كعادته كل ليلة .. عقب نهارِ صيفٍ حارٍّ جاد الليل بنسمةٍ طيبة .. وجد نفسه أقرب ما يكون من أريكة المعلم سحلول تاجر المزادات، وأنهى الراوي فصلًا من سيرة عنترةَ فسكتَت الرباب ونطَق السمر .. قال عجر للمعلم سحلول وهو من زبائنه: لم تُشرِّفنا من زمن!
فقال الرجل باسمًا: سأزوركَ على غير انتظارٍ ذاتَ يومٍ!
وجاء حسن العطار وجليل البزاز وبصحبتهما فاضل صنعان فاطمأنوا إلى مجلسهم .. حيَّاهم عجر مغاليًا في التودُّد والتقرُّب، فردُّوا تحيتَهم بتحفُّظٍ .. إنَّه يُلقي نفسه إلقاءً على السادة، ولكنه يُرَدُّ دون تشجيعٍ، حذرًا من تطفُّله .. إنَّه اليوم أعلى من فاضل ولكنهم يحفظون العهد القديم .. حلمه الدائم أن يُقبل ليقدِّم خدماتِه نظيرَ الاستمتاع بموائدهم .. يُفلِح مرة ويُخفِق عشراتِ المرَّاتِ فيتأجَّج نهمُه .. اليوم فاضل غريمه بعد أن رفَض يدَه، أما حسن فيحوز النعمة التي لا أمل فيها .. سدَّدَ نحو مجلسِهم أُذنَهُ على حين تظاهَر بالاسترخاء والنعاس .. إنَّهم يتحدثونَ عن سهرةٍ جميلةٍ احتفالًا بقدوم سفينة البزَّاز مُحمَّلةً من الهند .. سيكون طعامٌ ولا طعام جلنار وسيجري الشراب .. سيملأ بيَّاع الحلوى بطنه كالأيام الخالية.
– الجو حارٌّ، نريد مكانًا خارجَ الدور!
الصعلوك يعلن رغباتِهِ كأنَّه من السادة .. ويجيبه جليل: اللسان الأخضر، إنَّه جزيرةٌ خضراء!
فقال حسن العطار: ودعوتُ شملول الأحدب!
فقال جليل: ما أجمل أن يُهرِّج لنا مُهرِّج السلطان!
حتى المُهرِّج! .. أمَّا أنت يا عجر فما إن يبتسم الحظ لكَ حتى يجتاحه الدمُ البشريُّ .. ونظَر نحو المعلم سحلول، وقال بأسف: إنَّك طرازٌ وحدَك في زهدك في اللهو يا معلم سحلول.
فقال المعلم بهدوء: هذا حق.
– إنَّك رجلٌ كريم متواضع، وما كنتَ تأبى أن أكون نديمك.
فابتسم ولم يُجِب .. وتفكَّر قليلًا كيف يُحرِّضه على اللهو .. ونظر نحوه مرَّةً أخرى فوجد مكانه خاليًا .. أجال بصره في المقهى فلم يعثُرْ له على أثرٍ .. هكذا يختفي فجأة وفي غمضة عينٍ، فما أغربَهُ! ولكن عجر صمَّم على أن يشترك في سهرة اللسان الأخضر مهما كلَّفه الأمر .. ولو تُوِّجَتِ المغامرةُ بطرده!
١٠
اللسان الأخضر الممتدُّ في عُرْضِ النهرِ مثلَ جزيرة نحيلة، ولا ضوءَ إلا ضوءُ النجوم الخافت .. وغير بعيدٍ ينطلق شبَح النخلة يقوم أسفلَها مثوى المجنون .. كان عليهم أن يمُدُّوا بساطًا ويُهيِّئوا سِماطًا، ويُشعِلوا نارًا للشِّواء .. غير أن شبَحًا أقحم نفسه بينهم متطوعًا للخدمة وهو يقول: خدَّام السيادة!
لم يحظ الصوت بارتياح أو تشجيع وصاح جليل البزَّاز: عجر! يا لكَ من طفيليٍّ ثقيلٍ!
فقال بثباتٍ ويداه لا تكُفَّانِ عن العمل: طفيليٌّ أي نعم، ولكن لست ثقيلًا، وكيف يطيب مجلس كهذا بلا خادم؟
فقال حسن محذِّرًا: على شرط أن تلزقَ فاكَ بالغِراء!
