الدَّائِرَة
ونمضي في تلخيص هذه الطائفة من القصص التمثيلية التي لم يضعها الفرنسيون، وإنما تُرجمت لهم، أو نقلت إليهم، عن اللغات الأجنبية. فقد لخَّصنا منذ حين قصة ألمانية ثم قصة أخرى روسية، والقصة التي نتحدث عنها اليوم إنجليزية. وإنما نذهب هذا المذهب لننوع موضوع هذه الأحاديث بعض التنويع، ولنعرض على القراء صورًا مختلفة من الأدب التمثيلي الغربي، يمثل أمزجة الأمم الأوروبية الكبرى على اختلافها وتباينها، وإذا كان الفرنسيون لا يقنعون بتمثيلهم الفرنسي الخصب، القيم، على تنوعه وتباين مذاهب الكتَّاب والممثلين فيه، وإنما يلجئون إلى تمثيل الأمم الأخرى؛ ينقلونه إلى لغتهم ويعرضونه في ملاعبهم، فلا أقل من أن نذهب نحن بعض مذهبهم في هذا. وأقول بعض مذهبهم، فليس لنا أدب تمثيلي عربي مصري، أو غير مصري نستطيع أن نعتمد عليه، ونطمئن إليه، ونكتفي به. وليس لنا أدباء يعنون بترجمة الأدب الأجنبي أو نقله إلى لغتنا، وإنما أقصى ما نصل إليه، أن نلخِّص ونحلل ونتكلَّف هذه الصور المقاربة التي قد تعطي القارئ فكرة عن بعض الأدب الأجنبي، ولكنها على كل حال تفسده إفسادًا وتشوِّهه تشويهًا.
فلا أقل من أن نجتهد حين نلخِّص هذا الأدب الأجنبي في أن يكون تلخيصًا مختلفًا منوعًا مصورًا للآداب المختلفة ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
وكم كنتُ أحب أن تقوم الترجمة مقام التلخيص، بعد أن حرمنا الكتابة والإنشاء، وكم كنت أحب وقد حرمنا الترجمة أيضًا، أن ينهض بتلخيص الآداب المختلفة قومٌ يحسنونها ويتقنون لغاتها إتقانًا، ويلخِّصونها من أصولها تلخيصًا مباشرًا، لا من تراجمها تلخيصًا بالواسطة إن صح هذا التعبير.
فأنا إنما ألخص هذه القصص عن تراجمها الفرنسية، وواضح جدًّا أن الترجمة نفسها تذهب بجمال الأصل إلى حد بعيد، وأن التلخيص يذهب بجمال الترجمة إلى حدٍّ أبعد، فلا يبقى للقارئ العربي المسكين من هذه الآثار الأدبية الرائعة إلا صور ضئيلة شاحبة لا تكاد تغني شيئًا. ولكني أبذل جهد المقلِّ، وأنفق ما أملك من قوة، وأحتمل ما أستطيع احتماله من مشقَّة، وأرى واجبًا عليَّ أن آتي ما آتي من ذلك، وأرى من التقصير أن أكسل إذا كسل غيري، أو أهمل إذا آثر غيري الإهمال.
ولست أدري لِمَ دفعتُ إلى هذا الاستطراد، ولكني أعترفُ للقارئ بأني لم أُقدِم يومًا على تلخيص هذه القصص إلَّا وفي نفسي شيء كثير من السخط والألم. وقد كنت أحب أن تذاع هذه القصص أو ما يشبهها في قراء العربية مترجمةً، وأن تكون أحاديثي عنها نقدًا لها لا تلخيصًا.
وبعدُ، فإني أعتقد أن كثيرين من القراء يحبون هذه الأحاديث ويجدون فيها بعض اللذة، فأظنهم يغفرون لي بعض ما أدفع إليه من الاستطراد بين حين وحين.
وهذه القصة التي أريد أن أتحدَّثُ عنها اليوم طريفة حقًّا: طريفة في موضوعها، طريفة في حوارها، طريفة في هذه المعاني التي يُجري بها الكاتب ألسنة أشخاصه، طريفة في هذا الجد المر المؤلم، الذي يسوقه الكاتب في هذا المزاح الحلو اللذيذ.
