مَدرسَة المشعوِذين
مُثِّلت منذ أعوام في باريس فأثارت لغطًا كثيرًا، كما مثِّلت قصة أخرى من قبلها في موضوع مقارب لموضوعها فأثارت لغطًا ودهشًا وإعجابًا لم ينقضِ بعد.
ذلك أن موضوع القصتين يتصل بالطب والأطباء، وبالمرضى والمرض، وبالصلات بين الأطباء والذين يحتاجون إليهم من المرضى والأصحاء جميعًا. وتعرُّضُ التمثيل للطب والأطباء وللمرض والمرضى قديم، قد سنَّ فيه موليير سنَّة ما زالت آثارها باقية ومناهجها واضحة، وما زال الكتَّاب الممثلون يتبعونها ويذهبون مذهبه فيها.
فقصة الطبيب على كرهٍ منه، وقصة المريض الواهم ما تزالان من الآثار الأدبية الخالدة التي يقرؤها الناس أو يشهدونها فيعجبون بها أعظم الإعجاب، على اختلاف العصور وتباين الظروف وتفاوت البيئات. بل يقرؤها الناس المرة بعد المرة ويشهدونها كذلك المرة بعد المرة، فيتجدد إعجابهم بها وإكبارهم لها وضحكهم لما تَعرِض من المشاهد واعتبارهم بما تثير من الملاحظات، لا يبلغون من ذلك أقصى ما يريدون؛ لأن اللذة الفنية الخالدة من طبيعتها أن تجدد هذه اللذات، وأن تُحدِث لنا إعجابًا وإمتاعًا كلما أحدثنا لها قراءة أو استماعًا. وقد أراد الكاتب الفرنسي العظيم جول رومان أن يذهب مذهب موليير في العناية بالطب والأطباء، وفي تسليط سخرية الفن ودعابته وهجائه اللاذع أيضًا على هذه الطائفة الموقرة التي نتملقها جميعًا؛ لأننا جميعًا نحتاج إليها ونشفق منها، ونذعن لما تأمر، ونؤمن لما تقول. فوضع قصته المعروفة كنوك أو انتصار الطب، ثم قدمها إلى ملاعب التمثيل، فلم تُضحِك باريس وحدها وإنما أضحكت فرنسا كلها، ثم أضحكت وما زالت تُضحِك العالم المثقف كله. وأكبر الظن أنها أضحكت الأطباء أنفسهم قبل أن تُضحك غيرهم من الناس؛ فقد أظهر الكاتب فيها الفروق القوية بين الطبيب الشيخ، المحافظ، المعتدل، المتواضع أيضًا، الذي يعيش في قرية من القرى ويتكسَّب بمهنته صادقًا ناصحًا لا مسرفًا على المرضى ولا مسرفًا على الأصحاء، فهو يكسب حياته وشيئًا من الثروة معتدلًا، ولكنه لا يستغل فنه كما يستغل التجار المسرفون تجارتهم، أو كما يستغل المرابون المسرفون ما بين أيديهم من المال؛ وبين الطبيب الشاب الذي لم يفرغ لدرسه ولم يقصد إليه عن عناية واستعداد، وإنما دفعته إلى ذلك المصادفة، فواتته الظروف وأسعدته الحيلة، وانتهى إلى الظفر بالإجازة الطبية، فهو يريد أن يستغل هذه الإجازة كأشد ما يكون الاستغلال، وأن يُكرهها على أن تجلب له من المال أكثر ما يمكن أن تجلب له. وهو يخلف الطبيب الأول في قريته، وقد اتخذ لنفسه قاعدة هي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى وأن الصحة شذوذ. وهو يجدُّ في أن يقنع الناس بهذه القاعدة، يستعين على ذلك بالوهم والخوف، وهو يبلغ من ذلك ما يريد، وهو يملأ القرية وما حولها من القرى إيمانًا بالطب ويقينًا بالمرض. فهو يشتغل في الليل ويشتغل في النهار، وهو يمكِّن الصيدلي من أن يشتغل في الليل والنهار أيضًا، وهو يمكِّن الفندق من أن يمتلئ دائمًا حتى يضيق بالقاصدين إليه من الأصحاء الذين بلغتهم شهرة الطبيب في قراهم البعيدة فتأثروا بها واستيقنوا أنهم مرضى وأقبلوا يلتمسون الصحة والشفاء عند هذا الطبيب البارع.
