لم نبقَ بَعدُ أطفالًا
أما اليوم فسندع الطب والأطباء، والصحة والأصحاء، والمرض والمرضى، وسننصرف إلى حديث آخر لا يمس طائفة بعينها من الناس، وإنما يمس الناس جميعًا، وهو من هذه الناحية يرتفع بموضوعه إلى درجة الأحاديث الفنية العليا التي يجد فيها كل إنسان صورة لنفسه، وينظر إليها كل إنسان كما ينظر إلى المرآة الصافية الصادقة، فيرى فيها بعض ما يحس ويشعر مهما تختلف عليه الظروف والبيئات والعصور. ثم هو في الوقت نفسه حديث عن ناحية من هذه النواحي التي لا يستطيع الإنسان مهما يكن أن يلهو عنها أو يعرض عن التفكير فيها؛ لأنها تمس نواحي الحياة بما يبتسم له من أمل وما يُظلم أمامه من يأس وما يحبب إليه الحياة ويزهده فيها، وما يجعل دهره سرورًا وبهجة كله أو حزنا وشقاء كله.
هي ناحية الشباب والشيخوخة، أو قل هي ناحية الأمل الذي نود لو أنه يبقى مبتسمًا دائمًا والبأس الذي نود أن تُلقى بيننا وبينه الحجب والأستار. أو قل هي ناحية السعادة التي نود لو تدوم والشقاء الذي نود لو لم توصل بيننا وبينه الأسباب، أو قل في شيء من الإجمال المحزن الموئس هي ناحية الحياة كما نحبها وكما نكرهها. فالكاتب لم يُرِد أن يصوِّر إلا كلفنا بالشباب وحرصنا عليه ورغبتنا الملحة في استبقائه ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، وتهالكنا الشديد على استرجاعه ما أتاح لنا الغرور والوهم والأمل في ذلك، أو تصور القدرة عليه. وقد استطاع الكاتب أن يصوِّر هذه الناحية من نواحي حياتنا تصويرًا رائعًا مؤثرًا ضمن له إجماع النقاد والنظارة معًا على إكباره والثناء عليه. وذهب بعض هؤلاء النقاد، وهو أستاذ من أساتذة الأدب في السوربون، إلى أن يتنبأ لهذه القصة بالبقاء الطويل، ويؤكد أنه لن ينقضي غير خمسة عشر عامًا حتى تصبح من التراث الخالد لبيت موليير.
ومصدر هذا الجمال الذي انعقد إجماع النقاد وجمهور النظارة والقراء عليه، هو أن الكاتب لم يغلُ ولم يسرف ولم يتوخَّ إغرابًا ولم يقصد إلى شذوذ ولم يحاول ابتكارًا، فوفق إلى أحسن الابتكار وأقومه وأغناه. وفِّق إلى هذا الابتكار الذي لا يفاجئك ولا يصدمك ولا يأخذ عليك الطريق من أول لحظة، وإنما يخدعك عن نفسه وعن نفسك، فإذا أنت تشهد القصة أو تقرؤها فلا تحس دهشًا ولا غرابة، وإنما تحس أنك تشهد أو ترى شيئًا مألوفًا، لا تكلُّف فيه ولا تصنُّع ولا محاولة لاتخاذ هذه الهيئة الخاصة التي يتخذها الكاتب حين يريد أن يكتب شيئًا جديدًا، فهو يستعد لكتابته ويعدُّك لقراءته وكأنه يقول لك: تأهب وخذ حذرك؛ فستقرأ شيئًا لا عهد لك به. كلا، أنت تشهد القصة أو تقرؤها دون أن تحس شيئًا من هذا، إنما تحس أنك تشهد أو تقرأ شيئًا شائعًا كأنك تشهده وتقرؤه كل يوم. ولكنك مع ذلك لا تكاد تشهده أو تقرؤه، حتى تحس أنك متصل به وأنه متصل بك، وأنك لا تريد أن تفرغ منه أو أن تنصرف عنه. ومن يدري، لعلك إنما تتصل به لأنك ترى فيه نفسك وما يختلف عليك من حس وشعور وما يثور فيها من عاطفة وميل. ترى نفسك وترى غيرك أيضًا من هذه الناحية التي تجعل بينك وبين الناس شبهًا، والتي تعطفك على الناس وتعطف الناس عليك.
