كنتُ أنتظرك
قد لا تكون هذه القصة ملائمة لما أَلِف القراء أن أتحدث إليهم فيه؛ لأن موضوعها يتجاوز إلى حد بعيد ما نحب نحن ألا نتجاوزه في أحاديثنا من الأوضاع والتقاليد، ولكنها مع ذلك خليقة بأن نقف عندها اليوم؛ لأنها قيمة ممتعة من جهة، ولأنها تمثل لونًا من ألوان الأدب التمثيلي الفرنسي عاش أعوامًا، ثم انقضى عهده واستحال إلى طور جديد، وهو أدب الشباب الذين أخذوا يكتبون في أعقاب الحرب الكبرى متأثرين بما أحدثت هذه الحرب في حياة الناس وأخلاقهم، وأحكامهم على الأشياء، وتقديرهم لها من فساد واضطراب. كان أخص ما يمتاز به هذا الأدب لا في التمثيل وحده بل في غيره من الفنون الأدبية: ازدراؤه للعرف، وخروجه على التقاليد، واستهزاؤه بما ألف الناس، وانصرافه عما أحبوا، واسقباله للحياة على أنها لغو لا غاية لها، ولا قوام من المثل الأعلى، وإنما هي أيام تقضى فُرضت على الناس فرضًا، دخل الناس فيها كارهين، وسيخرجون منها كارهين، لا يملكون لها إصلاحًا، ولا تدبيرًا، وإنما تملكهم هي وتقهرهم ظروفها الطارئة فتعبث بهم، وتجشمهم ما يكرهون. فلا بد للناس إذن من أن يأخذوا هذه الحياة كما هي، ومن أن يسخروا من الظروف كما تسخر منهم الظروف، ومن أن يزدروا التقاليد التي أقيمت عليها حياة الجيل السابق فانتهت إلى كارثة الحرب، وأقامت الأدلة الناصعة على أن حضارة الناس، وقواعدهم كلها، عبث لا خير فيه.
ومن أجل هذا كله أصبح الشباب الذين ظهروا في الأدب بعد الحرب أصحاب لذة وتهالك على المنفعة واستخفاف بالخلق، يقبلون على ذلك في سيرتهم العملية ويصوِّرون ذلك في آثارهم الأدبية. وكان الجيل الذي سبقهم يكره ذلك منهم ويضيق به، ويقاومهم رفيقًا بهم حينًا وعنيفًا عليهم حينًا آخر. وما زال هذا النزاع متصلًا بين شيوخ الجيل القديم وشباب الجيل الحديث، حتى فعلت الأيام فعلها وأحدثت الحياة آثارها وثاب إلى الشباب بعد أن تقدمت بهم السن قليلًا شيء من رشد، وفضل من صواب. فأما الذين كانوا يتخذون الخروج على التقاليد وازدراء المألوف مذهبًا وطريقًا إلى الظهور، دون أن تكون لهم من وراء ذلك قيمة صحيحة؛ فقد خمدت نارهم، وذهبت ريحهم، وغمرتهم الحياة. وأما الذين كانوا يذهبون في ذلك مذهب المجاراة ولهم من ورائه قوة فنية تقدر على المقاومة وتثبت للتطور؛ فقد ردوا شيئًا فشيئًا إلى القصد والاعتدال، وانجلت عنهم الغمرة، وقد استقرت قلوبهم في صدورهم، وهدأت عواطفهم الثائرة، واتخذت نفوسهم الجامحة سبيلًا قصدًا إلى الإنتاج الأدبي القيم. وكان كاتبنا من هؤلاء، فقد قدَّم قصته الأولى إلى الملعب ولما يتجاوز العشرين، وكان أشخاص قصته الأولى كلهم غلمانًا مثله، وكان يشهد تمثيل هذه القصة ويرى إعجاب الناس بها، ورضاهم عنها، وهو هادئ مطمئن لا يزدهيه الفوز ولا يبطره النجاح، ولا يخرجه عن طوره إسراع أمه إليه تقبِّله فيما بين الفصول، بأعين النظارة الذين كانوا يرون ذلك فيشتد إعجابهم به وتصفيقهم له.
