العِرق الذهَبي
- أحدهما: أن القصة التي ألخصها قديمة مثلت لأول مرة قبل الحرب الكبرى، وقد أعجب
بها الإيطاليون إعجابًا شديدًا، فعرضت عليهم مئات من المرات، وهي من أجل
هذا قد تظهر غريبة بعض الشيء أو غريبة كل الغرابة لهذا الجيل الذي ظهر بعد
الحرب الكبرى، وبعد أن تغيرت عقول الناس ومذاهبهم في الحكم على الأشياء، بل
في إحساس الأشياء والشعور بها.
على أن الترجمة الفرنسية لهذه القصة لم تمثَّل إلا منذ أعوام كما ترى في العنوان. وقد أحس الفرنسيون غرابة القصة عما ألفوا في التمثيل المعاصر، ولكنهم لم ينكروها ولم تنبُ عنها أذواقهم؛ لأن الموضوع الذي طرقته موضوع خالد ثابت في نفسه مهما تتغير الأطوار والظروف، ولأن المشكلة التي عرضت لها القصة مشكلة خليقة أن تظهر، بل هي تظهر بالفعل في كل زمان وفي كل بيئة، فإذا تغيَّرت طرق الناس في الشعور بها، ومذاهبهم في حلها؛ فإن المشكلة في نفسها لا تتغير ولا تمتنع من الظهور.
- الثاني: أن هذه القصة شديدة التأثر بمذهب معين في الأدب الإيطالي، وهو مذهب الشاعر الإيطالي العظيم ديونزيو الذي كان شديد العناية بتصوير بيئة خاصة لتمثيله تتألف قبل كل شيء من المظاهر والمعاني والأوضاع والأشكال التي تثير شعور الفنان، وتدفع الشاعر إلى الحنين ثم إلى قول الشعر. فهو يخلق بيئة شعرية فنية إن صح هذا التعبير، وهو يعرض عليك من المناظر هذه الصور والأشكال التي تعجب الشعراء وتدفعهم إلى قول الشعر؛ فهو في إحدى القصص مثلًا يعرض قصرًا جميلًا، ولكنه مهمَل قد تهدَّم، وأخذت آثاره يدركها العفاء، وهو في قصة أخرى يعرض قصرًا جميلًا فخمًا، ولكنه قد أثِّث تأثيثًا سيطر عليه الذوق الراقي في جملته وتفصيله. ثم هو — كما سترى بعد حين — يعتمد في قصته نفسها على مثل ما يعتمد عليه في المناظر من هذه المعاني الفنية الشعرية الخالصة، ومعنى هذا أنه يلتمس المؤثرات في أشخاص القصة وفي القصة وفي النظارة أنفسهم من الخارج، من أشياء لا تتصل بنفوس الممثلين والنظارة ولا تصدر عنها، وإنما تسعى إلى نفوس الممثلين والنظارة وتؤثر فيها.
والذين يحسنون العلم بالأدب الإيطالي الحديث، يعرفون أن بيراندلو قد غيَّر هذا المذهب تغييرًا، وأخذ يلتمس عناصر قصته، ومظاهرها، من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها؛ فهو يواجه المشكلات النفسية مباشرة، وهو يلتمس لها الحلول من الطرق النفسية الخالصة كأنه أستاذ يدرس ناحية من نواحي النفس، على أساليب العلماء البسكولوجيين.
فليس غريبًا إذن أن يكون الحديث عن هذه القصة شيئًا من الحديث عن تاريخ الأدب التمثيلي. فإذا لاحظنا أن حياة الناس مفعمة في هذه الأيام بالحوادث العظام التي تنسيهم أو تكاد تنسيهم الماضي، مهما يكن قريبًا؛ عرفنا أننا لا نتحدث عن قصة معاصرة وإن كانت قد أنشئت، وعرضت على النظارة، في هذا القرن الذي نعيش فيه.
والآن وقد فرغنا من هذه المقدمة التي لم يكن منها بد، نعمد إلى القصة نفسها، فنعرض خلاصتها عليك في إيجاز، ونترك لك الحكم على قيمتها الفنية الخالصة، وإن كان النقاد الفرنسيون والإيطاليون قد أجمعوا على الثناء عليها إجماعًا لم يكد يشذ عنه شاذ.