– لن أفتحَه إلا بعد إلحاحٍ.
وارتفع صوتُ شملول الأحدب رفيعًا كصوت طفلٍ، وهو يقول له: كيف تدُسُّ نفسك يا صعلوك بين الأكابر؟
فحَنقَ عليه، ولكنه انهمكَ في عمله مجهِّزًا القواريرَ والكئوسَ، وراح يُشعِل النار .. اندفعوا في الشرب .. تناول شملول عودًا يُماثِله في الحجم، ومضى يُدندِن بصوته المثير للضحك، وكان رغم ضآلته يجيشُ صدرُه بعظمةٍ كونيةٍ .. وعقب أوَّلِ كأس تستقر في جوف عجر نسي عهده فتساءل: هل سمعتم بآخر نادرةٍ من نوادر حسام الفقي كاتمِ سرِّ الحاكمِ يوسف الطاهر؟
فصاح به حسن العطار: لا نُحب أن نسمعَ، فأغلق فاكَ!
وتمادَوْا في الشراب على حين ترامى صوتٌ غيرُ مرئيِّ المصدرِ يناجي «الواحد» فاتجهَتِ الرءوسُ نحو شبَح النخلة .. وقال فاضل: إنَّه المجنون.
فتساءل جليل: ألم يَجدْ مثوًى غير ذلك ليُفسِد على اللسان الأخضر روَّادَهُ؟
فقال حسن العطار، مخاطبًا فاضل: إنَّه يزعم أنَّه حموكَ جمصة البلطي.
– هكذا زعَم، ولكن رأس جمصة المعلَّق يقول غير ذلك.
فقال شملول الأحدب: كل شيء جائزٌ في هذه المدينة المجنونة!
عند ذاك قال عجر الحلاق: إن أردتم الحقَّ …
ولكن جليل قاطعه: لا نريد الحق ولا نحبُّهُ.
فصاح شملول: لا تُذكِّرونا بالموت، بذلك أمر السلطان.
فسأل جليل: كيف تُسامِر السلطان يا شملول؟
فقال شملول بعجرفةٍ: لست ممن يُفشونَ الأسرارَ يا أحقر الخلق!
ضحك الجميع إلا حسن العطار، فقد انفجَرتْ نشوته غضبًا فصاح به: أيتُها الحشرةُ.
وغضِب الأحدب فرمى بالعود ووثب قائمًا .. وما يدرون إلا وهو يبول على السماط بطعامه وشرابه! .. وجموا موقنين بأن سهرتَهم هُدمَت وتقوَّضَت .. اشتعل السُّكْر بالغضَب ورمَوا الأحدب بجمرات الحقد .. انقَضَّ عليه فاضل دافعًا إياه على ظهره، ثم رفعه من قدمَيه الصغيرتَين ومشى به إلى حافة اللسان الأخضر، ثم غطَّسَهُ في مياه النهر ثوانيَ طويلةً .. رفعه مرَّةً أخرى من الماء تاركًا إياه يسقط على الأرض المعشوشبة وهو يرقُد من الرعب .. وقام مترنحًا فتناوَلَ المجمَرة ورماهم بها فتطايَرتِ الجمرات المتقدة تَلسَع هذا وذاك .. بلغ منهم الحنَقُ مداه فاجتاحوه سُكارى غاضبين، وانهالُوا عليه لكمًا وركلًا حتى تهاوى فاقدَ الوعي .. تابعَهم عجر جامدًا ذاهلًا .. تمتَم: كفاكم يا سادة، إنَّه مهرجُ السلطان.
وانحنى فوقَه في الظلام في صمْت .. رفع رأسَه وهمَس: يا سادة، لقد قتَلتُم الأحدب!
تساءل جليل: واثقٌ ممَّا تقول؟
– انظر بنفسكَ يا معلم.
شُحِنَ الصمتُ بالرعب .. شمَت بهم عجر .. قال متماديًا: جريمةٌ من لا شيءَ تطرُقُ بابَ السلطانِ!
صاح حسن العطار: إنَّه الجُنونُ.
– أيُّ حظٍّ أسودَ؟
– أَنضيعُ بلا سببٍ ولا ثمنٍ!