ومضى هذا الشاب أو هذا الغلام الحدث في إنتاجه الأدبي الجريء، يخرج القصة والقصتين في كل عام، ويظفر بالفوز المتصل، وعقله في أثناء ذلك ينمو، وقلبه في أثناء ذلك يعتدل، حتى انتهى سنة ١٩٢٨ إلى هذه القصة التي أتخذها اليوم موضوعًا لهذا الحديث، ولم يكن حين قدَّمها للملعب قد جاوز الثامنة والعشرين، وإذا النقاد يلاحظون تطوره واستقرار قلبه وهدوء نفسه، وتغلُّب عقله على عواطفه، وتسلُّط عقله على فنه أيضًا، فيسمونه الشاب الحكيم. وأحب أن تلاحظ أن هذه القصة قد استبقت بعض ما أَلِف هؤلاء الشباب من التقاليد الفنية، ولكنها مع ذلك قد خطت نحو الروية والاعتدال خطوات بعيدة، فهي صراع على الحب بين الشباب المحدثين والكهول الذين تقدمت بهم السن، وهي من هذه الناحية حرة طلقة لا تكاد تتقيد بعادة أو تقليد. وحسبك أنها تنشأ في حانة من الحانات بين الرقص والعزف والتهالك على الشراب. وحسبك أن أشخاصها جميعًا عشاق أصحاب لذة ولهو غير مباح، فكلهم خليل أو خليلة. ولا تكاد ترى فيهم زوجًا، بل نحن نسمع أثناء القصة حديث امرأة متزوجة، تهم باللهو والخيانة، ولكنها في آخر الأمر تحجم عنهما إحجامًا، تخاف العاقبة، فتأبى أن تتجاوز حدود القانون.
ولكن القصة من ناحية أخرى تنتهي إلى شيء من تحكيم العقل والإذعان لما ليس منه بد، والتسليم بأن الفتيات للفتيان، والشيخات للشيوخ، وبأن من الخطأ أن يعدو الشيوخ على الشباب فيستأثروا بحبهم دون الذين يلائمونهم في السن ويقاربونهم في النشاط وتصور الأشياء، والحكم عليها. وأخرى لا بد من أن نلاحظها، وهي مهارة الكاتب في هذه القصة، هذه المهارة التي مكنته من أن ينشئ القصة متحدة متسقة متناسبة الأجزاء، ولكن كل فصل من فصولها يستطيع مع ذلك أن يستقل ويكون قصة قائمة بنفسها يمكن الوقوف عندها، والاكتفاء بها.
ولست أطيل في ذكر ما تمتاز به هذه القصة أيضًا من جمال الحوار ورشاقته، وتكوُّنه من جمل، قصار سراع يلي بعضها بعضًا، في خفة كأنها الطير تستبق في جو جميل.
ونحن نشهد في أول القصة حانة من الحانات، ذات شقين، يفصل بينهما ستار يحجب الأشياء والأشخاص، ولكنه لا يحجب الأصوات. فأما أحد هذين الشقين فمستقر الخدم، والخزانة، ومستودع الشراب، وفيه مجالس قليلة للذين يحبون العزلة ويؤثرون الهدوء. وأما الشق الثاني من وراء الستار، ففيه المرقص، وفيه مجالس اللاهين واللاهيات، ونحن نسمع أصوات الموسيقى، فنفهم اتصال الرقص حتى إذا ما انقطعت هذه الأصوات عرفنا أن الرقص نفسه قد انقطع. ونحن نرى الخدم يذهبون ويجيئون ويحملون إلى الناس من وراء الستار ما يطلبون من شراب. ونحن نرى أشخاصًا قد آثروا العزلة، فجلسوا في الناحية الهادئة المطمئنة، ولكن بعضهم يختلف إلى المرقص بين حين وحين ليتمكن بعضهم الآخر من أن يفرغ للحديث ويدبر من أمره ما يريد.
وهؤلاء الأشخاص، الذين سنراهم يضطربون في القصة كلها ليسوا كثيرين، وإنما هم فتى مصور في الخامسة والعشرين، هو جان فافييه، وخليلته مادلين امرأة قد تقدمت بها السن، ولعلها قد نيَّفت على الثلاثين، وصديق لهما اسمه جاستون ساذج ضعيف الرأي، يكاد يكون مضحك القصة، ثم رجل آخر قد تقدمت به السن، ولعله جاوز الأربعين، وهو بيير فروملان. وهو يحب فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، واسمها كوليت. ونحن في أول القصة نرى رجلًا غريبًا يتردد في الحانة في شيء من الحذر ومدير الحانة ينكره، أو هو يعرفه ولكنه ينكر وجوده في هذه الحانة ويدعوه إلى أن ينصرف أو إلى أن يستخفي، ونفهم نحن أن هذا الرجل شخص من هؤلاء الأشخاص الذين يصطنعون تتبع الناس والبحث عن أسرارهم ودخائلهم واستكشاف ما يقدمون عليه من أمر حين يذهبون أو يجيئون.