ثم لا تكاد تمضي في شهود القصة أو قراءتها حتى يأخذك سحر غريب فيه شيء من الخفاء، ولكنه على ذلك شديد الأثر في نفسك والاستهواء لقلبك، وهو يأتي من جمال العبارة وحسن الأسلوب ورشاقة الحوار. فأنت تمضي في النظر إلى القصة أو النظر فيها، وقد فتنك موضوعها المألوف الجديد، وسحرك تعبيرها اليسير الطريف. وما تزال بين تلك الفتنة وهذا السحر منتقلًا من منظر إلى منظر ومن فصل إلى فصل حتى تنتهي إلى آخرها، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس المريح الذي تضطرك الحياة إلى أن تطمئن إليه اطمئنانًا؛ لأنك لا تستطيع غير هذا مهما تبذل من جهد ومهما تتكلف من حيلة، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس محزونًا شديد الألم إن كنت من أصحاب الشعور العنيف والمزاج الحاد، راضيًا مذعنًا إن كنت من عامة الناس الذين لا يطيلون التفكير في أمس، ولا يمعنون النظر في غد. وقد تنتهي إلى هذا اليأس دون أن تحسه أو تشعر به إلا أن تنبه إليه تنبيهًا؛ لأنك قد ألفت الحياة واطمأننت إلى ما تعودت منها، وعرفت أنك مهما تفعل فلن تستطيع لها تغييرًا ولا تبديلًا.
والكاتب يعرض عليك أطوار هذا الموضوع يسيرةً كل اليسر، سهلة كل السهولة، وينقلك من بعضها إلى بعض، دون أن تحس عنفًا في هذا الانتقال. ومع ذلك فهو يميز لك هذه الأطوار بعضها من بعض أوضح التمييز وأقواه، يباعد بينها في الزمان أو في المكان، حتى لا تخدعك وحتى لا تختلط عليك. فأنت في أول الأمر أمام شابين يضيقان بالشباب ويتعجلان تقدم السن، لا لشيء في أكبر الظن إلا لأنهما شابان، ولأن طبيعة الشباب لا تحب الراحة والسكون، وإنما هي تطمع أبدًا في الحركة وتكلف أبدًا بالانتقال من حال إلى حال، وتغلي غليانًا متصلًا قويًّا لتبلغ الأرب وتحقق الأمل وتشعر بأنها مسيطرة حقًّا على الحياة. ثم أنت بعد ذلك أمام رجل قد أتاحت له الظروف ما كان يريد، وحققت له من آماله ما كان يطمح إلى تحقيقه. وإذا هو مطمئن إلى ذلك أو كالمطمئن، ولكن في نفسه حسرات قوية لا يكاد يشعر بها؛ لأنه مشغول عنها بخطوب الحياة وأثقالها وما تفرضه على الأحياء من جهد وتفكير. غير أن الحياة نفسها ترفع الأستار عن هذه الحسرات الخفية، فإذا الرجل الذي كان راضيًا مطمئنًّا قد أصبح ساخطًا ثائرًا ممعنًا في السخط والثورة، مندفعًا فيهما إلى أبعد أمد ممكن، مخالفًا لقوانين العادة والعرف والنظام. ثم أنت بعد هذا كله أمام هذا الرجل نفسه، وقد تكشفت له الحياة عن حقيقتها، ونظر فإذا هو يرى في غير شك ولا ريب أن محاولة المحال عبث، وأن تكلُّف ما لا سبيل إليه نوع من الجنون، وأن الشباب موقوت لا بدَّ من أن ينقضي، وأن ما تذهب به الأيام لا سبيل إلى أن يعود، وأنه لا بد مما ليس منه بد، وأن الحياة إذعان ورضى قبل أن تكون طمعًا وطموحًا وثورة وسخطًا واضطرابًا. وإذا هو يرضى كما رضي غيره من قبل، وكما سيرضى غيره من بعد، وإذا هو يعود راضيًا أو كارهًا إلى ما لا بدَّ منه من طاعة القوانين والنظم التي فرضتها الطبيعة أو فرضتها الحياة على الأحياء فرضًا، وإذا هو لا يستبقي من أمله ويأسه ومن رضاه وسخطه ومن استقراره وثورته، إلا ذكريات قد تكون حزينة لاذعة وقد تكون جميلة حلوة، ولكنها على كل حال ذكريات لا أكثر، ذكريات لا قوام لها، ذكريات هو مضطر إلى أن يقنع بها ويتعزى حتى يأتيه اليوم الذي لا بدَّ من أن يُظلَّ الناسَ جميعًا.