فالقصة من أولها إلى آخرها فكاهة، ولا تكاد تقرأ محاورة من هذه المحاورات التي تقوم عليها، دون أن تغرق في الضحك، أو تضطر إلى الابتسام. ولكنها في الوقت نفسه مأساة، ومأساة شديدة الأثر في النفوس، عظيمة الوقع في القلوب، تدعو، بل تضطر من يشهدها أو يقرؤها إلى التفكير المتصل العنيف. ولعل أهم ما يلفت في هذه القصة هو هذه الدعابة الإنجليزية التي يتحدث الأجانب عنها كثيرًا، ولكنهم يعجزون عن تصويرها فضلًا عن محاكاتها، والتي لم يستطع ناقل هذه القصة إلى الفرنسية أن يحتفظ بها في ترجمته كما هي في الأصل؛ لأنها لا تلائم اللغة الفرنسية، ولا تلائم مزاج الفرنسيين. فاضطر إلى أن يقويها، ويثقلها — إن صح هذا التعبير — لتحتملها اللغة الفرنسية وليذوقها الفرنسيون. وأنا مجتهد في أن أعرض عليك صورًا من هذه الدعابة أثناء التلخيص، ولكني قد قدَّمت عذري بين يدي؛ فأنا لا أنقل عن الأصل وإنما عن ترجمة، وعن ترجمة خضعت لتصرف غير قليل.
والقصة تقع في قصر من قصور الأرستقراطية الإنجليزية، من قصور هذه الأرستقراطية العاملة التي تتصل بالحياة العامة وتساهم فيها، وتحمل أثقالها، وتجني ثمراتها. فصاحب القصر؛ وهو لورد كليف شوبيون شيني، كان عضوًا في مجلس النواب البريطاني، فلما ترك السياسة وأخذ يحيا لنفسه ويفرغ للذته، خلفه ابنه أرنولد على مكانه في مجلس العموم كما خلفه على ثقة الناخبين من مواطنيه. والأشخاص الآخرون الذين سنراهم في هذه القصة، كلهم من هذه الطبقة التي لم تمسك نفسها في هذه العزلة التي يلزمها نفر غير قليل من أشراف الإنجليز.
ونحن إذا رُفع الستار عن الفصل الأول في غرفة من غرف الاستقبال في هذا القصر، نرى صاحبه الشاب أرنولد معنيًّا بشيء من الترتيب والتنظيم، ينقل الأشياء من مكان إلى مكان، ويدق الجرس، فإذا دخل عليه الخادم لفته إلى أنه يكره هذا الاضطراب ويريد أن يوضع كل شيء في موضعه، ونبهه إلى أنه يحرص أشد الحرص على ثلاثة أشياء: النظافة، والدقة، وحسن الأدب. وهذه الأشياء الثلاثة تتكرر على لسان هذا الشاب في غير موضع من القصة، فهو حريص عليها أشد الحرص، مشغوف بها أشد الشغف، لا يرى اضطرابًا إلا أصلحه، ولا يسمع لفظًا نابيًا إلا أنكره، ولا يسمع حديثًا إلا اجتهد في أن يرده إلى ما ينبغي له من الدقة والبعد كل البعد عن الغموض والإبهام.