وكان رأس عجر يُطلِق خيالاتٍ خارقةً في جميع الجهات، ويثِبُ من حُلمٍ إلى حُلمٍ .. أخيرًا قال بهدوءٍ، وهو يشعرُ بالسيادة لأوَّل مرَّة: خذوا حوائجَكم واذهبوا.
فقال جليل: كيف نذهب تاركينَ وراءَنا هذه الجريمة؟!
فقال عجر بنبرةٍ آمرةٍ: اذهبوا .. سوف تختفي الجثَّة ولن يعثرَ عليها الجنُّ نفسُهُ.
– أَواثقٌ أنتَ بنفسكَ؟
– كلَّ الثقةِ، وما توفيقي إلا بالله!
قال جليل بصوتٍ متهدجٍ: انتظِر مكافأةً لم يسمعْ بمثلَها أحدٌ.
فقال ببرودٍ: إنَّه أقلُّ ما أنتظرُ!
– ولكن لعل كثيرينَ في المقهى قد سمعوا بدعوتنا له إلى سهرتنا؟
– أجل حصل، ولكنني لحقْتُ بكم بلا دعوةٍ، وأستطيعُ أن أشهدَ بأنَّه لم يلبث معنا إلا ساعةً ثم مضى وحدَهُ معتذرًا بتوعُّكِهِ، افهَموا وتذكَّروا.
١١
مع جثَّة الأحدب وحده .. تذكَّر زهريار والدم فارتعدَت مفاصلُه .. لكن لا وقتَ للأفكار المُثبِّطةِ .. ليبعُد عن الأرض المزروعة .. ليبحث عن حفرةٍ في الصحراء .. عن مكانٍ أمينٍ لحفظ الجثة حتى يحقِّقَ رغائبَهُ .. لقد أهدرَتْ جثةٌ حظَّهُ السعيدَ وهاك جثَّة تَعِدُهُ باسترداد ما فقد .. السرعة والستر مطلبه .. وترامى إليه صوتٌ هتك الصمت: أيها السائرُ في الظلام تخفَّفْ.
ارتعَد كما لم يَرتعِد من قبلُ .. المجنون .. دائمًا يخترق وحدَته .. ما عليه إلا أن يلُفَّ الجثَّة الصغيرة بطرف عباءته .. مدَّ يده ثم سحبها بعنف كالملدوغ .. ثمَّة حركةٌ أم لعلَّها نبضةٌ .. ثمَّة نَفَسٌ كالأنين .. ربَّاه! الأحدبُ لم يمُتْ .. وترامى الصوت كرَّةً أخرى: تخفَّف!
اللعنة .. ما زال يُطارِده .. قاتل زهريار الجميلة .. لِمَ قتلها؟ لِمَ لَمْ يقتل جلنار؟ حمَل شملول على كتفه اليسرى وغطَّاه بجناح عباءته الأيمن .. همس له: اطمئن يا شملول .. صديقك عجر .. سأمضي بك إلى الأمان.
هل تضيع المكافأةُ؟ هل تتلاشى الرغائبُ؟ آه لو به قدرةٌ على القتل! ولكن .. أجل خطرت له فكرةٌ .. أنْ يُخفِيَه في داره حتى ينال ما يشتهي .. استولَت عليه الفكرة ولم يكن ممن يقلِّبُون الأفكار على شتَّى وجوهِها.
١٢
نظَرتْ فتوحة إلى الأحدب الضئيل بلا حَراكٍ بذهولٍ، فقال لها عجر: اسمعي وأطيعي.
فقالت ساخرةً: إنَّه لا يصلُح للطعام.
فقال بحرارةٍ: سنُعِدُّ له مكانًا مُريحًا في العلِّيَّة، ليبقَ أيامًا معدودةً حتى يستردَّ صحَّته.
– ولماذا لا تذهب به إلى أهله؟
– إنَّه نجمة الحظ التي ستجلب لنا السعادة، وتنقلنا من حال إلى حال .. قدِّمي له ما يحتاج إليه، وأحكمي إغلاقَ باب العلِّيَّة، لن يطولَ ذلك، وسأُخبركِ بجميع ما ينبغي لكِ معرفتُه.
