سَميرَاميس
وهذا الفن الجديد هو نوع من التعاون الدقيق المنظم بين الأدب والموسيقى والغناء والرقص، وفن الإخراج وفن التصوير، وفنون أخرى مختلفة يعتمد عليها الممثلون واللاعبون، حين يريدون إلى تلهية النظارة وإحداث الآثار المختلفة في نفوسهم. وأنا أذكر الأدب عامة ولا أذكر الشعر، ﻓ «بول فاليري» لا يقصر عنايته في الفن على أحد هذين النوعين من الكلام، وإنما هو يعبر عما يريد شعرًا تارة، ونثرًا تارة أخرى، ولكنه يحتفظ دائمًا بالانسجام والتنسيق الدقيق ليلائم بين كلامه وبين الموسيقى والرقص والغناء.
والظاهر أن هذه المحاولة قد نجحت، وأعجبت الباريسيين، وأرضت بول فاليري نفسه، إلى حد ما، فهو قد أعلن اغتباطه بعد تمثيل القصة الأولى، وإن كان يحتاط في إعلان هذا الاغتباط بعد تمثيل القصة الثانية، كأنه يطمح إلى نوع من الكمال أرفع مما انتهى إليه. ومهما يكن من شيء فالنقاد الرسميون — إن صح هذا التعبير — مجمعون على الثناء والحمد. والنقاد المحدثون، والنقاد الشبان يختلفون في ذلك اختلافًا كثيرًا. ومهما يكن من شيء أيضًا، فقد انتقلت عدوى هذا الفن من بول فاليري إلى الكاتب الفرنسي المشهور أندريه جيد، فأخرج للناس في هذا العام قصة بريسفون أعانته على تمثيلها آيدا روبنشتاين نفسها، ووضع لها الموسيقى سترانفسكي، واختلف الناس في قيمتها وفي قيمة الفن الذي عرضت به في الأوبرا، كما اختلفوا في قصة بول فاليري. وأخص ما يمتاز به هذا الفن أن الشاعر أو الكاتب لا يقول كثيرًا، ولكنه يتخيل ويرسل خياله حرًّا ويتصور القصة كأنه يريد أن يكتبها شعرًا أو نثرًا ثم لا يكتب، وإنما يعيِّن الحركات التي يجب أن يأتيها الممثلون والراقصون والمغنون، ويخلق الجو الذي يجب أن تضطرب فيه هذه الحركات، ويصوِّر هذا كله تصويرًا دقيقًا كأنه يلقي درسًا على الطلاب، ثم لا يتكلم أو لا ينشئ الشعر والنثر إلا حين لا يكون له من ذلك بد.
فهو يخلق حركة وحوادث وجوًّا، ثم يجري بين هذا كله كلمات تطول حينًا ولكنها لا تسرف في الطول، وتقصر حينًا وقد تسرف في القصر، وهو بهذا النوع الجديد يستطيع أن يؤثر في جميع الملكات التي تتأثر بفنون التمثيل دون أن يميز منها واحدة أو يقدمها على الملكات الأخرى. فهو لا يعتمد على الكلام فيؤثر هذه الملكة التي تعجب بجمال الشعر أو بجمال النثر، وهو لا يعتمد على الغناء أو على الموسيقى أو على الرقص أو على جمال المناظر، وإنما يقسم عنايته بالقسط بين هذه الأنحاء الفنية كلها، فيخلق حول النظارة جوًّا كله جمال يأخذهم من جميع نواحيهم. وربما كان هذا النوع من الفن هو الشعر بأدق معانيه في نفس بول فاليري، فالشعر عنده قبل كل شيء صور تؤثر في النفس من ناحية، وفكرة تعطي لهذه الصور حياة من ناحية أخرى. ولكنه مع ذلك لا يسمي هذا الفن تمثيلًا، بل لا يريد أن يسميه فنًّا، وإنما يسميه محاولة فنية. وهو يقول لبعض من حدَّثه في هاتين القصتين إنه لا يستطيع أن يسمي هذا أدبًا ولا فنًّا؛ لأنه لم يصل بعدُ إلى أن يوجِد الصورة المتحدة ذات الأجزاء المؤتلفة التي يصب فيها كل هذه الخواطر والآراء والصور والخيالات التي ينثرها في الملعب نثرًا. ولعله إن مضى في هذه المحاولة أن يصل في يوم من الأيام إلى تحقيق هذه الصورة التي يطمح إليها. ولا بد على كل حال من أن نسجل أنه لا يرى هذا النوع إنشاء فنيًّا أو أدبيًّا، بل هو أقرب إلى أن يراه لعبًا حلوًا ملهيًا.