وهذا جاستون الذي قدمت ذكره قد أقبل ساذجًا مغرورًا، فاحتجز مائدة هادئة في ناحية معتزلة، وأنبأ أن صديقيه قادمان بعد حين، وهو يداعب مدير الحانة ويمازحه، وهذان الصديقان قد أقبلا فإذا امرأة جميلة هادئة النفس، حلوة الحديث عذبة الروح قوية الحب، وإذا معها فتى قلق مضطرب، شديد الحيرة لا يكاد يستقر ولا يرضى عن شيء، ولا يطمئن إلى شيء، ولا يعرف ما يريد، وهو يحب صاحبته ولكنه معتدل في حبه، صادق فيه أيضًا. وهي تود لو كان حبه أقل اعتدالًا، وأشد حرارة، ولكنها تعلم أن ليس إلى ذلك من سبيل. فصاحبها مصور يحب فنه، ويخضع لما يخضع له أصحاب الفن من هذه الخصال الشاذة التي تدفعهم إلى غير المألوف، والتي تحببهم إلى النساء أيضًا. فصاحبته مذعنة على كرهٍ منها لهذا الحب المعتدل، صابرة على ما تقاسي من شقاء، ومن حرمان. وقد خلا الفتى لحظة إلى صديقه، ففهمنا من حديثهما أن هذا الفتى المصور كثير التنقل بهواه وحبه. وهو يحب صاحبته هذه، ولكنه يفلت منها بين وقت ووقت، ليستمتع بلذات الحياة بين ذراعي هذه المرأة أو تلك، على أنه لا يستقر بين هذه الأذرع التي تتلقاه إلا ريثما يفلت منها ليعود إلى صاحبته مادلين. هو يطلب شيئًا لا يبلغه، وهو لا يبلغه لأنه لا يحققه في نفسه. وهذه ضحية من ضحاياه، قد كانت في المرقص، فلما رأت مادلين مشغولة مع بعض الناس أقبلت إلى الفتى تعاتبه وتستعطفه، ثم استيأست منه فعادت إلى حيث كانت تلتمس في اللهو عزاء عن هذا الهجران.
ولكن الفتى شديد الاضطراب هذه الليلة، في نفسه أمر عظيم، فقد رأى في طريقه عربة يركبها اثنان: رجل لم يحفل به، وامرأة لم يكد يراها حتى راعته. وكأنه قد راعها أيضًا، فقد اشتبكت أعينهما، ولم تكد تفترق إلا بعد جهد. وهو مستيقن بأن هذه المرأة هي مثله الأعلى الذي يسمو إليه ويلح في طلبه، ولا بدَّ له من أن يصل إلى هذه المرأة. هو لا يعرفها ولا يعرف من أمرها شيئًا، ولكنه مع ذلك واثق بأنه سيهتدي إليها؛ فقد أخذ رقم العربة التي كانت تركبها، وسيسأل في دائرة الشرطة عن صاحب هذه العربة، فإذا عرف اسمه فقد يسر له كل شيء. وصديقه جاستون يسخر منه، ويهدئ من اضطرابه، ولكن الظروف لم تكن تسخر منه، وإنما كانت تريد أن تؤاتيه وتعينه على ما يحب. فهذان شخصان يقبلان ولا يكاد الفتى يراهما حتى يعرف صاحبته التي رآها في العربة، وهي أيضًا قد عرفته، وقد اشتبكت أعينهما مرة أخرى، ولا بدَّ من أن يلتقيا ومن أن يتحدثا. وليس في ذلك مشقة، فقد أراد الكاتب أن يحمل الظروف ما لم تتعود أن تحتمل، ويكلفها أن تكون مؤاتية دائمًا.
