الطَّائِر الحَديث
ليس هذا العنوان ترجمة صادقة ولا دقيقة للعنوان الفرنسي، وإنما هي ترجمة مقاربة، أو قل هي إشارة إلى معنى العنوان الفرنسي؛ لأن نقل العنوان إلى لغتنا ليس باليسير.
ولسنا نقصد بهذا الحديث عادة إلى الدقة العلمية في الترجمة، وإنما نقصد إلى تقريب الصور الفنية التي يعرضها كتاب التمثيل إلى قراء العربية الذين لا يستطيعون أن يروا بأنفسهم هذه الصور في أصولها الأولى. والصورة التي أريد أن أقربها إلى القراء في هذا الحديث جميلة رائعة حقًّا، وهي لا تستمد جمالها ولا روعتها من ثورة العواطف وحدة الحس وعنف الشعور، وإنما تستمدها من هذه الفلسفة الهادئة المبتسمة الساخرة التي امتاز بها هذا الكاتب الفرنسي العظيم، فهو أستاذ السخرية في فرنسا بعد كورتلين، ولكنه أستاذ السخرية التي لا يكاد يشعر بها إلا الذين أوتوا حظًّا عظيمًا من دقة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وحسن القراءة بين السطور. وهو على هدوء فلسفته وخفة سخريته، ورقَّة دعابته، لاذع ممض حقًّا لمن عرف كيف يقرأ، وكيف يفهم، وكيف يذوق، بل هو قد يتجاوز السخرية اللاذعة الممضة إلى السخرية القاسية، التي تريد أن تكون عنيفة، وتبلغ من العنف ما تريد دون أن يظهر عليها ذلك ظهورًا واضحًا.
وقد أراد رستان برنار في هذه القصة أن يصور، من ناحية، نزق الشباب وخفته، وطيشه، وضعفه عن فهم ما يحيط به من الأحداث، بل عن فهم نفسه، وأقرب الناس إليه، وانخداعه بأيسر الأشياء. ومن ناحية أخرى عبث الظروف بالناس وتحكمها فيهم بما يسوءهم في كثير من الأحيان، وبما يرضيهم ويمنعهم في بعض الأحيان. والنقاد مجمعون على إكبار هذه القصة، ومنهم من يبلغ بها منزلة الآية الأدبية الخالدة التي لن يعرض لها الفناء، وهم يعجبون بهذه البراعة التي أتاحت للكاتب العظيم أن يتخذ موضوعًا يسيرًا ضئيلًا كهذا الموضوع الذي ستراه، فينشئ منه قصة تمثيلية ممتعة، ترضي، بل تمتع النظارة والقراء جميعًا دون أن تشق عليهم، أو تخيل إلى أحدهم أنه أحس شيئًا من الجهد قليلًا أو كثيرًا في مسايرة القصة منذ ابتدأت باسمة ساخرة إلى حيث انتهت باسمة ساخرة أيضًا.
والموضوع — كما قلت — يسير ضئيل؛ فهناك صديقان؛ أحدهما شاب في السادسة والعشرين من عمره، وهو تيبو، والآخر كهل قد بلغ الأربعين، وهو تييري، وقد صدقت بينهما المودة، وتمت الثقة، وكلاهما صاحب لهو وعبث، ولكن الشاب الحدث، مطمئن إلى الكهل المجرب، فهو يلجأ إليه، ويعتمد عليه كلما تعقَّدت أموره في الحب بعض التعقيد. وهذا الكهل المجرب محبب إلى النساء، فاتن لهن، فلا يكاد يعرض مخلصًا لحل ما يتعقد على صاحبه الشاب من الأمر حتى يضطر إلى خيانته اضطرارًا. وصاحبه الشاب لا يحس ذلك ولا يلمحه، وإنما هو ماضٍ في ثقته، دافعٌ صاحبه إلى الخيانة دفعًا، والظروف تعينه على ذلك، وتغريه به، كما تعين صاحبه على الخيانة، وتورطه فيها حتى يأذن الله لفتاة هي أليس بأن ترد الشاب إلى الرشد، وتحول بين هذا الكهل وبين المضي في الإثم على غير عمد أو على عمد، غير متعمد، إن صح هذا التعبير الغريب.