وهو يكرر ذلك في قوله وعمله حتى يصبح تكراره إياه مضحكًا حقًّا، كأنه لازمة من اللوازم أو مظهر من مظاهر الاضطراب العقلي اليسير. وهو يكلِّف الخادم أن يدعو سيدته إليزبث، وهو لا ينتظر أن يدعوها الخادم، بل هو يدعوها بنفسه، يدعوها من مكانه، ويدعوها من النافذة. يسأل عنها من يمر به، ويسأل عنها من يدخل عليه. هو شديد الحاجة إليها، متعجلٌ لقاءها، كأن لديه أمرًا ذا بال، يريد أن يلقيه إليها. وها هي هذه قد أقبلت، فلا يكاد يراها حتى يلقي إليها النبأ الخطير، وهو أن أباه قد أقبل من باريس وانتهى إلى بيته الصغير غير بعيد من القصر، وأعلن أنه سيتناول عندهما طعام الغداء. ويقع هذا النبأ من إليزبث موقعًا منكرًا، فتعلن ضيقها به في لفظ منكر مبتذل، ولكنها لا تكاد تنطق بهذا اللفظ حتى يشمئز أرنولد ويعلن سخطه العنيف، فهو يحب كما قدَّمنا ثلاثة أشياء: الدقة، والنظافة، وحسن الأدب. وهذا اللفظ الذي جرى به لسان امرأته لا يلائم حسن الأدب، وهو قد نسي النبأ الذي يزعجه، ويزعج امرأته، ودخل في خصومة طارئة مع إليزبث فيما يجب من تخير الألفاظ التي تجري بها ألسنة المترفين المثقفين. ولكن شابًّا يُقبِل، وهو من ضيوف القصر، جميل وسيم تظهر عليه نضرة الشباب، ونشاطه، ومرحه، فلا يكاد يدخل حتى يشترك في الحديث. وهذه فتاة أخرى من ضيوف القصر، تشترك معهم جميعًا في الحديث، وهو حديث خطير حقًّا، فمقدم اللورد الشيخ من باريس فجأة قد صادف شيئًا لم يكن ينبغي أن يصادفه؛ ذلك أن أم أرنولد كانت قد فارقت زوجها منذ ثلاثين عامًا، وتركت له ابنهما الصبي ولما يتجاوز خمسة أعوام، وقد كانت هذه المرأة فاتنة رائعة الجمال، فتنت صديقًا لزوجها، وزميلًا له في البرلمان، هو اللورد برتوز؛ فاختطفها — إن صحَّ هذا التعبير — ذات مساء، ومضى بها إلى إيطاليا، وأقام معها في مدينة فلورنسا ثلاثين عامًا. ثم هما يعودان الآن إلى لندرة، وتعرف إليزبث مكانهما في فندق ريتز، وهي مشوقة إلى أن تعرف أم زوجها، مشوقة إلى ذلك لأسباب مختلفة نفهمها أثناء هذا الفصل. فهي قد فقدت أمها طفلة، وهي قوية الشعور، حادَّة الحس، متعلقة بالخيال، متأثرة بهذه المثل العليا في الحب. وهي شديدة الميل إلى أن ترى هذه المرأة التي ضحت بزوجيتها وأمومتها ومنزلتها الاجتماعية في سبيل الحب، وهي بعد هذا كله ليست سعيدة ولا ناعمة البال في حياتها الزوجية. هي على هذا النحو الذي أصوره لك وزوجها صاحب جد، يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، ويعمل في السياسة لا يريح ولا يستريح، لا يفرغ لنفسه، ولا يفرغ لامرأته أيضًا. وإذن فلم تكد إليزبث تعلم بمقدم الشيخين العاشقين إلى لندرة حتى ألحَّت على زوجها في أن يلقى أمه ويتعرف إليها، ويستأنف الصلات معها، ويدعوها إلى أن تزور القصر مع خليلها فتقضي فيه أيامًا. وواضح جدًّا أن أرنولد قد أبى على زوجه وألحَّ في الإباء، فهو لا يعرف أمه إلا باسمها وبما تركت في نفسه من ألم ممض، وبهذه الذكريات التي لا يستطيع أن ينساها؛ ذكريات الفضيحة التي اضطرت أباه إلى أن يطلب الطلاق، وإلى أن يستقيل من البرلمان، وإلى أن يتجنب الحياة العامة، والتي تحدَّث الناس بها، ولجُّوا فيها، ووضع الشعب فيها الأغاني، وتغنَّى بها الأطفال في الشوارع، وتحدَّث بها أترابه، حين كان يطلب العلم في أكسفورد. ولكن المرأة إذا أرادت شيئًا لم تنثنِ حتى تبلغ ما تريد، وقد ظفرت إليزبث من زوجها بما أحبَّت، فزيَّنت له أنها أمه وأن السن قد تقدمت بها، وأن من الإثم والعقوق أن تعود إلى بلادها بعد ثلاثين عامًا، فتعيش فيها عيشة الغريب. وقد تمت دعوة الشيخين العاشقين، وقبلا هذه الدعوة، وسيبلغان القصر بعد حين. وكان أرنولد يقدر أن أباه سيقيم في باريس أسبوعًا، فإذا عاد إلى القصر أو إلى هذا البيت الصغير الذي يقيم فيه غير بعيد عن القصر كانت الزيارة قد انتهت، وكان العاشقان قد عادا إلى فندقهما في لندرة.