١٣
لم يكدْ ينامُ من ليلته ساعةً .. وتَوثَّبَ للعمل منذ الصباح الباكر .. إنَّه يومٌ فاصلٌ في الحياة كلها، ويجب أن تحدُثَ فيه جميع المعجزات بلا تأجيلٍ .. ليكن جريئًا مقتحمًا وبلا حياءٍ وهو لم يكن ذا حياءٍ قطُّ .. ما هي إلا فرصةٌ واحدةٌ، وهيهاتَ أن تتكررَ، وكلُّ شيءٍ بمشيئة الله .. وقرَّر أن يبدأ بأغلى صيدٍ، فقَصَد دار حسن العطار قبل موعد ذهابه إلى دكانه .. جاءَهُ الشابُّ في المنظرة الوثيرة وهو يتساءل بلهفةٍ: ماذا وراءكَ يا عجر؟
فأجاب بنبرةٍ مليئةٍ بالثقة: كل خير يا معلم، لك الأمان حتى آخر العمر.
فشَدَّ على ذراعه، وقال: موفَّق بإذن الله، هل قابلكَ المعلم جليل؟
– كلا بعدُ .. أردتُ أن أبدأ بالرأس.
– إليكَ ألف دينار حلالًا لكَ.
فقال بهدوءٍ: بل عشرة آلاف يا معلم.
قطَّب حسن مذهولًا، وتساءل: ماذا قلتَ؟
– عشرة آلاف دينار!
– لكنها ثروة ينوءُ بها أكرمُ الأغنياء؟
فقال بالهدوء نفسه: هي قطرةٌ من بحركَ، وحياتُك لا تقدَّرُ بمال قارون نفسه.
– اقتنِع بخمسة آلاف، وسوف يتمها جليل البزَّاز عشرا!
– لن أُفرِّط في درهمٍ منها.
لاذ حسن بالصمْت مليًّا، ثم قام متثاقلًا، فغاب قليلًا، ثم رجع بالآلاف المطلوبة، وهو يُتمتِم: لا رحمة لك.
فأقبل يدُسُّها في جيبه وهو يقول محتجًّا: سامحك الله، أَلم أنقذ أعناقَكم من سيف شبيب رامة؟!
– لكنَّ طمعَكَ أفتَكُ من سيفه.
فتجاهل تعليقه قائلًا: بفضل الله سيصير عجر من الأعيان ويستثمر أمواله مع الأفذاذ من أمثال المعلم سحلول .. بذلك يصير أهلًا لتحقيق أحلامه الحقيقية.
فتساءل بسخريةٍ خفيةٍ يُنفِّسُ بها عن حقده: وما أحلامُك الحقيقية؟
فقال بهدوءٍ وجرأةٍ مذهلةٍ: أن أطلُب شَرفَ القُرب منكم في يد أختكم المصونة.
انتتَر قائمًا وهو يهتف: ماذا؟!
فقال ببرودٍ: لا تُشعرْني باحتقاركَ، لا حقَّ لكَ في ذلك، كلُّنا من صُلْب آدم، ولم يفرقْ بيننا فيما مضى إلا المال، ولا فرق اليوم بيننا.
فكظَم حسن غيظه دفعًا لسوء العاقبة، وقال متملِّصًا من حرجه: ولكن لا بُدَّ من موافقتها كما تعلم.
فقال وهو يرمقه بنظرةٍ ذاتِ معنًى: ستُوافِق من أجل إنقاذ رأس أخيها المحبوب.
فقال وهو يتنهَّدُ بعمقٍ: طلبُكَ يخلو من الشهامة.
فقال بيقين: الحُب لا يؤمن إلا بالحُب.
ساد صمتٌ، فغاصَا معًا في حرِّ اليومِ المتصاعد، حتى قال حسن: فلنؤجِّل ذلك إلى حين.
فقال بقوةٍ: موعدنا العصر.
– العصر!
– عصر اليوم للعقد ولنؤجِّل الزفاف.
قام منحنيًا له تحية، وذهب وهو يشعُر بجمرات الحقدِ المتطايرة من نظراته تحرقُ ظهرَه.