فهذه مادلين قد أقبلت من المرقص، فإذا هي تعرف هذا الرجل الذي يصحب هذه المرأة. تعرفه معرفة قوية متينة، وتعرفه منذ زمن بعيد. وهي إذن ستحييه وستقدم إليه صاحبها الفتى، وهو إذن سيقدم إليهما وإلى صديقهما صاحبته الفتاة، وها هم أولاء جميعًا قد عرف بعضهم بعضًا وجلس بعضهم إلى بعض، واشتركوا في الشراب والحديث، إلا هذا الفتى، فإنه قد اختفى لحظة ليتحدث في التليفون. على أن لحظة التليفون هذه قد طالت وأسرفت في الطول، وفي أثناء ذلك شرب القوم وتحدثوا ونهض بيير ومادلين، إلى المرقص، وخلت كوليت، فهي تطلب إلى الخادم أن يدعو هذا الفتى المستخفي في غرفة التليفون. ويُقبل الفتى فيتعارفان ويتحادثان، ويجهر كل واحد منهما لصاحبه بحب قوي عنيف فيه صراحة وفيه جرأة وفيه أمل وفيه إشفاق، وفيه على كل حال محاولة للتجربة. فكلا العاشقين لم يرضَ عن نفسه، ولا عن حبه، قبل الليلة، وكلاهما يرجو أن يظفر بهذا الرضى، غدًا حين يلتقيان مع المساء، ولا بأس في أثناء ذلك من أن يصرف الفتى مدير الحانة لحظة ليخلو إلى صاحبته خلوة تمكنه من الحديث الحر والقبلة المختلَسة. على أن الأمر لا يلبث أن يعود إلى نظامه المألوف؛ فقد رجع الراقصون من رقصهم، واستأنف القوم جميعًا ما كانوا فيه من شراب وحديث.
وإذن فقد عرض الكاتب علينا في هذا الفصل صورة هذين الشابين اللذين يملكهما حب عنيف لا موضوع له، واللذين يعيش كل واحد منهما مع شخص آخر أكبر منه سنًّا، يرضيه ولكنه لا يواتيه، ولا يحقق مثله الأعلى. وقد التقى هذان الشابان، فكان كل واحد منهما بادئ الرأي مرآة لصاحبه، فهما يريدان أن يتصل بينهما اللقاء لعلهما يبلغان هذا المثل الأعلى الذي يسعيان إليه.
فإذا كان الفصل الثاني، فالتجربة فيما يظهر ناجحة نجاحًا حسنًا — كما يقولون — والعاشقان يمضيان فيها يريدان أن ينتهيا بها إلى غايتها. كانا يلتقيان في المساء من كل يوم فيخيل إليهما كلما التقيا أنهما يلتقيان لأول مرة، وكانا يضيقان بهذه الخيانة التي يمعنان فيها لصاحبيهما البريئين فيزمعان أن يكون لقاؤهما لآخر مرة، فإذا همَّا أن يفترقا ضربا موعد اللقاء للغد، وقد استيقنا بنجاح التجربة. ولكنهما يريدان أن يخطُوَا بها خطوة أخرى، فلا بدَّ لهما من أن يقضيا معًا ليلة كاملة، ومن أن يفرق بينهما النوم، ثم تجمعهما اليقظة. فإن ظهر بعد ذلك أنهما عاشقان، وأن أحدًا منهما لم يشقَ بصاحبه، ولم يكره من عشرته في اليقظة والنوم شيئًا، أقدم على الحب الصحيح والعشرة المتصلة الصريحة. وهما من أجل ذلك قد تواعدا على أن يلتقيا في مدينة غير باريس هي مدينة أورليان. فأما الفتى فقد زعم لصاحبته مادلين أن عملًا يدعوه إلى هذه المدينة، وأنه سيغيب عن باريس أربعًا وعشرين ساعة. وأما الفتاة، فقد زعمت لصاحبها بيير أنها تريد أن تزور جدتها في مدينة ليست بعيدة عن أورليان، وأنها ستغيب عن باريس أربعًا وعشرين ساعة أيضًا. وسافر الفتى في سيارته وسافرت الفتاة في القطار، واتفقا على أن يلتقيا في فندق عيَّناه في مدينة أورليان. على أن الفتى قد قدم بين يديه صديقه جاستون ليعينه على انتظار صاحبته، وليغنيه عن التكاليف المادية ليفرغ هو لعشقه وهواه. ولم يُرِد جاستون أن يكون وحيدًا في هذه الرحلة، فاتفق مع امرأة يعرفها على أن تلحق به في الفندق، وقدَّر أنه لن يكون وحيدًا بينما ينعم صاحباه بحبهما هذا الغريب.