ولكن الشيخ أقبل فجأة من باريس، ولم يكد يستقر في بيته الصغير حتى تحدث إلى ابنه في التليفون ينبئه بمقدمه ويدعو نفسه إلى الغداء على مائدته.
وهو إذن سيلقى مطلقته، وسيلقى صديقه الخائن الذي أغوى امرأته واختطفها اختطافًا. والزوجان حائران من غير شك، في هذه المصادفة المنكرة، وضيفاهما حائران أيضًا، وإليزبث تهدئ زوجها وتعلن إليه أنها تحتمل وحدها تبعة هذا الشر، ولكن زوجها لا يفهم هذا الكلام المبهم الغامض، فهو يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، وهو لا يرى أن احتمال امرأته للتبعة وحدها يغيِّر من الواقع شيئًا. والواقع أن ثلاثة من الناس سيلتقون بعد حين ولم يكن ينبغي أن يلتقوا. على أن حوار الزوجين لا يطول؛ فهذا أبوهما الشيخ قد أقبل وهو يحييهما من النافذة في رشاقة ودعابة، ثم يدور حتى يأتي الحجرة من بابها. وهم يتلقونه متكلفين للرضى، فإذا أعاد عليهم أنه سيشاركهم في الغداء ظهر على بعض الوجوه طول والتواء، ثم يتفرَّق القوم جميعًا ولا يبقى أمامنا إلا الشيخ وإليزبث.
ونحن نسمع إليزبث تداعب الشيخ وتتلطف له، وهو يتوقع أنها ستنبئه بخبر سيئ. وهي في حقيقة الأمر تريد أن تنبئه بشيء، ولكنها لن تفعل إلا إذا جلست على حجره مبالغة في التلطف والدعابة. فإذا تلقاها لطيفًا بها مداعبًا لها ألقت إليه النبأ، فلا يُظهر سخطًا عنيفًا، ولكنه لا يخفي ضيقه بما سمع، على أنه قد فهم الآن لمَ طالت الوجوه والتوت منذ حين. ثم لا يلبث الشيخ أن يستأنف مرحه ودعابته، ويعلن إلى امرأة ابنه أنه سيعود إلى بيته الصغير، وسيتغدى فيه وهو سعيد بذلك لأنه سيشارك الخدم في طعامهم. وسيأكل إذن ما لم يكن ينتظر أن يأكل. وقد انصرف الشيخ وأقبل الشاب الضيف واسمه تدي ليتون، فلا يكاد يتحدث إلى إليزبث حتى نعرف أن بينهما حبًّا يريد أن يظهر. وهذا زوجها يعود ومعه الفتاة التي رأيناها منذ حين وهما ينبئان بمقدم الزائرين المنتظرين، وما هي إلا لحظات حتى تدخل الليدي كيتي وخليلها ميجي.
وصورة هذه المرأة طريفة حقًّا، وهي من أجمل الصور التي يعرضها الأدب التمثيلي؛ فهي قبل كل شيء مخيبة لأمل إليزبث، امرأة قصيرة بادنة لا تصور حبًّا ولا جمالًا ولا فتونًا، قد ظهرت عليها السن، ولكنها مع ذلك شديدة النشاط، شديدة التكلف للنشاط بنوع خاص، تتحدث في غير انقطاع وفي غير عناية بما تقول، ولا تقدير له، تثب من موضوع إلى موضوع في خفة، وسرعة، وعلى غير انتظار كأنها الطائر يثب من غصن إلى غصن أو من شجرة إلى شجرة، لولا أن هذه المرأة ليس فيها من جمال الطائر شيء. وهي لا تعرف ابنها، ولكنها مع ذلك تسرع على الضيف الشاب فتقبِّله معلنة أنه ابنها أرنولد، وأنه صورة لها مطابقة كل المطابقة، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. فإذا نبهت إلى مكان ابنها، لم يظهر عليها اضطراب، ولا اختلاط، وإنما اندفعت إليه فقبَّلته وأعلنت أنه صورة دقيقة لأبيه، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. وهي تتكلم في كل شيء، لا تكاد تلم بالحديث حتى تدعه إلى غيره؛ فهي تتحدث في الدين، وتتحدث في الصين، وتتحدث في المرضع التي كانت تسرق النبيذ، وتتحدث في التصوير، وتتحدث في الثياب، ثم ترى البيانو فتسرع إليه وتأخذ في العزف. وخليلها مناقض لها أشد المناقضة، لا يشبهها إلا في الشيخوخة. فهو قليل الكلام، لا يكاد يتكلم إلا زمجرة، وهو ساخط على إنجلترا لسوء الإقليم فيها، ولأن طرقها غير صالحة للسيارات. وهم في هذا الاختلاط المضحك البديع حقًّا، وإذا الأب الشيخ قد أقبل. ولمَ لا يفعل؟ لقد ذهب إلى بيته الصغير فرأى أن الخدم قد انصرفوا يتناولون غداءهم حيث يريدون بعد أن علموا أن سيدهم سيتغدى في القصر. فرأى الشيخ أنه مخير بين اثنين: إما أن يجوع، وإما أن يتغدى مع هذين الزائرين. وقد آثر الثانية وهو يرجو ألا يضيق به أهل القصر، وأهل القصر لا يضيقون به، ولكنهم يلقونه لقاء حسنًا ولا سيما مطلقته، فهي سعيدة بلقائه، وهي تطلب إليه أن يقبِّلها، وهو لا يرى بذلك بأسًا بشرط أن يأذن له صديقه القديم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى يومان على ما رأيت في الفصل الأول، ونحن في حجرة الاستقبال نفسها بعد الغداء، وقد جلس القوم جميعًا إلى مائدة اللعب بعضهم يلعب وبعضهم يتحدث. ونفهم أن أرنولد قد انصرف عنهم لبعض شأنه السياسي، فالمعركة الانتخابية قائمة والشاب يتهيأ لإلقاء خطبة سياسية إذا كان الغد، وهو يحب الدقة، والنظام، وحسن الأدب. وإذن فهو يتفق منذ الآن مع الذين سيقاطعونه إذا خطب من الغد. يهيئ لهم موضع المقاطعة من خطبته، ويهيئ لهم الأسئلة التي يلقونها عليه، ويهيئ لنفسه الجواب على هذه الأسئلة. وعلى هذا النحو يتم الاجتماع السياسي دون أن يخالف ما ينبغي له من الدقة والنظام وحسن الأدب. والقوم في هذا الحديث، ولكن الشيخ العاشق يسخط ويعلن سخطه؛ لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب وحديث السياسة. وقد انتقل الحديث من السياسة إلى هذا الضيف الشاب الذي يعمل في تونس، والقوم يتحدثون إليه عن تونس هذه، وهو يجيبهم، ولكن الشيخ العاشق يعود إلى إعلان سخطه لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب والحديث عن تونس.
ثم يمضون في لعبهم وحديثهم واختلافهم في اللعب، وتلاحيهم فيما يصيبون وما يخطئون، حتى يضيق الشيخ العاشق بهم جميعًا؛ فيكفَّ عن اللعب ويتفرق القوم ولا يبقى منهم إلا العاشقان والزوج القديم. والعاشقان مختصمان اختصامًا شديدًا: فأما الشيخ فيلوم صاحبته؛ لأنها متكلفة ملحة في التكلف، ولأنها قد أفسدت عليه حياته وكلَّفته تضحيات ثقالًا، ولولا حبها لأصبح الآن رئيسًا للوزراء، فقد كان الناس يتوسمون فيه ذلك، وهي تنكر عليه هذا الغرور، وتزعم أنه لم يكن ينبئ بذكاء ولا استعداد لنباهة الشأن، وأن الناس لا يرقون إلى المناصب بذكائهم أو تفوقهم، وإنما يرقون بفضل نسائهم وما يمتزن به من لباقة ورشاقة وجمال. وقد كانت هي خليقة أن ترقى بزوجها إلى رياسة الوزارة، لولا هذا الحب الذي أفسد عليها كل شيء. ويرد عليها عاشقها ساخطًا معنفًا منكرًا قيمة زوجها القديم؛ فهو لم يكن يصلح للمناصب الكبرى، وإنما كان رجلًا متواضعًا، ولو أني بلغت رياسة الوزراء لعيَّنته وزيرًا في هولندا أو في البرازيل. ولا تكاد صاحبته تسمع هذا حتى يشتد سخطها، وتعلن أنها لا ترضى منصبًا حقيرًا كهذا المنصب في بلد صغير كهذا البلد، ولا يرضيها إلا أن يكون زوجها سفيرًا في باريس.