فموضوع القصة — كما ترى — هين لا خطر له في نفسه، ولكن الكاتب قد استطاع أن يرتفع به، إلى أرقى منزلة من منازل التفكير الخلقي الفلسفي الخصب. ومهما ألخص هذه القصة ومهما أتحرَّ الدقة في هذا التلخيص، فلن أستطيع أن أعطيك من جمالها الفني صورة مقاربة، فجمالها الفني مستقر في هذا الحوار البديع الذي لا بد من ترجمته، ومن ترجمته كله لتذوق ما فيه من فن دقيق. وترجمته ليست شيئًا يسيرًا؛ لأن الكاتب — كما قدمت — من أدق الكتَّاب الفرنسيين في التصوير والتعبير معًا.
ونحن حين يُرفع الستار في فندق فخم من فنادق الصيف في مدينة مترفة من مدن الساحل، هي مدينة دوفيل، نرى هذا الكهل المجرِّب تييري يتحدث إلى خادم من خدم الفندق، وهو يهيئ له غرفة الاستقبال في الجناح الذي احتجزه لنفسه، ليقضي فيه بعض الصيف. والخادم ينبئه بأن فتاة قد أقبلت تطلب لقاءه، وهي تنتظر في بهو الفندق واسمها أليس إرسان. فإذا أذن لها بالصعود رأينا فتاة جميلة ولكنها شديدة الاحتشام، شديدة الذكاء، متئدة فيما تعمل وفيما تقول. وفهمنا من أول حديثها إلى هذا الرجل أنها قريبة صديقه تيبو، وأنها تعمل في قصره كرفيقة لأمه الغنية التي تقدمت بها السن، ولكنها تأبى أن تشيخ. فهي تلهو وتعبث وتختلف إلى الكازينو كل مساء تقامر مع المقامرين، وهي تربح حينًا فتزعم أنها خاسرة، وتخسر حينًا فتزعم أنها رابحة: تعلن الخسارة في أوقات الربح لترد عن نفسها أصحاب الحاجات، وتعلن الربح في أوقات الخسارة لترد عن نفسها العذال والشامتين. وهي في حقيقة الأمر لا تحفل بخسارة ولا بربح؛ لأنها واسعة الغنى عظيمة الثراء، وحسبك أن بعض مواردها يغلُّ لها أربعة عشر مليونًا من الفرنكات.
وهذه الفتاة تعمل في القصر رفيقة لقريبتها هذه، ولكنها لا تراها ولا تتصل بها، وإنما تلزمها من بعيد، تشتري لها الكتب، وتقرؤها نيابة عنها، وتلخصها لها تلخيصًا موجزًا لتكون على علم بها إذا تحدثت إلى الناس، وقد ترافقها إلى الكازينو ولكنها لا ترافقها إلى غرفة اللعب، وإنما تنتظرها في مكان آخر. وهي قد أقبلت اليوم تبلغ هذا الرجل أن قريبها تيبو سيزوره بعد حين، ليتحدث إليه في أمر ذي بال، وما دامت قد ذكرت تيبو، فهي تصوره لنا كما صوَّرت أمه؛ فهو فتى رائع الشباب، ولكنه لا يقدِّر شبابه قدره، وإنما يبذر فيه تبذيرًا وينفقه بغير حساب، قد أفسده الغنى فاتبع هواه، وتنقل به هواه من حب إلى حب، ومن لذة سريعة إلى لذة سريعة، حتى فقد قلبه وعقله، وكل هدوء، وكل استقرار.