١٤
قبل أن يستدير الصباح كان قد حصل من جليل البزَّاز على عشرة آلاف دينار، ومضى عنه مُشيَّعًا بحقده المكتوم .. قال إنَّ عليه أن يوثِّقَ علاقته بكبير الشرطةِ بيومي الأرمل اتقاءً لأي غدرٍ في المستقبل .. عليه أيضًا أن يلتحمَ بحاكم الحيِّ وكاتمِ سِرِّه كما يفعل الأثرياء، وفي ذلك ما فيه من العزَّة والأمانِ .. أما فاضل صنعان فقد خلا به في دكانه وهو يمُرُّ أمامه .. تفحَّصهُ بزرايةٍ وسأله: ماذا عندكَ لي جزاءَ إنقاذِ رأسِكَ يا فاضل؟
فضحك فاضل مرتبكًا، وقال: عندي رأسي فهي أثمن ما أملك.
فقال عجر بمرارة: سبَق أن رفضتَ يدي بإباء.
فقال فاضل معتذرًا: لكَ عليَّ أن أكفِّر عن خطئي.
فصمَت لحظات، وقال: وهبَني الله مَن هي خيرٌ منها، ولكن تذكَّرْ أنني أنقذتُ رأسَكَ بلا مقابلٍ مراعاةً لفقرك!
١٥
وفي عصر اليوم تمَّتِ المراسيمُ الشرعيةُ لزواج عجر من قمر العطار في جوٍّ أشبهَ ما يكونُ بجو المآتم .. تركَّزَ همُّ عجر في الاحتفاظ بشملول الأحدب في داره حتى تُزَفَّ إليه العروسُ .. من ناحيةٍ أخرى اكترى دارًا جميلةً وشرع يُعِدُّها لاستقبال العروس .. ولم يكن مطمئنًّا للمستقبل كلَّ الاطمئنانِ، فَخدْعتُه ستنكشفُ عاجلًا أو آجلًا، أكثرُ من ذلك ستعلَم فتوحة بزواجه من قمر وتتَجمَّع سُحبُ المتاعبِ والأكدار .. غير أنَّه قد ينجو من السقوط إذا ضمَّ إليه عروسه فانضم بطريقةٍ ما إلى آل العطار، وإذا استثمر ماله فواتاه الربحُ الوفير والثراءُ المقيم .. وذهب إلى السوق فقابل المعلم سحلول، وقال له: لديَّ مالٌ أريد أن أستثمرَه عندكَ فأنت خيرُ المستثمرين.
فسأله سحلول، ولم يكنْ يُعلنُ عن دهشته قَطُّ: من أين لك المالُ يا عجر؟
– الله يرزق من يشاء.
فقال باقتضابٍ: لا أُشركُ أحدًا في مالي.
فقال برجاءٍ: علِّمني؛ فالتعليم ثواب.
فابتسم سحلول قائلًا: مهنتي لا تُعَلَّمُ يا عجر، انتظر حتى يرجع السندباد.
وتَوجَّه من فوره إلى نور الدين عديلِ السلطان، فسأله الشابُّ في شيءٍ من الارتياب: أَتقسمُ لي على أنَّ المال جاءكَ من الحلال؟
فاضطرب قلبُه ولكنه أقسَم، فقال له نور الدين: ستُبحِرُ سفينةٌ في هذا الشهر، ارجع إليَّ في نهاية الأسبوع.
مضى خائفًا من مَغبَّة القسَم الكاذب، ولكنَّه تعَّهد أمام ضميرِه بأن يُكفِّر عن ذنوبه بالحجِّ والصدقة والتوبة.