وتشتد الخصومة بين العاشقين، على هذا النحو الظريف، حتى تنتهي إلى أقصاها، وإذا العاشقة الشيخة قد انصرفت مغضبة باكية، وتبعها عاشقها الشيخ كأنه يريد أن يترضاها. وبعد قليل نرى إليزبث قد أقبلت وأقبل معها ضيفها الشاب، وهما يتحدثان في حبهما وقد صرح بينهما كل شيء، وتم الاتفاق بينهما على أن يعيشا معًا، وعلى أن تفارق المرأة زوجها وتذهب معه إلى تونس. وهي لا تريد أن تهرب، وإنما تريد أن تعلن أمرها إلى زوجها وتطلب إليه الطلاق.
وهذا الزوج قد أقبل بعد حين، فلم يجد في الغرفة أحدًا، ولكنه لا يكاد يستقر حتى تأتي أمه فيكون بينهما حديث ظريف حقًّا، لا يمس شيئًا، ولكنه يمس كل شيء. ثم تخلو إليزبث إلى زوجها أرنولد، فتنبئه بأمرها وتطلب إليه الطلاق. وهو ساخط ولكن في دقة، ونظام، وحسن أدب غالبًا. على أنه يخرج عن طوره آخر الأمر، فيأبى الطلاق، ويدعو إليه ضيفه الشاب فيطرده من القصر طردًا لا حظَّ له من الدقة والنظام وحسن الأدب.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الحجرة نفسها بعد العشاء من مساء اليوم نفسه، ونحن نرى أرنولد يتم مع أبيه حديثًا كان قد بدأه قبل أن يرفع الستار، ونفهم أن هذا الحديث إنما هو تشاور بين الابن وأبيه في هذه الكارثة الجديدة. وقد ألقى الأب إلى ابنه نصيحة، وهو يلح عليه في أن يتبعها، ثم يُقبِل سائر أهل القصر فيتحدثون حديثًا مختلفًا مختلطًا، ولكننا نتبين على كل حال أن الشيخين العاشقين ما زالا على ما كانا فيه من المغاضبة والخصام، فليس أحد منهما يرضى أن يتحدث إلى صاحبه. وهم ينظرون في مجموعة من الصور ويتحدثون عما يرون، وعن صور النساء وأزيائهن خاصة أحاديث مختلفة جميلة ومؤثرة، ولكنهم ينتهون إلى صورة بعينها تعجبهم جميعًا ولا يعرفون صاحبتها، فإذا أنبأهم الزوج القديم بأنها صورة مطلقته زاد إعجابهم بما كان لهذه المرأة من جمال، ولا سيما إليزبث؛ فإن إعجابها شديد حقًّا. أليست قد أنبئت بأن بينها وبين هذه المرأة حين كانت شابة بعض الشبه؟ أليست هي آخذة الآن في إعادة التاريخ وفي تمثيل القصة التي مثَّلتها هذه المرأة حين كانت تنعم بنضرة الشباب وحين تهيَّأ لها الحب فلم تستطع عليه امتناعًا؟ على أن الشيخة نفسها إذا نظرت في هذه الصورة لم تستطع أن تكفَّ دموعها عن الانحدار، فأين هذا الجمال الرائع من هذه المرأة المتهدمة التي تغاضب عاشقها المتهدم! وقد تفرق القوم جميعًا عن العاشقين الشيخين، وإذا الشيخ يدنو من صاحبته متلطفًا مسترضيًا معتذرًا مما قدم إليها من الإساءة قبل العشاء، وهي تقبل منه متلهفة؛ فلم تكن أقل منه شوقًا إلى الصلح، وهو يعترف لها بأنه كان مغرورًا حين زعم أنه كان خليقًا أن يبلغ رئاسة الوزراء لولا الحب. وهي تؤكد له أنها كانت مسرفة، وأنه كان حقًّا جديرًا أن يبلغ رئاسة الوزراء، فإذا سمع ذلك منها أرضاه وأعلن إليها أنه كان مسرفًا حين أنبأها أنه لو تولى الحكم لعين زوجها في هولندا، والواقع أنه كان خليقًا أن يعيِّنه في باريس، وهي تستكثر باريس وترى أن في هولندا أو في البرازيل ما يكفي. ويمضي الحديث بينهما على