والمشكلة التي عرض لها الكاتب الإيطالي مألوفة — كما قلت — في كل زمان وفي كل بيئة، وهي مشكلة المرأة التي لا تتاح لها الحياة الزوجية إلا ريثما تصرف عنها صرفًا، ولكنها تصرف عنها وقد تركت لها ابنًا أو بنتًا فهي تشغل بتربية الابن أو البنت وتنشيئهما عن نفسها وقتًا ما، حتى إذا استكمل الفتى أو الفتاة حظه من التربية أتيح لهذه الأم من الفرص ما يذكرها بنفسها، ويوقظ عواطفها وميولها وأهواءها وغرائزها التي كانت نائمة أو كالنائمة. وإذا هي موضوع صراع عنيف بين غريزة الأمومة من جهة، وغريزة المرأة من جهة أخرى، وإن كانت غريزة الأمومة قد أرضت حاجتها، وأدت واجبها وأصبحت تستطيع أن تهدأ وتستقر. فانظر كيف صوَّر الكاتب هذه المشكلة، وانظر إلى الحل الذي عرضه لها.
فأما حين يُرفع الستار عن الفصل الأول، فنحن في قصر من قصور الأغنياء الإيطاليين في مدينة بولونيا، والخادم يُدخل زائرًا من الزائرين إلى حجرة الاستقبال، ويرجو منه أن ينتظر ريثما ينبئ سيده بمكانه. وهذا الزائر — كما سيظهر لنا أثناء القصة — شاعر قوي الشاعرية، قد بدأ يعرف في البيئات الأدبية، واسمه جي منفريدي. وهو ينتظر كما طُلب إليه أن ينتظر، ولكنه أثناء ذلك معجب بما حوله من التحف التي نُسقت تنسيقًا حسنًا، يدل على ذوق حسن؛ فهو ينظر كأنه يمتحن. وإنه لكذلك وإذا رجل شيخ قد دخل عليه وهو شديد النشاط، كثير المرح، لا يحب الصمت ولا يطيقه؛ فهو يتحدث إلى نفسه ويبذل جهدًا غير قليل لحمل هذا الشاعر على الحديث. وسنعرف بعد قليل أن هذا الشيخ أستاذ من أساتذة الطب العقلي، واسمه ألباني، وهو صديق للأسرة ملازم لها منذ عهد بعيد، له عندها حقوق وعليه لها واجبات. ثم يأتي سيد القصر بعد قليل، وهو شاب قد بلغ العشرين من عمره، عظيم الثروة، جميل الشكل، قوي، شديد النشاط، شديد الميل إلى الجد، قليل الحظ من اللهو والعبث، واسمه كونراد. وهو صديق الشاعر قد عرفه في روما، وقويت الصلة بينهما، وهو سعيد بمقدم صديقه، يريد أن يقضي معه وقتًا غير قصير في هذه المدينة، وهو يذهب ليدعو أمه، وتأتي أمه بعد قليل، ولكننا نعرفها قبل أن تُقبل، فهي امرأة شابة قد زوِّجت ولما تكد تبلغ السابعة عشرة من عمرها، ولم تقضِ مع زوجها إلا خمسة أشهر، ثم هجرها هذا الزوج وفارق إيطاليا كلها مع خليلة له روسية، ثم انقطعت عنها أخباره فلم تعرف من أمره شيئًا، ولكنه تركها حاملًا. ولم تكن قد أحبته حين زُفَّت إليه، فلم يكن حزنها لهجرانه إياها شديدًا، ولا لاذعًا، وإنما تعزَّت بانتظار الجنين، ثم شُغلت بابنها نفسه بعد مولده، فانصرفت عن الحب والحزن إلى هذا الطفل الذي وقفت عليه حياتها كلها. وها هي هذه تقبل فلا يكاد الشاعر يراها حتى يملكه إعجاب بها، ودهش لجمالها وشبابها، لا يكاد يخفيه. وليس من شك في أنها هي أيضًا لم تكد ترى الشاعر وتسمع بعض حديثه حتى وقع من نفسها موقعًا خاصًّا، ولكن التليفون يدعو. فإذا استجاب لدعائه عرف أن قريبة له هي إميلي تنبئه بمقدمها مع جماعة من أصحابها، وتريد أن تقضي في القصر ساعات فيها لهو، وشراب، وطعام.