١٦
أدرك عجر أنَّ أقدام الزمن تُنذِر بتحطيم آماله، وأنَّه لا يستطيع أن يُوقِفَها .. ليس في وُسعه أن يحتفظ بالأحدب في سجنه إلى الأبد، ولن يُوجَد في المدينة مستقرٌّ آمنٌ له .. لم يَبقَ له إلا أن يستوليَ على عروسه ثم يهرُب بها في أوَّل سفينةٍ .. في بلادٍ بعيدةٍ يبدأ حياةً جديدة، حياةَ الثراءِ والحبِّ والتوبةِ .. ودافع عن نفسه أمام نفسه فقال إنَّه لم يكن شِرِّيرًا، ولكنه فعل ما فعل بدافع الحرمان والعجز .. أعطاه الله حظَّ الفقراءِ وشهواتِ الأغنياءِ فما ذنبُه؟ وذهب عند المساء إلى مقهى الأمراء فمضى من تَوِّهِ — بأقدامٍ ثابتة — إلى مجلس حسن العطار وجليل البزَّاز وفاضل صنعان .. أوسعوا له مرغمينَ .. قال لنفسه: كنتُ أمسِ محتقرًا وأنا اليوم بغيضٌ حتى الموت .. لكنه سيحسم أمره مع العطار في نهاية السهرة وينطلق من الغد إلى دنيا الأحلام الجميلة .. ورأى فاضل يُحملِق في مدخل المقهى بذهولٍ داعيًا صاحبَيه للنظر .. اتجه نظره نحو المدخلِ فرأى شملول الأحدب يرميهم بنظرةٍ حمراءَ ملتهبةٍ وهو ينتفضُ من شدة الانفعالِ.
١٧
تخطَّف اليأسُ والرعبُ روحه .. اقترب منهم بخطًى سريعةٍ متقاربةٍ حتَّى وقف أمامهم متحديًا .. صرخ بصوته الرفيع كالصفير: الويل لكم يا غجر!
ركَّز أولًا على عجر، وقال: تحبسني في داركَ مدعيًا ضيافةً لم أطلبْها؟!
لم ينبِسْ عجر، فواصل الأحدب: أطلقَتْني امرأتُكَ عقب ما نما إليها من نبأ زواجك، فانتَظِر الرعد في بيتك.
ثم راجعًا إلى الثلاثة: تضربونَ رجل السلطان يا أوغاد! لكل قويٍّ مَن هو أقوى منه وأفتَك، وسوف تنالون الجزاء الحق.
وغادر المقهى مصفرَّ الوجه من الغضَب، في خطًى متقاربةٍ سريعة، مخلِّفًا وراءه عاصفةً من الضحك .. ولكن تجمَّدتْ أوجه الرجال الثلاثة، ثم اجتاحَهُم الخوف والغضَب .. ألهبوا عجر بنظراتٍ حاقدةٍ وهمَس حسن العطار: وغدٌ محتال، أَرجعِ النقودَ وافسخِ العقد.
وقال جليل البزَّاز: أرجعِ النقودَ وإلا هشَّمْنا عظامك.
قال عجر: حسبتُه أول الأمر ميتًا واللهُ شهيد.
قال حسن: ثم انقلبتَ مجرمًا محتالًا، النقود والفسخ.
قال باستقتالٍ: احذروا الفضيحةَ، سيُذاعُ سِرُّ السكْرِ والعربدة والعدوان، خيرٌ من ذلك أن تستَرضوا الأحدبَ قبل أن يرفع شكواه إلى مولاه، أما ما أعطيتم من مال فاعتبروه تكفيرًا عن آثام حياتكم.
– الويل لك، لن تفلتَ بدرهمٍ يا محتال.
نهض الرجل بغتةً وغادر المكان وكأنما يفرُّ فرارًا.
١٨
تلاشى الأمان من دنياه .. وانطفأ سراج الأمل .. إنَّه زوج قمر ولكنَّها أبعدُ عنه من النجوم، وهو غنيٌّ ولكن الموت يتهدَّده، وهو أدرى الناس بالتعاون الخفي بين العطار والبزَّاز من ناحية ويوسف الطاهر الحاكم وحسام الفقي كاتمِ السرِّ من ناحيةٍ أخرى .. وفتوحة رابضة في الدار متلهِّفةٌ على عودته لتَغرِزَ أنيابها في عنقه .. ما أضيقَ الدنيا! .. وهام على وجهه .. غفا ساعاتٍ فوق سلَّم السبيل .. انزوى في أقصى الحيِّ النهارَ كلَّهُ .. لا شكَّ في أن أعداءَه استرضَوا الأحدبَ وهم عاكفونَ الآن على تدبير الانتقام منه .. وفي المساء وجد نفسَه الهائمة في ميدان الرماية، وفجأةً جذَب بصرَهُ ضوءُ مشاعل وضوضاءٌ غيرُ مألوفة.