وليس جمال هذه القصة فيما بين الطبيبين من التناقض، ولا في تطبيق هذه القاعدة الغريبة وتحويل الأصحاء إلى مرضى فحسب، وإنما يأتيها الجمال من هذا ومن نواحٍ أخرى قد أعرِضُ لها حين أحلل هذه القصة في غير هذا الفصل. وكأن هذه القصة قد ألهمت الكاتبين اللذين أتحدث عنهما اليوم، وأثارتهما للرد على جول رومان نحوًا ما، فكتبا قصتهما هذه ووضعا أمر الطب والأطباء والمرض والمرضى وضعًا آخر مخالفًا كل المخالفة للوضع الذي لخصتُهُ لك آنفًا، معاكسًا له كل المعاكسة. فقد كان الطب متسلطًا على الناس سواء منهم المرضى والأصحاء. في القصة الأولى كان الطب يضطهد طلاب الشفاء ويستبد بهم، أما في هذه القصة فالمرضى هم الذين يضطهدون الطبيب، وهم الذين يريدون أن يخرجوه من طوره وأن يضطروه إلى أن يتخذ طبه تجارة وإلى أن يستغل هذه التجارة استغلالًا عنيفًا مسرفًا لا قصد فيه. والقصة صراع بين الطبيب الذي يريد أن يكون شريفًا وأن يظل شريفًا مخلصًا لنفسه ولشرفه ولحاجة المرضى الذين يعتمدون عليه، وبين الناس الذين يريدون أن يكونوا مرضى وإن أتم الله عليهم نعمة الصحة، ويريدون أن يُكرهوا الأطباء على أن يعترفوا لهم بهذا المرض ويداووهم منه، ويمنحوهم من الوقت والجهد والعناية ما ينبغي أن يمنحوه للمحتاجين إليه حقًّا. وقد نستطيع أن نقول في عبارة موجزة: إن الكاتبين اللذين وضعا هذه القصة أرادا أن يثأرا للأطباء، وأن يُضحكا النظارة والقراء من الناس بعد أن عبث جول رومان بالأطباء فأضحك منهم النظارة والقراء.
وكلتا القصتين مع ذلك صادقة كل الصدق موفقة كل التوفيق، لا تُضحكنا إلا لأنها تصوِّر ما يُضحك حقًّا، ولا تحزننا إلا لأنها تصور ما يحزننا حقًّا؛ فمن الذي يستطيع أن ينكر أن بين الأطباء في كل زمان وفي كل بيئة مشعوذين يتخذون الطب تجارة وتجارة خاطئة آثمة، يخيلون إلى الصحيح أنه مريض ويخيلون إلى المريض أنه مشرف على الموت، لا يبتغون بهذا التضليل إلا الربح وبُعد الشهرة والصوت.