ومع ذلك فالذين يقرءون ما ألقاه بول فاليري من الخواطر والآراء ليكوِّن به هذه القصة الغنائية، يجدون فيها الشعر كأجمل ما يكون الشعر، ويجدون فيها الفلسفة كأصدق ما تكون الفلسفة، ولعلك لم تنسَ أن بول فاليري لا يستطيع أن يتصور الشعر خلوًا من الفلسفة.
ثم هم يجدون فيها التمثيل كأرقى ما يكون التمثيل. يجدون هذا كله في صفحات قليلة جدًّا تُقرأ في نصف ساعة أو فيما دون ذلك؛ لأن الوضوح والدقة وانتظام التفكير هي الخصال التي يمتاز بها هذا الأديب العظيم.
وقد يكون من الغريب أن يذكر بول فاليري ويذكر معه الوضوح، ولكن الوضوح مع ذلك من أخص صفاته بشرط أن يقرأه القادرون على فهمه، والذين يستطيعون أن يرقوا إلى حيث يعيش من عالم الشعر والفلسفة. وأنت تستطيع أن تفهم قصة سميراميس كما تصورها بول فاليري وكما صورها، ولكنك تجد مشقة غير قليلة في فهم ما تنطق به سميراميس من الكلام أحيانًا. ولو أن هذه الملكة الخرافية وجدت اليوم وسمعت ما يجريه على لسانها بول فاليري، لما ترددت في أن تعود إلى صورتها الأولى فتأخذ شكل الحمامة المطوقة، وتطير فتبعد في الطيران، فهو لا ينطقها بأقل من هذه الفلسفة العليا التي كان يجريها أفلاطون على لسان أصحابه وهم يحاورون سقراط.
نحن في قصر الملكة بمدينة بابل، وفي فناء هذا القصر في يوم من الأيام المشهودة، قد عادت فيه الملكة منتصرة ظافرة قد أذلت الممالك وأسرت الملوك، والقصر يتهيأ لاستقبالها، وما هي إلا أن يسمع ضجيج وعجيج وأصوات فيها الأمر والنهي، ثم يقبل الجند وهم يدفعون الأسرى أمامهم دفعًا، ثم تُقبل الملكة على عربة يجرها ثمانية من الملوك الأسرى قد شُدوا إليها بسلاسل من ذهب. فإذا بلغت فناء القصر، أقبل الجند فحلوا هؤلاء الملوك، وألقوهم على درج العرش، ثم ألقوا غيرهم من الأسرى على الأرض بين العربة والعرش، بحيث لا تمشي الملكة إلا على أجسام الأسارى. حتى إذا ارتقت إلى العرش أقبل وصائفها فخلعن عنها لمة الحرب وقدَّمن إليها لباس السلم وزينة الملك، ثم تتجلى لشعبها في جمالها الرائع المهيب، ويدخل الجند وهم يحملون تماثيل الملوك الأسارى فيقدمونها إلى الكاهن الذي يأمر بتحطيمها، حتى إذا عملت فيها الفئوس رفع بعض هؤلاء الملوك رأسه، ونظر إلى ذلك محنقًا مغيظًا، فتهم الملكة أن تقرعه بالصولجان، ولكنها تلمح في وجهه جمالًا فتهبط إليه وتأخذ بشعره وتجذبه جذبًا عنيفًا حتى تقيمه، فتنظر في وجهه فتطيل النظر ثم تمتحن قامته وجسمه امتحانًا دقيقًا. ويرى النظارة أنه قد أعجبها، وإذا هي تستبقيه وترسل غيره من الملوك إلى الموت.