هذا النحو المؤثر الظريف، وهذا الشيخ يتأمل في الصورة فيزعم لصاحبته أن السن لم تغيرها إلا قليلًا وهي سعيدة بهذا الثناء، ترد عليه بثناء مثله، فتزعم له أنه قوي، وأنه وسيم، وأن منظره يخلب النساء، ويلفتهن إليه. ولكن هذا الزوج القديم قد أقبل وأخذ ينبئهما بقصة إليزبث واعتزامها فراق زوجها مع هذا الشاب، وهو يطلب إلى الأم أن تنصح لهذه الفتاة وأن تعظها، وأن تفكر في ابنها. والأم تتردد شيئًا ثم ترضى، وقد أقبلت إليزبث وانصرف الرجلان، وأخذت العاشقة الشيخة تعظ العاشقة الشابة. فيا له من حديث مؤثر حقًّا، دقيق حقًّا، فيه تصوير رائع لجنون الحب ثم لعواقب هذا الجنون حين يفتر النشاط وتنكسر الحدة، وتتصل الحياة بين عاشقين قد فتر بينهما العشق. وفيه تصوير رائع لهذه الغيرة الملتهبة التي تحرق فؤاد المرأة حين تحس انصراف العاشق عنها، وفيه تصوير رائع لضعف المرأة وسوء حالها في الجماعة إذا خرجت عن الحياة المنظمة وخالفت ما ألف الناس.
ولكن شيئًا من هذا لا يؤثِّر في الفتاة ولا يغيِّر عزيمتها بحال من الأحوال، وهي مصرة على هذا الفراق محتملة تبعاته، واثقة بصاحبها، أشد الثقة.
ثم يقدم أرنولد بعد حين ويخلو إلى امرأته، وإذا هو قد تغير تغيرًا تامًّا، فهو معتذر إلى امرأته من ذلك الحديث الغليظ الجاف الذي لقيها به حين طلبت إليه الطلاق، وهو يترضاها فلا ترضى، ويستعطفها فلا تعطف، فإذا يئس من ذلك عرض عليها أن يعينها بشيء من المال لأنها فقيرة ولأن صاحبها ليس غنيًّا، وهي تأبى، ولكنه يعلن مصممًا أن المال سيوضع في أحد المصارف لحسابها، وقد كان يأبى الطلاق فهو يقبله الآن، ولكن شرط أن يكون هو المذنب وأن يكون الحكم عليه لا عليها. وهي تسمع هذا فتتأثر له تأثرًا عميقًا، ويتركها الفتى وهي في أشد ما تكون من التردد والاضطراب والاعتراف بالجميل. على أن صاحبها الشاب قد أقبل يتعجلها، فتأبى عليه إباءً شديدًا لما سمعت من زوجها، والفتى يلح وهي تأبى. وإنهما لفي هذا الحوار وإذا الشيخان العاشقان قد أقبلا واشتركا في حوارهما، وهما ينصحان أول الأمر للفتاة بألا تفارق زوجها ولا تتعرض لحرب النظام الاجتماعي، فهي غير قادرة على هذه الحرب، ولكن الفتى لبق حسن الحديث، عاشق، صادق العشق، مقنع قوي الإقناع، وها هو ذا قد أثر في نفس الفتاة وسيطر عليها. وانظر إلى هذين الشيخين وقد ذكرا شبابهما واستحضرا قصتهما، وهما يعينان على تمثيل القصة. فأما الشيخ فيُعِيرهما سيارته ليهربا بها في جنح الليل، وإذا الشيخة تعير الفتاة معطفها لتتقي به برد الليل، وإذا العاشقان الشابان ينصرفان وقد تركا في نفس هذين الشيخين وجدًا وحنينًا وعطفًا كثيرًا. وهذا الأب الشيخ قد أقبل راضيًا، سعيدًا، مبتهجًا ينبئ بأنه قد نصح ابنه فاستمع لنصيحته فنجح إلى أقصى حدود النجاح. ردَّ إلى امرأته حريتها فحمدت ذلك منه وزهدت في هذه الحرية وقررت أن تقيم. والشيخ فخور بهذا الفوز، وهو يضحك فخرًا والشيخان العاشقان يضحكان منه فيحسب أنهما يضحكان له، ويرخى الستار عليهم جميعًا، وهم مغرقون في ضحك مظهره واحد ولكن سببه مختلف أشد الاختلاف.