ونعلم نحن بعد حين من أمر هذه السيدة أنها صاحبة دعابة ومجون، وأنها تتبع فتى القصر بدعابتها ومجونها؛ لأنها تهواه كما تهوى كل فتى له حظ من جمال وشباب. وقد أقبلت وأقبل معها أصحابها، وهُيئ لهم مجلس اللهو في الحديقة، فخرجوا يلهون. ولكنها انتهزت فرصة فتحدثت إلى الفتى بحبها ودعته إلى زيارتها، وسمع لها الفتى في غير رفض وفي غير إباء. وقد أحسَّت أمه هذا وهي مشفقة عليه من هذه المرأة بعض الشيء، تخاف أن تصرفه عنها. على أننا لا نلبث أن نرى ماريا، وهي سيدة القصر قد أقبلت إلى الغرفة كأنها تريد العزلة، فهي في غير حاجة إلى الطعام، ولا إلى الشراب، ولا إلى اللهو. ولكنها لا تلبث أن ترى الشاعر قد أقبل؛ لأنه أيضًا ليس في حاجة إلى شراب ولا إلى لهو. وهما يتحدثان، ويتحدثان عن كنيسة قريبة قد زارها الشاعر منذ أعوام حين استكشف قسيسها في فنائها قبرًا قديمًا عليه نقش قديم، وقد عرف الشاعر والقسيس من هذا النقش أن صاحبة القبر فتاة يونانية، وأن القبر كان قد أعدَّ لها ولزوجها، فدفنت فيه وحدها لأن زوجها قد دُفع إلى ما كان يدفع إليه حكامُ الأقاليم في ذلك الوقت من حروب قلما يعود المدفوعون إليها، فهي في قبرها وحدها تنتظر زوجها منذ عهد بعيد، وانتظارها هذا يلهم الشاعر ويثير في نفسه موضوعًا سينظم فيه ديوانًا خاصًّا. وواضح جدًّا أن قصة هذه الفتاة اليونانية التي تنتظر زوجها في القبر منذ قرون تشبه إلى حد ما قصة صاحبة القصر التي ذهب عنها زوجها منذ أعوام طوال، فهي تنتظره أو تنتظر غيره. هي تنتظر على كل حال، وقد فهمنا نحن من الحديث بين الشاعر وهذه المرأة أن صلة قوية قد نشأت بين نفسيهما وإن كانا لم يشعرا بها شعورًا واضحًا.
ومهما يكن من شيء فإن الستار لا يكاد يُرفع عن الفصل الثاني حتى يتبين أن هذه الصلة لم تكن عبثًا ولا ظنًّا، وإنما كانت حقًّا، وكانت أدنى إلى الجد من كل تقدير. فنحن حين يُرفع الستار عن الفصل الثاني في نفس المكان الذي كنا فيه أثناء الفصل الأول، ونحن نرى كونراد كئيبًا كاسف البال، مشرد النفس، لا يكاد يحفل بأحد ولا يكاد يفرغ لشيء، وقد أقبلت عليه صاحبته فهي تحدثه وتداعبه وتنبئه بأنها انتظرته للموعد الذي كان بينهما، فلما أبطأ عليها سعت إليه، ولكنه عنها مشغول، لا يكاد يلتفت إليها، ولا يحفل بحديثها، وهذا الأستاذ الطبيب قد أقبل، فلم يظفر من عناية الفتاة بشيء. ونحن نفهم من حديثهم جميعًا أن قد مضت أشهر على ما رأينا في الفصل الأول، وأن صاحبة القصر قد خرجت مع الشاعر كعهدها منذ زمن طويل، تزور الآثار والمناظر الطبيعية الرائعة. لم يمنعها من ذلك هذا البرد الشديد ولا