فجول رومان إذن لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، وإنما نظر فرآه بين يديه، فوصفه أصدق وصف وصوَّره أجمل تصوير. وكلنا يستطيع أن ينظر فيرى الطبيب المشعوذ بين يديه، ولكننا جميعًا لا نستطيع أن نصفه ولا أن نصوره، وإن كنا جميعًا نستطيع أن نشكو منه حين ينشب فينا أظفاره فيبتز منا المال ويوشك أن يبتز منا الحياة، بل هو يبتزها من كثير من الناس. ومن ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الترف والفراغ والوهم وقراءة الصحف والكتب في غير فهم ولا تمييز؛ كل ذلك يحمل كثيرًا من الناس على أن يعنوا بأنفسهم أكثر مما ينبغي، ويراقبوا صحتهم أكثر مما ينبغي، ويقفوا تفكيرهم على ملاحظة أجسامهم وما يعرض لها أو ما يظنون أنه يعرض لها من العلة أو مما يتوهمون أنه العلة. هذا يلاحظ قلبه فهو يتسمَّع خفقانه وهو يتلمَّس النبض ويعده، وهذا يلاحظ معدته، وهذا يلاحظ كبده، وهذا ينظر إلى لسانه بين حين وحين. وكلهم يظن بصحته الظنون، وكلهم يحدِّث نفسه عن صحته إذا خلا إلى نفسه، ويحدِّث الناس عن صحته إذا لقي الناس. وكلهم يود لو أنفق حياته مع الطبيب لا يبخل عليه بالمال، وقليل منهم تتيح له الظروف أن يرضي حاجته وأن يلقى الطبيب متى أراد، وأن يؤثره بخير ما يملك من المال. والأطباء أمام هؤلاء الناس بين رجلين: رجل شريف نزيه ينظر إلى فنه نظرة الجد، ويضن على وقته بالضياع، ويكره أن ينفق جهده في العناية بمن لا يحتاجون إلى العناية، ويكره كذلك أن يأخذ المال في غير استحقاق له؛ فهو يعرض عن هؤلاء الناس ولا يحفل بهم، وإنما يصرفهم عن نفسه صرفًا. ورجل آخر يرى العناية بهؤلاء الناس والفراغ لهم مذهبًا يسيرًا في كسب المال والشهرة لا يكلِّف صاحبه جهدًا ولا جدًّا، وإنما يغلُّ عليه المال الكثير ويقيم له الثروة الضخمة دون أن يأرق لذلك ليله أو يكدح لذلك نهاره أو يكلف عقله مشقة البحث والتحصيل؛ فيندفع في هذه الطريق السهلة، ويبلغ من رضى هؤلاء الناس عنه ومن بذلهم له ما يريد وفوق ما يريد.
فكما أن جول رومان لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، فهذان الكاتبان لم يخلقا طبيبهما النزيه من لا شيء، وإنما نظرا فوجداه قائمًا مجاهدًا في الحياة يحمي المرضى من عدوان المرض ويحوط العلم والخلق من فساد المشعوذين، فصوَّراه تصويرًا صادقًا جميلًا. وأكثر قراء العربية يجهلون في أكبر الظن أن أحد هذين الكاتبين، وهو ترستان برنار، من أبرع الكتَّاب الفرنسيين في الدعابة الحلوة والفكاهة اللاذعة التي تثير الابتسام على الثغور، ولكنها مع ذلك تثير العبرة في النفوس؛ لأنها صادقة مستمدة من الحقيقة الواقعة لا من الخيال المتكلف ولا من التصنُّع السقيم. وحظ قصتنا من فكاهة هذا الكاتب العظيم لا بأس به؛ فقد انتثرت فيها الملاحظات الصادقة والفكاهات الحلوة انتثارًا، فجعلت قراءتها لذيذة حلوة في كل وقت. وأنت تقرأ القصة أو تشهدها، فلا تجد في ذلك مشقة، ولا تحس أن الكاتبين قد وجدا في إنشائها مشقة ما. وأنت مع ذلك تسأل نفسك كيف يمكن تصوير هذا الحق وتوفير هذه اللذة الفنية في غير تعب ولا جهد؟ وجواب ذلك يسير، فهذا ممكن؛ لأن الكاتبين اللذين حاولاه من الفنيين الذين يعرفون كيف يجهدون ويخفون الجهد، وكيف يشقَوْن ويخفون الشقاء.