والفتاة ترى ذلك محزونة له، ساخرة منه، ملاحظة دقائقه مع ذلك مستخرجة منها العبر والعظات التي لا يحسن استخراجها إلا المجربون الذين مارسوا الحب واللذة وعرفوا آثامهما وآثارهما، وهي تزعم أنها تجد من نقاء ضميرها، وصفاء سريرتها، وحسن سيرتها ما يمكنها من أن تفهم الحياة وتستخلص عظتها وعبرتها أحسن مما يفعل المجربون الممارسون. وهذا الفتى تيبو قد أقبل، فذكرته الفتاة بأنه مضطر إلى أن يتناول العشاء مع أهله هذه الليلة؛ لأنها ليلة عيد من أعياد أمه، قد اجتمعت لها الأسرة كلها على كره من الأم التي كانت تؤثر على مائدة العشاء مائدة القمار. وقد انصرفت الفتاة وخلا الصديقان، فلم يكادا يتحدثان حتى فهمنا قصة هذا الفتى. فهو يحب منذ عهد بعيد امرأة جميلة غنية، هي هنرييت هربلان، ولكنه لقي في بعض زياراته امرأة أخرى جميلة، هي لورنس هربر، فأحبها وأحبته، وأبعدا في الحب حتى كادا يبلغان الزواج. وكانت خليلته الأولى تصطاف مع زوجها في أقصى الغرب الجنوبي على الأطلنطيك، بينما يصطاف هو مع صاحبته في هذه المدينة الجميلة على ساحل المانش. ولكن الظروف الخادعة الماكرة زينت لهذا الزوج الأحمق أن يفارق امرأته أيامًا لتزور إسبانيا، فأسرعت هذه المرأة إلى دوفيل ونزلت ضيفًا على أسرة صديقة تقيم من الفندق غير بعيد.
والفتى حائر بين هاتين الخليلتين، فهو يحب لورنس ويريد أن يتخذها له زوجًا، وهو يريد أن يتخلص من هنرييت، ولكن في شيء من الرفق، ومن غير أن يؤذيها في حبها إيذاء عنيفًا. وقد خطر له أن السبيل إلى التوفيق بين هذين الأمرين، إنما هو أن يقلل من لقاء لورنس ويحتاط في هذا اللقاء، حتى تسافر هنرييت من دوفيل. ولكنه لا يجرؤ على أن يبين حقيقة الأمر للورنس، فهو يعتمد على صديقه تييري في ذلك، ولا شك في أنه سيؤدي إليه هذه الخدمة راضيًا سعيدًا. وهو قد نظم له لقاء لورنس فستزوره بعد لحظات، وهو من أجل هذا ينصرف مسرعًا وينبئ صاحبه بأنه سيلقاه في الغد ليعرف منه ما سيكون بينه وبين لورنس من حديث.
وما هي إلا لحظات حتى تستأذن لورنس على صاحبنا الكهل، فيأذن لها ويلقاها، ولا يكاد يأخذ معها في الحديث حتى يرى أنها تعلم من أمر صاحبه كل شيء. فليس من المعقول أن يتقرَّب رجل من امرأة بالحب دون أن يسعى الساعون إليها بأنباء هذا الرجل، ما ظهر منها وما بطن.
وهي ليست غافلة ولا جاهلة فتظن أن صاحبها قد ظل ينتظرها طول حياته نقيًّا بريئًا من الحب، فهي إذن تعذره ولكنها تلومه لأنه لم يتحدث إليها بنفسه في هذا الموضوع. على أنها لا تكره آخر الأمر أن تعفو له عن هذا النزق الذي دفعه إليه الشباب، وهي تهمُّ أن تنصرف ولكن تييري يستبقيها ليتحدث إليها طرفًا من حديث، ولينبئها بأنه سعيد حقًّا بها، فما كان يقدِّر أنه سيلقى امرأة يرتفع بها الذكاء والفطنة وحسن التقدير للأشياء إلى حيث تتجاوز المألوف، وتعرض عن الصغائر، وهو سعيد بأن يثني عليها غير طامع فيها لأنها خليلة صديقه، وهي سعيدة أيضًا بالاستماع لهذا الحديث الذي ليس وراءه طمع ولا رغبة، والذي لا يفسده تملق ولا تقرُّب؛ فقد سئمت ثناء المحبين، كما سئم هذا الرجل أيضًا حديث المحبات. وهما سعيدان حقًّا بهذا الود الذي أخذ ينبت بينهما؛ لأنه ود بريء يرتفع عن الحب ويكتفي بالصداقة. لقد ظفرت هي يإعجاب الرجال حتى أذلَّتهم، وظفر هو بإعجاب النساء حتى أذلَّهن. فما يمنعهما أن يلتقيا كما يكتفي الفاتحان الظافران فيتحدثا في غير الفتح والظفر، ويسمرا في غير الحب والغرام.