ونحن في أول الفصل الثاني نرى جاستون قد سبق إلى الفندق، فاحتجز غرفتين؛ إحداهما لصاحبه والأخرى له ولصاحبته. وهو يتحدث بكل هذا الذي قدمتُهُ إلى خادمة الفندق في غير تحفظ ولا احتياط؛ لأنه لا يستطيع أن يخفي شيئًا. وهذا صاحبه قد أقبل وهما جميعًا ينتظران، كلٌّ ينتظر صاحبته، ولكن القطار يُقبل فتأتي كوليت وقد استخفى جاستون؛ ذهب يلتمس صاحبته. وخلا العاشقان، فحدِّث ما شئتَ عما يجدان من سعادة وغبطة. هذه الخادم تحمل إليهما طعامهما، فلا يكادان يصيبان منه شيئًا، إنما يشربان ويمضيان في حديث الحب … ولكن الباب يطرق ويدخل جاستون محزونًا ينبئ بأنه انتظر قطارًا وقطارًا، فلم تأتِ صاحبته. وقد رأت كوليت هذا الرجل فضاقت به، وأفاقت من نشوة الحب والخمر، وعرفت أن حبها ليس سرًّا، وأن صديقها قد أشرك ثالثًا في هذا السر، فأحفظها ذلك، وهمَّت أن تنصرف لولا أن الليل قد تقدم. ولكنها على كل حال، قد يئست من حبها، وأعرضت عن صاحبها، وذرفت على آمالها بعض الدموع. والفتى خزيان يحاول الاعتذار، فلا يبلغ شيئًا، وقد فتر حبهما وضاق كل منهما بصاحبه، وأخذا يلتمسان أسباب التسلية، فهو يعرض عليها الخروج للنزهة، ولكن الليل قد تقدم، وهما قد شربا وأسرفا، فخير ما يستطيعان أن يصنعا هو النوم.
وقد ذهب كل منهما ليصلح من شأنه قبل النوم، ولكن رجلًا يدخل الغرفة متنكرًا في زي خادم من الخدم ويأخذ في البحث. وإنه لكذلك وإذا جاستون يعود فيفاجئه ويفضح أمره؛ فهو هذا الرجل الذي رأيناه في الفصل الأول يتتبع أسرار الناس ويراقبهم، وقد فهمنا أن صاحبة الفتى وصاحب الفتاة قد شكَّا في الأمر، وفزعا إلى هذا الرجل، كل على انفراد وطلبا إليه أن يتتبع هذين العاشقين ويبلو أخبارهما. وقد عاد العاشقان، ورأيا هذا الرجل وأنذراه بالشرطة، ثم اتفقا معه على أن ينظم أمرهما وأمره إذا كان الغد. وأقبلا على سريرهما فاستقبلا فيه النوم.
ثم يُرفع الستار بعد لحظة قصيرة، ولكنها تصوِّر الليل كله، وشطرًا من النهار، وإذا الخادم تطرق الباب تريد أن تحمل إليهما طعام الإفطار، فيستيقظان دهشين أشد الدهش، فهما سعيدان، قد أسرَّا سعادتهما إلى الليل، واستقبلا النهار المشرق بآثار هذه السعادة، وهما مبتهجان قد استيقنا نجاح التجربة ولم يبقَ لهما بدٌّ من الإذعان لحكم هذا الحب، فسيعيشان معًا عيشة لا تحفُّظ فيها ولا تستُّر. وهذا رقيبهما قد أقبل، فلم يكد يراهما حتى استيقن أنه يرى عاشقين، وإذا هو يساومهما في إخفاء السر، ويملي شروطه، فيدفعان إليه ما طلب من مال. على أنه لا يكاد ينصرف حتى يلقي نظرة على هذين العاشقين السعيدين يمتلئ لها قلبه حنانًا، فيرد إليهما نصف ما أخذ وينصرف مسرعًا.