ونحن في أول القصة في بيت متواضع يقوم في قرية جديدة غير بعيد من باريس، نرى خادمًا تُهيئ مائدة الطعام وهي تتغنى ببعض هذه الأغاني الشعبية المضحكة التي يكلف بها الفرنسيون، وإنها لفي ذلك وإذا سيدتها هيلانة تدخل عليها وتطلب إليها أن تلاحظ طعامها الذي يوشك أن يحترق لكثرة ما أهملته وأعرضت عن ملاحظته إعراضًا. ولكن الخادم مطمئنة على طعامها محتاجة إلى أن تتحدث إلى سيدتها حديثًا يظهر فيه العبث والمزاح، ولكنه مع ذلك جدٌّ كله. فالخادم ساخطة غير راضية، ترى أن مقام سادتها في هذه القرية الناشئة لا يغني عنهم شيئًا؛ لأن سيدها طبيب وسكان القرية قليلون، وهم بخلاء لا يثقون بالطب ولا يحسنون البذل للأطباء. وهي تؤكد في ظُرف أنها خادم تعلم حق العلم أن ليس لها أن تدخل فيما لا يعنيها وأن تتحدث في مثل هذه الأشياء، وأنها قد رسمت لنفسها خطة ألا تدخل في أمور سادتها وأن تلزم حدها، ولكنها مع ذلك تتجاوز هذا الحد وتلاحظ في غير تحرُّج أن حياتها وحياة سادتها ليست سهلة في هذه القرية، وهي لا تحب أن تنصح ولا أن تلوم فليس ذلك من حقها، ولكنها مع ذلك تأسف أشد الأسف وتلوم سيدتها أشد اللوم لأنها خالفت رأي والديها وتزوجت من هذا الشاب الطبيب الذي قد يكون بارعًا في الطب متقنًا للعلم، ولكنه غير محسن لكسب المال ولا موفق إلى تيسير الحياة. وسيدتها تزجرها عن هذا الحديث وتلحُّ عليها في أن تلاحظ طعامها، ولكنها لا تزدجر، ولا تحفل بإلحاح سيدتها ولا تنصرف إلا حين تسمع صوتًا تحسُّ منه مقدم سيدها فتسرع إلى المطبخ. وقد فهمنا من حديثها حال هذه الأسرة الصغيرة التي تبتدئ الحياة الزوجية في شيء من الجهد والضيق. ويدخل الزوج جورج فإذا شاب ذكي شديد النشاط، محب لزوجته مفتون بصناعته، ولكنه شقي في بدء حياته لأنه بعيد من المستشفيات التي يستطيع أن يلاحظ فيها المرضى ويتابع فيها البحث العلمي. وهو على ذلك لا يكسب من المال ما يمكن أن يعزيه عن هذا الحرمان؛ فهو في قرية ناشئة لا تطيب نفوس أهلها عن المال، وهو قد ذهب لعيادة طفل مريض فأبعد في المشي ثم رأى الطفل فلم يجد به بأسًا، فلما أنبأ أمه بذلك قالت له: فهل ترى بأسًا في أن تأخذ نصف الأجر ما دام الطفل لا بأس عليه؟ وغاظه هذا الجواب وهذا البخل فانصرف ولم يأخذ من المرأة شيئًا.
والزوجان ينتظران زيارة بعد حين، وهي زيارة ينكرانها ويدهشان لها؛ فهذا عم هيلانة كان ممانعًا في اقترانها بهذا الفتى أشد الممانعة، مقاطعًا للزوجين منذ اقترنا، وهو الآن ينبِّئ بزيارته فجأة وبأنه سيشارك هذين الزوجين في الغداء. وهما يتساءلان عن هذه الزيارة ما سببها، وما غايتها. فأما الفتى فيظن أن هذا الرجل إنما أقبل ليرى سوء حال الزوجين وليشمت بهما، ثم ليعود بعد ذلك إلى أسرة الفتاة فيصوِّر لها ما رأى ويلومها على أنها لم تسمع له، ولم تمانع في هذا الزواج. وأما الفتاة فلا تظن ذلك، ولكنها لا تخفي دهشتها من هذه الزيارة، وهي تنتظر وتؤثر الانتظار. على أن الانتظار لا يطول، فهذا صوت العم مقبلًا، وما أسرع ما يستخفي الفتى معتلًّا بالعمل؛ لأنه يكره أن يرى هذا الرجل ويريد أن لا يلقاه إلا على المائدة. ولا يكاد العم يقبل ويتحدَّث إلى الفتاة حتى يتغير كل شيء، فهو لم يكن يعرف هذا الفتى، ولم يكن يقدِّر قيمته، حتى لقي أستاذًا عظيمًا من أساتذة الطب منذ أيام فسمع منه ثناء جميلًا على هذا الفتى، فأعجب به وأقبل يزوره ويحمل إليه نبأً سارًّا، وهو يأبى أن يعلن هذا النبأ إلى الفتاة. والفتاة محتاجة إلى أن تعرف النبأ، فهي لا ترى بأسًا بأن تدعو زوجها وبأن تصرفه عن العمل الذي كان يريد أن ينقطع له.