أما إذا رُفع الستار فأنت في قهوة من هذه القهوات الباريسية القريبة من الأوبرا، والتي يختلف إليها أواسط الناس ويكثرون فيها آخر النهار، وحين ينتهي التمثيل منتصف الليل. وهي من هذه القهوات التي تؤثر الجد ولا تتكلف المجون، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تبرأ منه؛ لأن في ذلك شيئًا من العسر. وأنت ترى في القهوة إذا رُفع الستار رجلين: أحدهما تظهر عليه الثروة والجد والاحتشام وامتياز الشكل وحسن التربية، والآخر يظهر عليه الغنى، ولكن يظهر عليه أيضًا أنه من أهل الأقاليم الذين إذا زاروا باريس لم يحبوا أن ينفقوا زيارتهم كلها في الجد، وإنما هم يريدون شيئًا من المجون يلتمسونه في موضعه وفي غير موضعه، ويطلبونه في وقته وفي غير وقته.
فأما صاحب الجد فهو ينظر في جريدة الطان، وأما الرجل الآخر فهو لا ينظر في شيء ولكنه ضيق بما هو فيه من الفراغ. وهو يتحدث إلى الخادم ألوانًا من الحديث يضحك منها الخادم ويضيق بها، وإنه لفي ذلك وإذا فتاة حديثة السن جميلة رائعة، ولكنها ظاهرة الجد والاحتشام، تُقبل فتدخل القهوة في عزم وتصميم وفي اطمئنان إلى النفس وثقة بها. ولا تكاد تدخل حتى يخيل إلى هذا الرجل من أهل الأقاليم أن الظروف قد ساقت إليه ما كان يبتغي من أسباب العبث واللهو، وإذا هو يغرى بالفتاة ويتقرب منها، والفتاة تدفعه عن نفسها في حزم رفيق أول الأمر، فلا يزيده ذلك إلا تعلقًا بها وتعرضًا لها. فتزجره الفتاة زجرًا، فلا يغني الزجر شيئًا. ويضطر صاحب الجد إلى أن يرده عن الفتاة في شيء من الحزم والنذير، وإذا هو مضطر إلى أن يترك القهوة ساخطًا أشد السخط. ولكن المكان قد خلا لصاحب الجد هذا، فهو يدنو من الفتاة ويجلس معها، يزعم لها أن في ذلك صرفًا للناس عن التعرض لها، فما ينبغي لمثلها أن تجلس منفردة في القهوات حين يتقدم الليل. والفتاة تقبل منه معونته ونصحه وتشكرهما له.
وهما يمضيان بعض الشيء في الحديث، وإذا هذا الرجل الذي كان يحمي الفتاة ويرد عنها الطامعين فيها قد أُغري بها إغراء، ولكن إغراء الرجل الذي يعرف ما يَحسُن وما لا يَحسُن، والذي لا يقول إلا بمقدار. وهو يسأل الفتاة عن نفسها وعن حالها، فنعرف أنها قد أقبلت تنتظر صاحبها الذي يشهد التمثيل في الأوبرا مع بعض أقاربه الذين أقبلوا من الأقاليم. فهي إذن صاحبة عبث وإن ظهر عليها الجد، وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فهي غرة ضعيفة الرأي، لا تدري كيف تستقبل ما يعرض لها من الأمر، وهي مطمئنة إلى صاحبها هذا الذي تنتظره لأنها تحبه وتعلم أنه يحبها، وإن كانا يختلفان فيما بينهما أشد الاختلاف؛ فهو من الطبقة الوسطى التي لها حظ من يسار، والتي تحرص على مكانتها الاجتماعية. وهي من الطبقة الدنيا، كانت بائعة في بعض دور التجارة، فلقيت هذا الفتى فأحبها وأحبته، وهما سعيدان بهذا الحب، وإن كانا كثيرًا ما يختصمان. وهي مطمئنة إلى هذا الحب، ولكن هذا الرجل يخوِّفها ويحذِّرها ويغريها في رشاقة وخفة تفهمهما أحسن الفهم وتأباهما أشد الإباء، ولكن صاحبها لا يحفل بإبائها، وإنما يلفتها إلى شبابها وإلى أنها بحكم هذا الشباب تجهل أمسِ لأنها لا ماضي لها، وتجهل الغد لأنها مشغولة عنه باليوم، والخير لها في أن تحتاط، وأيسر أنواع الاحتياط أن تأخذ هذه البطاقة فتحفظها عندها، ففيها عنوان قد تحتاج إليه في يوم من الأيام.