هذا الثلج الذي يسقط متصلًا ملحًّا. ثم لا تكاد تمضي لحظات حتى تعود صاحبة القصر، ومعها شاعرها، وهما مفتونان بجمال ما شهدا من المناظر، وما زارا من المتاحف والآثار، وهي خاصةً سعيدة كل السعادة بما رأت وبما شهدت، تتحدث عن ذلك كله حديث المشغوف به، إلى أقصى حدود الشغف، وهي تحس من ابنها فتورًا وازورارًا، فتسأله عن ذلك، فلا يجيبها بشيء. على أنها لا تلح في السؤال، كأنها مشغولة عن ابنها بما يملأ نفسها من جمال ما رأت وما سمعت وما أحست. ونشعر نحن بأن الفتى يألم لذلك أشد الألم، ويضيق به أشد الضيق، على أن أمه لا تكتفي بخروجها مع هذا الشاعر وانصرافها إليه وافتتانها به. ولكنها تدبر في غير تكلف لاتصال العلاقات بينهما، فهي تنظم خروجها معه إذا كان الغد، وسفرها معه بعد أيام لزيارة بعض الآثار، وهي تدعوه للعشاء معها هذا المساء، وللإفطار معها من الغد، والفتى يسمع ويرى وينكر في غير قول. حتى إذا تفرق الناس ولم يبقَ إلا الفتى وأمه، وهذا الشاعر، لم تلبث الخصومة أن تظهر بين الفتى والشاعر يسيرة أول الأمر، ثم قوية شديدة العنف. فالفتى مغيظ محنق، وهو يسخر بهذه الآثار التي تزورها أمه مع هذا الشاعر، ويسخر خاصة بمذهب الشاعر في فهم الأشياء، والحكم عليها. فهذا الشاعر يفسد الأشياء الجميلة بتصوره لها على هذا النحو الغريب. هذه الفتاة اليونانية التي استكشف قبرها في الكنيسة والتي زعم الشاعر أنها كانت عاشقة فحيل بينها وبين زوجها وظلت تنتظره قرونًا، هذه الفتاة كان الناس يرونها قديسة، وكانوا يلتمسون عندها ما يلتمس عند القديسين من المعونة والعزاء، فأصبحت الآن عاشقة مفتونة يلهو بحديثها الشعراء وأصحاب المجون ولا يلتمس الشعب عندها معونة ولا عزاء. وما يزال الحديث بين هذين الرجلين يسوء ويسرف في السوء حتى يبلغ الفتى الغيظ، وإذا هو ينصرف من الحجرة ثائرًا مهتاجًا، ويدع الشاعر وأمه حائرين بل مختلطين، فهما قد عرفا ما يحزن الفتى وما يسوءه، فقد استكشف الفتى ما بينهما من حب، وقد ثارت الغيرة في نفسه فأفسدت عليه أمره ومزاجه، وأخرجته عن طوره. وهما يستيقنان الآن بأن بينهما حبًّا، دُفعا إليه دفعًا، وليس فيه من شك. وهذه الأم نادمة على حبها، محزونة على ابنها، مدفوعة إلى التضحية بهذه الحياة الحلوة التي كانت تبسم لها، لتقصر حبها على ابنها الشاب.
وهذان العاشقان يفترقان إلى غير لقاء، وهذه المرأة محطمة تبكي أملها، الذي لم يشرق إلا ليستحيل إلى ظلمة قاتمة، ويأس مهلك. ويعود الفتى بعد حين، فتنبئه أمه بأن الشاعر قد مضى إلى غير رجعة، وإذا هو يجثو أمامها، ويضع رأسه في حجرها ويبكي بكاء مرًّا.