ويُلقى الستار، ولكنه لا يُلقى ليستريح النظارة، وإنما يلقى ليظل النظارة في حال بين النشاط والهدوء كأنهم يرون شيئًا وكأنهم لا يرون؛ فهناك أشياء تقع من خلف هذا الستار الرقيق يحسها النظارة، ولكنهم لا يتبيَّنونها. فإذا رُفع الستار عن الفصل الثاني فنحن في غرفة من غرفات الملكة قد أقيم فيها سرير رحب نثرت عليه الوسائد نثرًا وقد استلقى عليه العاشقان كأنما أجهدا إجهادًا، ولكن الملكة مفتونة لا ترضى، فهي لا تريح ولا تستريح، تداعب صاحبها وتلاعبه، فإذا أظهر الفتور ألقت عليه من الأعطار وقدَّمت إليه من الطعام والشراب ما يرد إليه نشاطه. وإذا هو قد أحس الكبرياء وشعر كأنه يملكها وكأن سلطانه عليها لا حد له. وإذا هو ينظر إليها شزرًا، ويرمقها في شيء من الازدراء، ويأخذها بما تؤخذ به الأَمَة، فلا تكاد الملكة تحس منه ذلك حتى تثوب إلى نفسه، وإلى ملكها، وإلى قوتها، فتنحرف عنه بعض الشيء، ويطمعه ذلك فيها، ولكنها تنفره وتستجمع قوتها، وتنهض كأنها الحية، ثم تلقي عليه نظرة مخيفة، ثم تضرب على أداة قريبة منها فتُرفع الأستار ويُقبل الجند من كل مكان، ويؤخذ الملك الأسير، ويرد إلى ذلته الأولى، وترسل الملكة إليه سهمًا لا يخطئه. ثم يُلقى الستار، ولا يُلقى ليستريح النظارة أيضًا، ولكن ليروا هذه الملكة وقد خرجت من أنوثتها وعادت إلى بطولتها. استمتعت بالحب حتى رضيت أو حتى رأت أن ليس إلى الرضى من الحب سبيل. ثم دفعت فريستها إلى الموت، ثم هي تصعد إلى أعلى القصر هناك حيث المنجمون ينظرون في السماء ويذكرون الآلهة ويسبِّحون بحمد الملكة، فإذا أحسوا مقدمها أغرقوا في الثناء عليها، وأسرفوا في حمدها حتى تضيق بهم، فتزجرهم ثم تطردهم؛ لأنهم تركوها تشعر بأنها قد آجرتهم على هذا الثناء. وهي لا تكاد تبلغ أعلى القصر وتقصي عنها المنجمين حتى تحس أنها لم تخرج من أنوثتها وحدها، بل خرجت من ملكها أيضًا! ارتقت إلى أعلى ما يستطيع الإنسان أن يبلغ من الارتفاع، فبعدت عن الدنيا وبعدت الدنيا عنها، وصغرت الحياة في نفسها، وطمعت في شيء أكبر من الحياة. وهي تستقبل الفجر متحدثة بما يملأ نفسها من ضيق بما كانت فيه، وأمل فيما لم تبلغ بعد. ثم تشرق الشمس فتغمر الكون بنورها الوضاء، وإذا الملكة قد تبينت ما كانت تريد، فهي لا تريد إلا أن تتصل بالشمس وأن تتصل الشمس بها، إلا أن تمتزج بالآلهة فتصبح منهم وتعيش معهم لأنها أكبر من الناس، ومن حياة الناس. وهي تريد أن تخلص من جسمها، وأن تصبح نفسًا خالصة، وهي تتحدث بذلك إلى الشمس وهي تصعد إلى المذبح وتنام كما تنام الضحايا، وإذا جسمها يتبخر قليلًا حتى يذوب وينحل عن حمامة مطوقة تطير إلى حيث لا يُعرف لها مكان ولا غاية.