وإنه لفي ذلك وإذا فتى يُقبل فينصرف الرجل وقد ترك عنوانه للفتاة. وتهم هي باستقبال الشاب ويتحدثان، فنفهم أنه ليس صاحبها الذي كانت تنتظره، ولكنه رفيق ملازم لصاحبها في الدرس وملازم له في اللعب أيضًا، وهما يعيشان معًا، أو قل هم يعيشون معًا، فهم ثلاثة؛ أحدهم هذا الفتى روجيه، والآخر ذلك الفتى جان الذي لم يأتِ بعدُ من الأوبرا، والثالث هذه الفتاة روبرت عشيقة جان. والفتاة تسأل روجيه عما يعلم من حب صديقه لها، وهو يعبث منها مؤكدًا هذا الحب الذي لا يحتاج إلى تأكيد، وهو ضيِّق بهذا الحديث الذي لا ينقضي عن حب هذين العاشقين اللذين ما ينفكان في سخط ورضى وفي خصام وصلح، وهو يتحرق شوقًا إلى أن يتحدث عن نفسه وعن آماله في الحياة، فهو أديب قد خُلق للأدب ولم يُخلق لغيره، وخُلق لفن معين من الأدب، هو الأدب التمثيلي، وهو قد بدأ قصة لم يكد يعرض بعضها على أمه حتى رقَّت لما سمعت وبكت وأغرقت في البكاء. فهو كاتب بارع من غير شك، ولن يمضي العام حتى تكون قصته الأولى حديث باريس، ولن تمضي أعوام حتى يكون رئيسًا لجماعة الأدباء، ثم أعوام أخرى وإذا هو في المجمع اللغوي، ثم تتصل الحياة الأدبية بما تفرضه على الأدباء من تكاليف المجد وأثقاله.
وإذا نبوءة ذلك الرجل تتحقق في سرعة غريبة، وما يكاد الشيخ ينصرف مع ابنته، وما يكاد جان يُقبل على صاحبيه حتى يرى الشر في وجه روبرت. فأما روجيه فيسرع إلى الانصراف فرارًا من الخصام، وأما الصديقان فيختصمان. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الخصام، فهو يمثل سذاجة الشباب واندفاعه السريع إلى اليأس الذي لا حد له، ورجوعه السريع إلى الأمل واندفاعه إلى الغضب ورجوعه إلى الرضى، واضطرابه بين النقائض على كل حال. ولكن الفتاة أثبت رأيًا وأمضى عزمًا من صاحبها، فهي تستيئس وتستمسك باليأس وتقطع ما بينها وبينه من صلة، وتأبى أن تنتظر بذلك مطلع النهار. وتنصرف عن صاحبها الذي يغرق في حزن صادق، ولكنه سريع الزوال.
ثم تمضي على هذا الفصل أعوام طوال تقع في أثنائها الحرب الكبرى، وتضطرب فيها الحياة أشد الاضطراب، ثم تعود إلى الاستقرار. ويُرفع الستار لنا عن بيت من بيوت الطبقات الغنية التي تكسب ثروتها الضخمة من الصناعة، وهو بيت جان، وقد تزوَّج وسلك طريقه في الحياة بعد أن أدى واجبه في الحرب. وقد استقل بإدراة مصانع ضخمة، وقد فقد أباه منذ عام، وقد رُزق صبيًّا يختلف إلى المدرسة، وزوجه سيسيل منصرفة إلى بيتها تدبر شئونه في عناية وجد وترف، وهو منصرف إلى مصانعه يدبر شئونها في حزم ودقة، وينميها إنماء مطردًا. ونحن نفهم من اتصال المناظر وما يكون فيها من حديث أن صاحبَي البيت ينتظران قومًا سيتناولون معهم العشاء، وهما معنيان بهؤلاء الناس أشد العناية؛ فقد يظهر أن جان ينتظر نفعًا عظيمًا لمصانعه من هؤلاء الزائرين. وهو يريد أن يتهيأ للعشاء، ولكن الخادم ينبئه بأن امرأة تريد أن تلقاه، فيأبى، وتلحُّ المرأة، فيلقاها كارهًا؛ ولا تكاد تتحدث إليه حتى يعلم ونعلم نحن أنها كانت خليلة لأبيه، وهو يستكشف من أمر أبيه شيئًا عجبًا؛ فهو كان يعرف أباه صاحب جد وحياة خشنة ونفس ضيقة وانصراف شديد عن الضحك فضلًا عن اللهو، ولكن هذه المرأة تبين له أن أباه كان يحيا نوعين من الحياة؛ فهو كان صاحب جد وخشونة في أهله، ولكنه كان صاحب فرح ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته. وهي تقدم له من كُتب أبيه ما يثبت ذلك في غير شك، ثم تقدم له وثيقة يوصي الرجل فيها بشيء من المال يضمن لهذه المرأة حياة مطمئنة، فيعد جان بإنقاذ امرأة أبيه، ولكن ما استكشفه قد أثار في نفسه خواطر متفرقة، واضطره إلى كثير من التفكير. وهذا حموه قد أقبل، فلا يكاد يتحدث إليه ببعض ما علم حتى يسمع منه عجبًا أيَّ عجب؛ فهو أيضًا صاحب جد وخشونة في بيته، ولكنه صاحب لهو ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته حين كانت له صاحبة وقبل أن تتقدم به السن إلى هذا الحد.