ثم يُرفع الستار عن الفصل الثالث بعد عام، وإذا نحن في الغرفة نفسها نرى الأم ضعيفة منهوكة قد بلغ منها الجهد، وابنها يمرِّضها، ويطبُّ لها، مخلصًا شفيقًا. ويُفهم من الحديث أنهما أنفقا عامهما في السياحة التماسًا لشفاء هذه المرأة من علتها المجهولة فلم يظفرا بشيء. وقد أقبلت صاحبة الفتى زائرة مسلمة، وأقبل الطبيب كذلك زائرًا مسلِّمًا، وهو يلح على هذه المرأة في أن تخرج معه، ليمتحنها أولًا، ثم ليزور معها ملجأ لليتامى كثيرًا ما كانت تزوره قبل سفرها. وهي تخرج ويتبعها الطبيب، ثم يعود بعد حين فيخلو إلى الفتى وينبئه بأن أمه لا تشكو علة معروفة وإنما تشكو شيئًا غامضًا، وهو يحاول أن يوضح هذا الشيء الغامض فيجد في ذلك مشقة، ولكنه ينتهي إلى الصراحة فيلفت الفتى إلى أن أمه ما زالت في ريعان الشباب، وأنها قد كظمت عواطفها وغرائزها، ومن الجائز أن تكون هذه العواطف والغرائز المكظومة قد صادفت ما أثارها، فلا بد من الاعتراف بالحق ومن مواجهته بشجاعة وصراحة، فعواطف الناس وغرائزهم موجودة، ولها قوتها وسلطانها، وقد تستطيع الإرادة أن تقهرها ولكنها هي تستطيع أن تحطم الجسم تحطيمًا، تفنيه إفناءً. والفتى يدافع الطبيب عن هذا القول، ولكن الطبيب قد ألقى كلامه، وطلب إلى الفتى أن يكون شجاعًا وأن يواجه الحقائق الواقعة في غير جبن ولا نفاق.
وقد انصرف الطبيب وظل الفتى وحده لحظة، وقد انجلى له الأمر، ووضحت أمامه الحقيقة، فهو جزع يبكي ما وسعه البكاء. وهذه صاحبته قد عادت إليه، وهي تتحدث بأحاديثها أثناء غيبته، وهي تدعوه إليها يائسة منه، ولكنه يستبقي ردها، وحبها أيضًا. وهي تنبئه بأن الشاعر في المدينة يتردد على الكنيسة منذ شهرين، فلا يكاد يسمع ذلك حتى يعود إليه تفكيره فيما كان يفكر فيه، وإذا هو يتناول القلم ويخط أسطرًا ويدعو الخادم ويدفعها إليه، ولا يكاد يخلو إلى نفسه لحظات، حتى يعود الخادم فينبئه بأن الشاعر مقبل في أثره. وهذا الشاعر قد أقبل والفتى يلقاه باكيًا مغرقًا في البكاء. والفتى يريد أن يتحدث إليه بما في نفسه فلا يستطيع؛ لأن موضوع الحديث دقيق عسير، والشاعر يسأل الفتى ما خطبه، وما يحزنه، ولكن لا يحير جوابًا، وما يزال الشاعر يسأل والفتى يتعثر في الجواب حتى يفهم عنه الشاعر بعض ما كان يريد، وإذا الشاعر يهوِّن على الفتى ويعزيه، ويقول له: لقد رأيت قومًا يحفرون في الأرض وينغمسون في التراب والطين حتى يعلوهم الكدر، بل يشملهم، ولكنهم آخر الأمر ينتهون إلى العرق الذهبي الذي كانوا يبحثون عنه، فهم سعداء بما انتهوا إليه، لا يحفلون بما علق بهم من التراب والطين ما داموا قد انتهوا إلى الذهب. وأنت كهؤلاء الناس قد أخذت تبحث في أعماق نفسك، بل في أعماق النفس الإنسانية، وتنغمس في كدر الغرائز وسيئاتها وآثامها، حتى انتهيت إلى العرق الذهبي وعرفت أن للطبيعة حقها وأن الأمومة لا تقضي بأن تفنى الأم في ابنها، وأن البنوة لا تقضي بأن يملك الابن أمه. وقد فهم كل من الرجلين عن صاحبه. وهذا الفتى يدعو الشاعر إلى أن يستأنف تردده على القصر، ثم تُقبل الأم متعبة مكدودة فيلقاها ابنها متجلدًا، وهو ينبئها بأنه قد رأى الشاعر، وبأن الشاعر سيستأنف زيارته كل يوم منذ هذا المساء، والأم تسمع هذا الحديث فيكاد يصعقها، وقد فهمت عن ابنها، وعرفت أنه قد فهم، وهي مستخذية وهي سعيدة، وهي صامتة ودموعها تنحدر متصلة في غير كلام، ولا حركة، وقد نهض الفتى إلى أمه فضمها إليه، وألصق وجهها إلى وجهه، وامتزجت دموعهما.