١٩
ماذا يَجري في الميدان؟ قوةٌ من رجال الشرطة تُحيط بعددٍ عديدٍ من الصعاليك وتسوقُهم بعنفٍ نحو مكانٍ مجهول .. وصادَفَ رجلًا قريبًا يقول بصوتٍ مسموع: يا لَه من قرارٍ عجيبٍ!
لم يكن الرجل في حقيقته إلا العِفريتُ سخربوط مُتنكِّرًا في صورةٍ إنسانية رافلًا في جِلبابٍ ينطق بحسن المكانة .. سألَه عجر: أيُّ قرارٍ يا سيدي؟
ففَرح سخربوط لاستدراج عجر، وقال: فليُكرمِ اللهُ مولانا السلطان؛ فقد تنبَّأَ له فلكيُّ القصرِ بأنَّ حال المملكة لن يصلُحَ إلا إذا تولَّى شئونَها الصعاليكُ، فأمر مولانا بالقبض على الصعاليك ليختارَ منهم شتَّى القيادات.
فذُهِل عجر وتساءل: أَمُوقِنٌ أنتَ مما تقول؟
فقال سخربوط بدهشةٍ: أَلم تسمعِ المنادين؟
وثَب قلبه من الجَذَل .. أيُّ موجةٍ من البِشْرِ تكتسح الأحزان كلها بانطلاقةٍ واحدة؟ إنَّها المُنقِذُ من العذاب واليأس، والمُبَشِّر بالنجاة والسيادة .. ماذا في وُسْع أعدائه أن يفعلوا إذا أطلَّ عليهم غدًا من شرفة الحكام؟ ولم يترددْ دقيقةً واحدةً فاندَسَّ في زُمْرة المقبوض عليهم مستسلمًا لتيارهم.
٢٠
مضى التيار نحو دار الحاكم يوسف الطاهر .. حُشِدَ المقبوضُ عليهم في الفِناء تحت حراسةٍ قويةٍ وعلى ضوء المشاعل .. جاء يوسف الطاهر يتبعه حسام الفقي، فحيَّاهما كبيرُ الشرطةِ بيومي الأرمل، ثم قال: هؤلاءِ من أمكنَ القبضُ عليهم هذا المساءَ وسيجيءُ الآخرونَ تِبَاعًا.
فتساءل يوسف الطاهر: أَتضمنُ بذلك حقًّا أن تنمحيَ الجرائمُ والسرقاتُ وقطعُ الطرق؟
فقال بيومي الأرمل: هو المأمولُ يا مولاي.
وبإشارةٍ من الحاكم راح الجنودُ يُجرِّدونَ المقبوضَ عليهم من ملابسهم الرثَّة .. وذُهِل عجر طِيلةَ الوقتِ وأيقنَ مِن أنَّه ساق نفسَهُ إلى مصيبةٍ تخفُّ بالقياس إليها مصائبُه .. وانهالتِ السياطُ عليهم فمزَّقَ صراخُه الجوَّ من قبلِ أن يأتيَ دورُه .. ولكنَّهُ نال نصيبَه .. ولمَّا أخذوا يمضونَ بهم إلى السجن صاح عجر مخاطبًا الحاكمَ: يا نائبَ السلطانِ، انظر بحقِّ اللهِ المتعالِ فإني لستُ منهم، أنا عجر الحلاقِ، كبيرُ الشرطةِ يعرفُني، ويعرفُني كاتمُ السرِّ، إني صديقُ نورِ الدين عديلِ السلطانِ!
انتبه إليه بيومي الأرمل، فدُهشَ وسألَه: لكنِّي لم أقبضْ عليكَ يا عجر.
فصاح عجر: اختلاطُ الأمرِ وفِعْلُ الشيطانِ.
وأمر يوسف الطاهر بإطلاق سراحه وردِّ ملابسِهِ إليه، غيرَ أنَّه انتبه إليه باهتمامٍ فجأةً، نحو اللفَّةِ حولَ وسطِهِ فارتعدَ عجر وأخفاها بذراعَيه .. وداخل الحاكمَ شيءٌ من الريبة فأمر بنزعها وفحص ما بذراعه .. ولما رأى العِقد ذا الجوهر صاح: عقد زهريار! .. ما أنت إلا لصٌّ قاتلٌ، اقبضوا عليه.