فإذا رُفع الستار عن الفصل الثالث، فنحن في باريس عند مادلين في مساء اليوم نفسه، ونحن نراها ظاهرة القلق بيِّنة الاضطراب، تنظر إلى الساعة وتسأل في التليفون، تتعجل مقدم الفتى وتنتظر مقدم الرقيب. ثم تُحمَل إليها رسالة برقية تنبئها بمقدم الفتى للعشاء. وإنها لفي هذا الاضطراب، وإذا شريكها في الحزن والخوف، بيير، قد أقبل فتلقاه باسمة ويحاول كل منهما أن يخفي على صاحبه قلقه، ولكن هذا القلق أقوى من أن يخفى، فيفضي كل منهما بخوفه إلى صاحبه ويُظهر كل منهما الرسالة البرقية التي تلقاها. وهذا الرقيب قد أقبل فأنبأهما بأنه راقب الفتى وأن أحد أعوانه راقب الفتاة وبأنهما لم يلتقيا، وإنما ذهب كل منهما إلى الوجهة التي أنبأ بأنه ذاهب إليها، وينبئهما بالرسالتين البرقيتين وقد حفظا نصهما، ثم يأخذ أجره وينصرف وهما سعيدان قد عادت إليهما الثقة ورجع إليهما الاطمئنان. وهما يلومان أنفسهما على الشك ويعيبان أنفسهما بهذه الريبة العجِلة. ولكن طارقًا يطرق ثم يدخل، وهو جاستون، ولا يكاد يتحدث إليهما حتى يزعم لهما أن الجو كان صحوًا صباح اليوم، فيدهشان لأن المطر لم يقلع عن باريس طول النهار، فإذا ألحا عليه في السؤال اضطرب ثم افتضح سره فأنبأ بكل شيء، وانصرف خزيان، وقد أفسد صدقه ما كان قد أصلحه كذب الرقيب. وهنا أروع أجزاء القصة؛ حوار من أرقى ما كتب الفرنسيون في هذه الأعوام الأخيرة. هذه المرأة ثائرة يائسة محنقة على هذه الفتاة التي اختلست منها أملها وحياتها اختلاسًا، وهذا الرجل محزون يكاد يقتله الكمد، ولكنه مع ذلك يتجلد ويحكِّم عقله، ويهدئ صاحبته ويثبت لها أن من الإثم أن تطغى الكهولة على الشباب، وأن من حق هذين الفتيين أن يتحابا؛ فقد خُلقا كل منهما لصاحبه، وانتظر كل منهما صاحبه، ثم التقيا كأنما كانا على ميعاد. ثم هو يتعمق نفسه ويبحث عن أسرار قلبه وينظر إلى الماضي البعيد، فيحيي ذكريات كانت بينه وبين مادلين، كان فيها شيء من حنان أوشك أن يكون حبًّا. وإذن فما يمنعهما أن يستعينا بهذه الذكريات الحلوة على هذه الأحداث المرة، وأن يستقبلا الخطب متعاونين، وأن يبتسما للحياة الشاحبة ابتسامًا شاحبًا، يلائم سنهما ويلائم محنتهما! وهذا التليفون يدعو فلا تشك مادلين في أن الفتى ينبئها بمقدمه، وهي ثائرة، ولكن صاحبها يهدئها وينصح لها تكلُّف الجهل لكل شيء، وهي تجيب صاحبها في التليفون وتتكلف الجهل في مشقة وجهد، ولا تكاد تفرغ حتى يدعو التليفون مرة أخرى، وإذا كوليت تسأل عن صاحبها، وإذا الرجل يريد أن يتكلف الجهل والصبر، فلا يوفَّق إلى ذلك إلا في مشقة وعنف. كان قادرًا على إسداء النصح لغيره، فلما عرضت له المحنة كان حبه أكبر من عقله وأقوى. وهذه مادلين تبكي، وهو مع ذلك يمضي في تعزيتها وتسليتها، ويحاول أن يفتح لها ولنفسه أبوابًا من الأمل في حياة يشتركان فيها اشتراكًا. وهذا طارق يطرق فلا يشكَّان في أنه الفتى، فيأخذ بيير صديقته بأن تلقاه كما تعودت أن تلقاه دائمًا باسمة مبتهجة كأنها لم تعلم شيئًا. وهي تتكلف ذلك فتحسن تكلفه وتنهض للقاء صاحبها مغتبطة راضية، فتحييه تحية العاشقة التي يملأ قلبها الحنان، بينما يُسدل الستار على ما في هذه القلوب كلها من أهواء مختلفة وعواطف متباينة وغرائز وميول يشتد بينها الجهاد والصراع.