وليس من شك في أن هذه المرأة لا تستطيع أن تحب هذا الرجل؛ لأنه متقدم في السن، ولأنها تحب صديقه الشاب. وليس من شك أيضًا في أن هذا الرجل لا يستطيع أن يحب هذه المرأة؛ لأنها شابة بالقياس إليه، ولأنها خليلة صديقه، فلن يكون بينهما إلا ود الأصدقاء، وإذن فسيجتمعان إلى العشاء وستعتذر هذه المرأة إلى قوم دعوها للعشاء معهم، ولن يتعشيا في الفندق، ولا في الكازينو، ولكنهما سيذهبان إلى مطعم بعيد، ولن يشربا على طعامهما الشامبانيا، ولا هذه الأنبذة التي تدير الرأس وتحجب العقل، ولكنهما سيشربان نبيذًا من هذه الأنبذة التي تطلق اللسان وتبعث الحرارة في القلب وتحبِّب حديث الصداقة إلى الأصدقاء.
وقد نهضت لتتهيأ للخروج، فهمَّ أن يقبِّل يدها، فردته عن ذلك ردًّا، فما ينبغي للصديق أن يقبِّل يد الصديق وإنما يتصافح الأصدقاء في قوة كما يتصافح الرجال.
ويُرفع الستار عن الفصل الثاني من الغد، فإذا نحن في الغرفة نفسها نرى هذين الصديقين، وقد أحدث الليل بينهما ما لا يحدث بين الأصدقاء، وهما يعتنقان اعتناق العاشقين وقد فُتن كل منهما بصاحبه وسقط بينهما ذلك الفتى الغر، فمرَّا على جثته إلى حبهما العنيف ثم تم الاتفاق بينهما على أن يرحلا بحبهما عن هذه المدينة لينعما به في مأمن من الرقباء. وستسافر هي أول النهار، ويدركها هو إذا كان المساء أو إذا كان الغد؛ لأنه ينتظر اليوم مقدم أخيه.
وقد انصرفت عنه على كرهٍ منها وعلى كره منه، ولكنه لم يكد يخلو إلى نفسه حتى أفاق من نشوة الحب، ونظر إلى نفسه فازدراها وإلى صديقه فرثى له وعطف عليه.
وهذا الخادم قد أقبل يصلح من شأن الغرفة، فإذا هذا الرجل لا يستطيع أن يمنع نفسه من التحدث إليه؛ لأنه شَقِيَ بالندم الذي يملأ قلبه. وهو يسأل الخادم عن سنِّه، ثم عن حبِّه، ثم عن خليلته، فينبئه الخادم بأنه يحب امرأة صديق له، فقد وجد هذا الرجل إذن زميلًا له في الخيانة، فهو يسأله كيف أقدم على هذه الخيانة وكيف وجد أثرها في نفسه، والخادم ينبئه بأنه كره ذلك أول الأمر ولكنه ألفه وتعوده بعد قليل.
ولكن التليفون ينبئ بأن الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول تستأذن في لقاء هذا الرجل، فإذا أذن لها رأيناها قد أقبلت اليوم كما أقبلت بالأمس تحمل رسالة من تيبو إلى صديقه، فهو قد أنفق الليل كله أو أكثره خارج القصر وعاد مع الصبح، فسيزور صاحبه متأخرًا بعض الشيء.
والفتاة ساخرة من قريبها، ساخرة من صديقه، تزعم له أن قريبها يثق به الثقة كلها، فلا يكاد الرجل يسمع لفظ الثقة حتى يضطرب له، وتثور نفسه، وإذا هو ساخط أشد السخط على هؤلاء الأصدقاء الذين يثقون بأصدقائهم، وعلى هؤلاء الضعفاء الذين يثقون بالأقوياء، وعلى هؤلاء الناس الذين يعجزون عن تدبير أمورهم، فيعتمدون على غيرهم في تدبير هذه الأمور. والفتاة لا تفهم هذه الثورة المفاجئة، ولكننا نحن نفهمها حق الفهم؛ فالرجل نادم على ما فرط في ذات صديقه، ولكنه يحمِّل صديقه تبعة هذا التفريط؛ فهو الذي وثق به وكلَّفه تدبير أمره عند لورنس، ولو لم يفعل لما لقيها، ولما فرَّط في ذات الصديق.