والحوار بين الرجلين طريف ممتع حقًّا، فهو يصوِّر حزن الشيخ على شبابه وخوفه من أن تعلم ابنته، وخوفه أيضًا من أن يقتدي صهره به وبأبيه فيخون ابنته، ويحيا حياتين. وصهره متأثر بهذا لا يبديه، ولكننا نحس ذلك منه، فهو ضيِّق بحياته من المصنع إلى البيت ومن البيت إلى المصنع. ولكن ماذا؟ هذان زائران قد أقبلا ولا يكادان يدخلان حتى يبهت جان ويكاد يفقد رشده؛ لأنه يرى صاحبته روبرت التي فارقها في الفصل الأول. كان قد نسيها نسيانًا تامًّا، وقدَّر أن أمواج الحياة قد ذهبت بها غير مذهب، ورمتها إلى هذه المواطن التي تذهب فيها أمثالها من فتيات المجون، ولكنه ينظر فإذا هي أمامه قد اقترنت بهذا الرجل الغني، وأصبحت سيدة لها مكانتها الاجتماعية العليا، وهي محتفظة بجمالها وحزمها ورشاقتها، وهو مضطرب النفس مستعد أشد الاستعداد ليتأثر بما يطرأ عليه من الطوارئ. وهو لا يملك نفسه إلا بعد جهد، وقد أخذ الرجال يتحدثون في الصناعة والمال، وخلا الشيخ إلى الزائر ليتم حديثهما في هدوء. واحتال جان واحتالت معه الظروف، حتى صرف امرأته إلى بعض العمل وخلا إلى صاحبته، فتذاكرا ثم تحدثا، ثم طال الحديث، ثم انتهى بعد الحوار والمقاومة إلى استئناف الحب وإلى الاتفاق على اللقاء إذا كان الغد.
ثم لا يمضي أسبوع واحد حتى يكون الحب قد خطا خطوات بعيدة، فذهب بعقل العاشقين جميعًا ودفعهما إلى شيء يشبه الجنون أو هو الجنون، فقد أزمعا أن يفرَّا بحبهما وأن يتركا زوجيهما وأن يقضيا أيامًا في مدينة ديب حيث ابتدأ حبهما، حبهما القديم، ثم يكون الرحيل بعد ذلك إلى إيطاليا.
ويُرفع الستار لنا عنهما في غرفة من غرف الفندق في ديب قد قضيا فيها الليل وهما يستقبلان النهار. ولست أعرف فصلًا أبدع ولا أقوم من هذا الفصل في سذاجته ودقته وصدق ملاحظته وتأثيره المؤلم في النفوس. فهذه سكرات الحب تنجلي عنهما قليلًا قليلًا وتنجلي في أيسر الأشياء وأبعدها عن التكلف. لقد قضيا أعوامًا طوالًا لا يلتقيان، فتغير كل واحد منهما واكتسبا عادات وأخلاقًا لا يعرفها صاحبه، وتغير كل واحد منهما في شكله وفي تكوين جسمه، فالأعوام لا تمضي عبثًا واللقاء يخدعنا أحيانًا، ولكن الحياة القريبة والاختلاط المداخل يكشفان لنا ما يخفيه التكلف من آثار الحياة في الأخلاق والأجسام جميعًا.