ويُقبل الفتى، فيكون اللقاء الفاتر أول الأمر، ولكن العم يتقرَّب إليه ويتلطف له ثم ينبئهما النبأ؛ وإذا هما سعيدان، وإذا المودة بينهما وبين هذا الرجل قوية حقًّا، وإذا هم جميعًا يستعدون لغداء فيه كثير من الفرح والابتهاج وفيه الشمبانيا التي أحضرها العم معه من باريس. ذلك أنه أقبل يعرض على الفتى عملًا يعجبه حقًّا، عملًا في مدينة من مدن الاستشفاء قريبة من سويسرا، يقصد إليها المرضى المترفون من أهل أمريكا الجنوبية خاصة وهم يحملون إليها أجسامًا معتلة تعبث بها أمراض مختلفة غريبة، فسيجد الفتى إذن فرصة للتجربة وفرصة للاستكشاف، وسيجد الزوجان فرجًا بعد حرج وسعة بعد ضيق.
ثم يُرفع الستار عن الفصل الثاني، فإذا نحن في مدينة الاستشفاء هذه، وإذا الكاتبان يقدمان إلينا نموذجًا من هؤلاء المرضى الذين صوَّرتُهم في أول هذا الفصل. وهم رجال ونساء مترفون مسرفون في الترف لم تشغلهم هموم الحياة ولم تثقلهم أعباؤها، فشغلوا بأنفسهم عن هذه الهموم والأعباء. وهم مستيقنون بأنهم مرضى وبأن أمراضهم خطيرة حقًّا. هذه تزعم أن الطبيب السابق قد أنبأها بأن مرضها قد هزم علم الطب، وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد أكبر علتها وعني بها عناية علمية خاصة، فكتب عنها فصلًا في مجلة طبية كبرى، ولفتها إلى هذا الفصل فاشترت خمسين نسخة من هذه المجلة. وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد زعم لها أن علتها قد اضطرت الطب الحديث إلى الإفلاس. فأما هذا الرجل الذي أقبل منذ حين، فصرف هؤلاء النساء عما كنَّ فيه من الحديث؛ فرجل غريب الأطوار حقًّا؛ هو لا يثق بموازين الحرارة لأنها تفسد في سرعة، وقد يتعمد أصحاب الفنادق إفسادها حتى لا يضطروا إلى الإسراف في التدفئة. وهو من أجل ذلك قد استكشف طريقة خاصة يقيس بها حرارة الجو، فهو ينفخ أمامه نفخًا يسيرًا إذا دخل غرفة من الغرفات، فإذا رأى نفَسه فليس من شك في أن الجو بارد إلى حدٍّ ما لا ترتفع الحرارة فيه إلى ثماني عشرة درجة، وإذا لم يرَ نَفَسه فالجو معتدل أو حار. وهم جميعًا ينفخون ليروا أتظهر لهم أنفاسهم. وكلهم يتحدث في المرض والصحة وفي المرضى والأصحاء، وكلهم يشكو من هؤلاء الأصحاء الأثرين الذين يخدعون المرضى ويخيلون إليهم أن ليس عليهم بأس، لا يصدُقون في ذلك وإنما يريدون أن يتخففوا من واجب العناية بهم والتفرغ لهم. وكلهم قد شغله مرضه عن كل شيء، عن الأزواج والزوجات وعن البنين والبنات، بل عن قراءة الكتب التي تصل إليهم من أهلهم. ولا ينتهي هذا الفصل حتى يكون الكاتب قد شفى نفسه من هجاء هؤلاء الأثرين الذين تضعف عقولهم وإرادتهم، فيرون أنفسهم مرضى وليسوا من المرض في شيء.