وأنت تخطئ إن ظننت أن الشاعر قد حكى لك هذا كله حكاية أو صوَّره لك في حوار، إنما هي خواطر منثورة وصور يتبع بعضها بعضًا. وأنت تخطئ إن ظننت أني لخصت لك القصة، فأنا لم ألخصها، وإنما مسختها مسخًا، ولم أعرض عليك منها إلا ما يمكن عرضه، فأكبر ما في القصة يُحَس ولكنه لا يُنقَل. هو رقص وموسيقى وغناء وحركات موقَّعة.
وأنت تعلم أن سميراميس قد ألهمت الكتَّاب منذ العصور القديمة فصولًا رائعة، وألهمت الكتَّاب المحدثين منذ القرن السابع عشر قصصًا تمثيلية كثيرة وقصصًا موسيقية أيضًا. ولعل أجمل هذه القصص كلها وأروعها قصة فولتير التي مُثِّلت نحو منتصف القرن الثامن عشر في أواخر سنة ١٧٤٨ بالضبط. فأعجب بها الناس ولا نزال نقرؤها فنعجب بها، ولكن الموازنة بين قصة فولتير وقصة بول فاليري تنتهي إلى تقديم الشاعر الحديث المعاصر من غير شك. ففولتير لم يخرج في قصته عن تقليد اليونان على شدة جحوده لفضل اليونان فيما كتب لهذه القصة من مقدمة، فهو يصور لنا سميراميس وقد قتلت زوجها وهمَّت بقتل ابنها واستسلمت لرجل طاغية، ثم أدركها الندم فاستعانت ببطل من أبطال الجند تريد أن تخلص به من شريكها في الإثم، وهي تريد أن تتخذ هذا البطل زوجًا لها، وهي تجمع أشراف الدولة لتشهد على هذا الزواج، ولكن ظل زوجها القتيل يخرج من قبره فيحول بينها وبين هذا الإثم، فليس البطل الذي تريد أن تتزوجه إلا ابنها قد رد إليها.
وتنتهي قصة فولتير بأن يقتل الابن أمه ويسترد ملك أبيه ويقتل الطاغية، وهذا التلخيص الموجز يكفي ليبين لك أن فولتير ما كان ليكتب قصته هذه لو لم يقرأ تمثيل اليونان. فنحن نرى فيها أثر سوفوكل. أليس أوديب قد تزوج أمه؟ ونحن نرى فيها أثر إيسكولوس، أليس أورست قد قتل أمه؟ ثم نحن نرى فيها أثر أيسكولوس أيضًا حين يظهر ظل الملك القتيل فيتحدث إلى الأحياء. أليس ظل دارا الملك قد ظهر فتحدث إلى الأحياء في قصة الفرس؟ ففولتير مقلِّد ليس غير، قد وضع الأسماء الكلدانية مكان الأسماء اليونانية. أما بول فاليري فمبتكر في كل شيء، لم يسبق إلى فكرته هذه، ولا إلى هذه الصورة التي صوَّر فيها سميراميس. هو مبتكر في القصة، وهو مبتكر فيما خلق حولها من الجو، ثم هو مبتكر بعد هذا وذاك فيما أجرى على لسانها من هذه الفلسفة الأفلاطونية العليا.
ما أجدر أدباءنا أن يعنوا بمثل هذه الآثار العليا، وأن يسلكوا في إنتاجهم الأدبي مثل هذه الطرق التي يسلكها الكتاب المجيدون!