وهما يستكشفان ما بينهما من الفروق قليلًا قليلًا، وقد استكشفا بعضها أثناء الليل، وقد أخذ النهار يكشف لهما عما بقي منها. هذه العادات التي اكتسبها جان من عمله في المصنع، والتي تحمله على أن يحسب ويدقق في الحساب ويقيد كل ما يتفق، وهذه العادات التي اكتسبها من حياة البيت فإذا هو يحب النظام ويكلف به ويريد أن يكون لكل شيء موضعه ووقته، وهذه المعلومات التي اكتسبتها روبرت وكانت تجهلها، وهذه البلاد التي رأتها روبرت وكانت تتوق إلى رؤيتها. وانظر إليه يريد أن يحمل صاحبته بين ذراعيه، فيبلغ من ذلك ما يريد، ولكن التعب يظهر عليه وإن حاول إخفاءه، وهي تلفته إلى أن وزنها قد زاد مع تقدم السن. ثم انظر إليه وهو يطلب إليها مثل ما كان يطلب إلى زوجه من إصلاح أزراره. ثم انظر إليه وقد جلس وأخذ ينظر في صحيفة ثم يتجه إلى صاحبته فيناديها باسم زوجه لينبئها بأن الوزارة قد استقالت.
وقد كذب كل منهما على صاحبه، فزعم أنه ترك لزوجه النبأ بأنه مسافر إلى غير رجعة، وهما يخدعان أنفسهما يريد كل منهما أن يثبت لنفسه ولصاحبه أنه قد استأنف الحب واسترد الشباب وانصرف في سبيل ذلك عن كل ما ألف وعن كل من ألف. وهذه روبرت تنصرف عن صاحبها لحظة، وإذا الباب يطرق، وإذا داخل يدخل، فيا لها من مصادفة! إنه روجيه صديق جان الذي رأيناه في الفصل الأول يتحدث عن مستقبله في التمثيل وفي المجمع اللغوي، وهو الآن يتحدث إلى صاحبه عن حياته التي يحياها، فهو مقيم في هذه المدينة يعمل في التجارة ويفيد منها ربحًا عظيمًا، وقد انصرف عن الأدب ولم ينتج فيه شيئًا، وقد تبيَّن أنه لم يكن قد خُلق للأدب وإنما خُلق للتجارة وللتجارة وحدها. وتُقبل روبرت فإذا رآها روجيه ضاق بلقائها؛ لأنه يعلم أن صاحبه قد خرج عن المألوف وأقدم على إثم خطير. وقد كان دعا صاحبه إلى أن يتناول الغداء معه ومع امرأته، فلما عرف من أمره ما عرف ندم على ما قدم من الدعوة. ولا يكاد يخلو إلى صاحبه حتى يعتذر لأنه لا يستطيع أن يقدم إلى امرأته خليلة لصاحبه.
وهنا يظهر الخلاف العنيف بين هذين الرجلين: أحدهما قد أذعن للحياة وخضع لقوانينها راضيًا قانعًا لا ثائرًا ولا ساخطًا، والآخر قد أذعن ثم ثار ورضي ثم سخط. وهما يختصمان في ذلك والهوة لا تزداد بينهما إلا اتساعًا، ثم يفترقان على أن يلتقيا إن أذنت بذلك الظروف. وتُقبل روبرت تتكلف الرضى والحب، ويتكلف لها صاحبها مثل ذلك، ولكنهما لا يستطيعان البقاء في هذه المدينة؛ فهما ينكران جوها المظلم وما ينهمر فيها من المطر، وهما يريدان أن يبحثا عن القطار الذي يرحلان به عن هذه المدينة، ولكن إلامَ ينتهيان من هذا البحث؟ إلى القطار الذي يعود بهما إلى باريس. فأما الرحلة الطويلة إلى إيطاليا وإلى غير إيطاليا، فقد كانت حلمًا لذيذًا ولكنه ذهب مع الليل. وهما يعترفان بهذه الحقيقة محزونين أشد الحزن، ولكنهما مذعنان أشد الإذعان. وهما يعترفان بأنهما لم يتركا الأنباء بفرارهما، وإنما كتب كل منهما كتابًا، ثم لم يستطع أن يتركه فحفظه معه، ثم هي تعترف بأنها خرجت منذ حين فأبرقت إلى زوجها بأنها عائدة في أول قطار بعد أن زارت صديقة لها في ديب. أما هو فقد يستطيع أن يتأخر يومًا وأن يزعم لامرأته أنه أقبل لبعض أعمال الصناعة والتجارة، ثم هما يتعانقان، ثم هما يفترقان وقد ودع كل منهما في صاحبه شبابه الذي لا سبيل إلى أن يعود.