وهذا تيبو قد أقبل، فانصرفت الفتاة وخلا الصديقان، ولم يكد تييري ينبئ صاحبه كارهًا متكلفًا بأنه قد دبر الأمر عند لورنس، وأن لورنس قد قبلت عذره ورأت أن تسافر أيامًا تجنبًا لكل مضايقة، لم يكد ينبئه بهذا حتى سمع منه عجبًا. سمع منه أنه لا يحفل بلورنس ولا يريد أن يراها؛ لأنه لقي هنرييت فتجدد حبُّه لها وشقَّ عليه فراقها، وأنفق الليل كله في إقناعها بأنه لم يخنها وبأنه لم يحب لورنس ولم يَزِد على أن أكثر معها الحديث، وقد اقتنعت هنرييت ثم شكَّت، ثم اقتنعت، ولكنها ستعود قطعًا إلى الشك. ومن أجل ذلك يعتمد الفتى على صديقه في أن يمحو من نفسها كل ريب، ويرد إليها الثقة والاطمئنان.
والصديق سعيد بما يسمع؛ فهو يبرِّئه من الخيانة. وأي بأس عليه من أن يحب لورنس، وقد انصرفت عنها نفسُ صاحبه، وأي بأس عليه من أن يقنع هنرييت بأن الفتى لم يخنها؛ فذلك يرد هذين العاشقين إلى عشقهما، ويخلي له وجه صاحبته. فهو إذن يقبل هذه المهمة الثانية، وينصرف عنه الفتى بعد أن ينبئه بأن هنرييت قادمة للقائه وبأنه هو سيلقاه بعد الغداء.
وما هي إلا لحظات ينعم فيها الرجل براحة الضمير وهدوء البال، حتى تدخل عليه هنرييت، فإذا امرأة في الثالثة والعشرين من عمرها جميلة ضعيفة محزونة كثيرة البكاء، لا يكاد الرجل يراها حتى يرفق بها، ويخلص في النصح لها، وفي تشجيعها وتبرئة صديقها من الخيانة، ولكن حديثه لا يخلو من نبرات فيها حنان وعطف وشيء قد لا نستطيع أن نسميه الإغراء، ولكنه ليس بعيدًا من الإغراء.
وقد أخذت المرأة تتأثر بهذا العطف وترقُّ لهذا الحنان، وتُسحر بهذا الصوت، وإذا هي تدنو منه، وتستدنيه، وهو يحس بهذا الخطر فيبعد عنها ويتكلَّف الجد، ولكن بعد أن فات وقت الجد. فقد دنت منه المرأة وأخذت في استعطافه، وهو قريب العطف، وما هي إلا أن تلحَّ عليه في قبلة وداع، فإذا منحها القبلة الأولى أخذه الشرك وأُلقي الستار من دونهما وهي تقول: لن أفارقك؛ لأني لا أحب إلا إياك.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في قصر تيبو بعد الظهر من اليوم نفسه نرى تييري يتحدث إلى الفتاة «أليس» يسألها عن صديقه أين هو، فتنبئه بأنه خرج يلتمسه، وكان شديد الاضطراب كأن أمرًا ذا بال يعنيه، فينبئها هو بأنه سيغيب لحظة ليسعى إلى أخيه الذي سيُقبل من سفر بعيد ثم يعود بعد ذلك، ولا يكاد يخرج حتى يُقبِل تيبو ثائر النفس بادي الاضطراب يسأل عن صديقه، فتنبئه الفتاة بأنه سيعود بعد قليل، ولكنه لا يملك نفسه من أن يتحدث إلى الفتاة ببعض اضطرابه، وإذا الفتاة تقص عليه من أمره كل شيء قد علمت ذلك من نفسها، وفهمته من أحاديث الناس، وهي تزدري الفتى وتزدري حبه، وتحزن على هذا الشباب الضائع الذي يسرف فيه صاحبه بغير حساب، وعلى هذه العواطف المبتذلة التي تنحط لها نفوس كان ينبغي أن ترتفع، وتنبئ الفتى أن صاحبته هنرييت لم تكن تحبه حين أظهرت ما أظهرت من الغيرة، وإنما كانت تريد أن تنتقم لما أحست من الخيانة، فإذا سألها الفتى: وما أنت وهذا وما علمك بهذه الأشياء وهل أحببت قط؟ أنبأته بأنها قد أحبَّت، ولكنها لم تجد صاحبها أهلًا لحبها، فأعرضتْ عن هذا الحب وأخذتْ نفسها بحياة العزوبة، وأنبأته بأنها تعاف هذه الحياة التي تحياها وبأنها مسافرة مع المساء لتعيش مع أختها وتُعنى بابنيها الصبيين، فإذا سألها عمن أحبَّت أنبأته بأنها أحبته هو، ثم عافته لما رأت من سيرته، ولولا ذلك لما أنبأته بهذا الحب.