٢١
بدأ اليوم التالي بالتحقيق مع عجر .. حكى الرجل حكايته وأقسَم بأغلظ الأَيْمان على صِدقها .. تطوَّع حسن العطار وجليل البزَّاز فشهِدا عليه بالكذب والاحتيال .. قضى يوسف الطاهر بضرب عنقه .. واحتشد الحيُّ ليشهد ضربَ عنقِهِ في الميدان، وقُبَيَلَ الشروع في التنفيذ جاء الوزير دندان في موكبٍ مهيبٍ.
٢٢
سرعانَ ما جمعَت حجرةُ القضاء بدار الحاكم بين دندان ويوسف الطاهر وحسام الفقي وبيومي الأرمل وعجر الحلاق .. قال دندان: أمرني مولاي بإعادة المحاكمة.
فقال يوسف الطاهر: سمعًا وطاعة أيها الوزيرُ.
فقال دندان: وافاهُ «المجنون» بأخبارٍ أراد أن يتحقَّقَ منها.
فَدُهِشَ يوسف الطاهر، وقال: ذلك المجنونُ المُصِرُّ على أنَّهُ جمصة البلطي؟
– هو بعينه.
– وهل صدَّقَهُ مولانا السلطانُ؟
فقال دندان بخشونةٍ: إني هنا لأحقِّقَ معكم لا لتُحقِّقوا معي.
وساد صمتٌ مُجَلَّلٌ بالرهبة، فسأل دندان يوسف الطاهر: أَلَكَ شقيقتانِ، إحداهما حَيَّةٌ والأخرى مختفيةٌ؟
فقال يوسف الطاهر: أَجَلْ يا سيدي الوزير.
– وهل مارسا حياةً داعرةً فاجرةً؟
قال يوسف الطاهر بصوتٍ متهدِجٍ: لو عرفْتُ ذلك ما سكَتُّ عنه.
فقال دندان: بل إنهما أسكتاكَ من قبل أن تتولَّى الإمارة بالإغداق عليكَ من المال الحرام!
فقال الحاكم: ما هي إلا خيالاتُ رجلٍ مجنونٍ.
فالتفَت دندان نحو حسام الفقي كاتمِ السرِّ، وقال: يُقال إنَّك تعرف كلَّ شيءٍ عن هذه القضيةِ، فبأمر السلطانِ أَدْلِ بما عندكَ، واحْذَرِ الكذبِ فقد يتسبَّبُ في ضرب عنقكَ.
انهار حسام الفقي تمامًا، فقال لائذًا بالنجاة ما وَسِعَه ذلك: جميعُ ما قيل حقٌّ لا ريبَ فيه.
فسأله دندان متجهِّمًا: ماذا تعرف عن اختفاء زهريار؟
– حَقَّقْتُ في ذلك بنفسي، فتَبيَّن لي أن أختها جلنار هي التي قتلَتْها بدافع الغَيْرة.
ودُعِي عجر للكلام فحكى حكايته من ساعة عشقه لجلنار حتى دَسَّ نفسه بين الصعاليكِ المقبوضِ عليهم.
٢٣
رُفعَتِ القضيةُ بحذافيرِها إلى السلطان شهريار، فأمَر بعزلِ يوسفَ الطاهرِ لفقدان الأهليةِ، وعَزْلِ حسامُ الفقي لِتَستُّرِه على رئيسه، وجَلْدِ حسن العطار وجليل البزَّاز وفاضل صنعان للسُّكْرِ والعربدة، ومصادرةِ أموال عجر الحلاقِ وإطلاقِ سراحِهِ.
وخلا دندان إلى ابنته شهرزاد فقال لها: لقد تغيَّر السلطان، وتَخلَّق منه شخصٌ جديدٌ مليءٌ بالتقوى والعدلِ.
ولكن شهرزاد قالت: ما زال جانبٌ منه غيرَ مأمونٍ، وما زالت يداه ملوثتَينِ بدماء الأبرياءِ.
•••
أما عجر فقد تناسى خسارتَهُ في فرحة النجاة .. وسرعان ما فسَخ العقد بينه وبين قمر، ومضى إلى النخلة غيرَ بعيدٍ من اللسان الأخضر، فانحنى أمام المجنونِ المتربِّعِ تحتها وقال بامتنانٍ: إني مدينٌ لك بحياتي أيُّها الوليُّ الطيبُ.