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد استقر الطبيب الجديد في عيادته، وقد أخذ يعرف من شئون هذه المدينة شيئًا غير قليل، وهو مزدرٍ للطبيب الذي سبقه وإن كان الناس يحبونه، وهو مزدر لأكثر الذين استشاروه من المرضى، قد أغضب منهم جماعة لا بأس بها، زعم لهم أنهم أصحاء وصرفهم وأبى أن يُعنى بهم؛ فمنهم من سافر مغضبًا، ومنهم يتهيأ للسفر. وأصحاب الفندق وأصحاب الكازينو مغضبون ثائرون، يشفقون من كساد التجارة ومما يتعرض له الكازينو من الخسران. وهم يتقدمون إلى الطبيب في أن يتلطف للمرضى ولا يزهدهم في المدينة ولا يصرفهم عن الفندق والكازينو، ولكن الطبيب لا يحفل بهذا لأنه لم يأتِ تاجرًا ولا مقامرًا، وإنما جاء طبيبًا. ومع ذلك فزوجه سعيدة في هذه الحياة، قد ضمنت السعة واليسر والترف أيضًا. ها هي هذه تشتري فروًا غالي الثمن ما كانت لتحلم بشرائه لولا هذا العمل الجديد. وها هي هذه قد أخذت تخالط الأغنياء وتجد في مخالطتهم لذة ونعيمًا، والطبيب يرى هذا ويقدره ويألم له، ولكنه مع ذلك طبيب لم يهيأ للشعوذة ولا للتأثر لمدرسة الشعوذة هذه، فلن يكون تلميذًا نجيبًا من تلاميذ هذه المدرسة. وقد انتهى الطبيب بالنزاهة إلى أقصاها، فقد ردَّ أكثر المرضى وهم يسافرون أفرادًا وجماعات، وصاحب الفندق جزع ومدير الكازينو ليس أقل منه جزعًا.
ويُرفع الستار عن الفصل الرابع، وقد اجتمع مجلس إدارة الفندق والمستشفى للتشاور في الأمر وهم يئسون، فليس لهم أمل في التغيير من خطة الطبيب، وهم مضطرون إلى أن يلغوا ما بينهم وبينه من عقد، ولكنهم مشفقون من أن يقاضيهم، لا لأن مقاضاتهم ستكلفهم مقدارًا ضخمًا من المال؛ فأمر المال هين ومهما يتكلفوا منه فلن يكون ما ينفقونه شيئًا بالقياس إلى ما يخسرونه في كل يوم بفضل النزاهة التي يتشدد فيها الطبيب.
ورئيس المجلس وهو شيخ قانوني يتوسل إلى الطبيب في حوار ممتع حقًّا، ولكن الطبيب متشدد. ورئيس المجلس يحاول أن يستعين بحب هيلانة للترف لعلها تقنع زوجها وتغير من خطته، ولكن هيلانة تحب زوجها وتكبره وتكره أن تتقدَّم إليه فيما لا يريد، وهي تحب الترف وتألم إن حيل بينها وبينه، ولكنها مع ذلك مستعدة للشقاء والحرمان، تضحي بالترف والنعيم في سبيل الاحتفاظ بحب زوجها ورضاه.
ويزيد الأمر تحرجًا أن جماعة من الأمريكيين الأغنياء قد أقبلوا يستشفون، وهم الآن يسعون إلى الطبيب. أفتراه يقرُّهم على أنهم مرضى، أم تراه يزعم لهم أنهم أصحاء؟ وقلوب القوم واجبة ووجوههم واجمة، ونفوسهم في قلق لا يطاق، وهم ينتظرون أنباء الفحص الطبي. وهذه امرأة الرئيس عجوز فانية قد ذهبت إلى الكنيسة تتوسل إلى الله في أن يحفظ الفندق والكازينو ويحميها من الخسران. وهذه الممرضة مقبلة فتتعلق بها أيضًا أبصار القوم وقلوبهم ونفوسهم؛ لأنها تحمل إليهم رأي الطبيب في هؤلاء المرضى الأمريكيين.
يا له من رأي! هذه الوجوه تشرق، وهذه الثغور تبتسم، وهذه الألسنة تنطلق، وهذه العجوز تحمد الله؛ فقد استجاب دعاءها وحمى الفندق والكازينو من الخسران … فقد قرر الطبيب أن هؤلاء الأمريكيين مرضى حقًّا، وأنهم يحتاجون إلى علاج دقيق طويل.