ولا يكاد الفتى يسمع بهذا النبأ حتى يفتنه ويسحره، وإذا هو يتلطف للفتاة ويعلن إليها حبه، فتعرض عنه وتفر منه، ويهمُّ أن يتبعها، لولا أن صديقه قد أقبل ومعه أخوه، فلا يلقاهما إلا ريثما يستأذن منهما لحظة ويمضي في أثر الفتاة. ويخلو الأخوان فيتحدثان عن اضطراب الفتى وعما كان من سوء حظه مع صاحبتيه، وعن ندم الصديق الخائن، وعما ينبغي أو لا ينبغي أن ينبئ به صديقه من الأمر، ولكن الفتى قد عاد، وخلا إلى صديقه، ولم يكد صديقه يحدثه عن هنرييت حتى يرده عن الحديث ردًّا ويعلن إليه أنه يحب أليس، وأن أليس أحبَّته. ومن يدري لعلها ما زالت تحبُّه ولكنها لا تريد أن تعترف بهذا الحب. وهو يعتمد على صديقه في إقناعها … ولكن الصديق يثور هذه المرة ويأبى أن ينهض بهذه المهمة، وهو يلحُّ في الإباء وصديقه الفتى يلح عليه في الرجاء، ثم ينبئه فجأة بأنه قد أنبأ أليس بتوسطه عندها، ثم ينهض فيدعو أليس وينصرف.
والرجل ضيق النفس مضطرب الضمير، كارهٌ لهذه المهمة مشفق من خيانة ثالثة، ولكن الفتاة قد أقبلت فلم يكد يتحدث إليها حتى أحس أنه يتحدث إلى امرأة ليست من جنس النساء اللاتي عرفهن من قبل. يتحدث إلى امرأة لا تحب عن عاطفة، ولا عن شهوة، ولا عن هوى، وإنما تحب بقلبها كله، وبعقلها كله، تحب عن علم بالحياة والأحياء، وعن بصيرة بما تأتي وما تدع، لا ترى في الحب لذة سريعة عارضة، وإنما ترى في الحب ثقة وأمنًا وسعادة ومتاعًا متصلًا.
وإذا هو يحاول أن يغري الفتاة بنفسه، وقد كان يخاف أن تتهالك عليه الفتاة، وإذا هو يرى الفتاة ترده عن نفسها ردًّا، رفيقًا ولكنه حازم، وإذا هو ينهض معتذرًا معترفًا بضعفه، وفساد سيرته وسوء مستقبله في كل ما يمس السعادة الراقية النقية مستعطفًا على صديقه محسنًا الدفاع عنه، منتهيًا آخر الأمر إلى حمل الفتاة على شيء إن لم يكن هو الرضى فهو قريب من الرضى. وإذا هو يفتح هذا الباب المغلق ويدعو صديقه، فإذا أقبل تلقَّاه بهذه الجملة: لقد كانت تريد أن تفرغ لابنَي أختها الصبيين، ولكنها قبلت أن تفرغ لك. فيدنو الفتى منها هائمًا، ولكنها تردُّه عن نفسها في رفق وتجلس مفكرة قد أخفت وجهها بين يديها، والفتى يهمس في أذن صديقه: ستُعنى أنت بأمر هنرييت. فيجيبه الصديق: ليس من ذلك بد.