صراع تحت الماء!
توقَّفَت سيارةُ الشياطين على مسافة من الكورنيش العامر بالأضواء … وإلى الخلف كانت بقعة مظلمة هادئة … فاقترب منها الشياطين في حذرٍ … وكانت خطة الشياطين بسيطة … أن يغوصَ أحدُهم إلى قلب النيل، ويقوم بتمزيقِ جزءٍ من الصندوق البلاستيك الذي يحفظ الأسلحة من الماء، وبذلك يتسرَّب الماء إلى الأسلحة فيُفسدها … مما يدفع أعضاء منظمة «الأصابع الدموية» إلى الاتصال مرة أخرى بأفراد الخلايا الساكنة، وطلب أسلحة أخرى … وهذا سيدعو أفراد هذه الخلايا للظهور، وكشف أنفسهم … أو أن يتركوا دليلًا يكشف عن شخصياتهم وأماكنهم …
كانت الشمس قد غربَت تمامًا، وساد الظلامُ المكانَ … وقد اقتربَت الساعة من السابعة مساء … وهمس «أحمد» لبقية الشياطين: سأغوص في المكان المحدَّد لتمزيقِ جزءٍ من كيس الأسلحة.
هتفَت «إلهام» رغمًا عنها: ولكن الماء سيكون باردًا جدًّا في هذا الوقت.
قال «أحمد» باسمًا: من المؤسف أنه ليس لدينا وقتٌ لإحضار ملابس الغوص … فلم يكن في حُسباننا أن جزءًا من المهمة سيدور في قلب النيل. وخلع «أحمد» ملابسه، وبقيَ بملابس البحر التي كان قد استعدَّ بها قبل مغادرة المسكن، ولوَّح لبقية الشياطين، ثم قفز إلى قلب النيل.
كان الماء شديد البرودة … ولكن «أحمد» شرع في السباحة بقوة ليدفع بالحرارة إلى جسده … وعند المكان المحدد أخذ نفَسًا عميقًا … ثم غاص في قلب النهر … ووقف الشياطين الثلاثة على حافة سور الكورنيش المظلم، وهمسَت «إلهام» في قلق ﻟ «خالد» و«قيس»: هل تظنَّانِ أن هناك أيَّ خطرٍ ينتظر «أحمد» بأسفل؟
أجابها «قيس» في ثقة: لا تخشَى شيئًا … فإن «أحمد» قادرٌ على مواجهةِ أيِّ خطر.
غاص «أحمد» سريعًا في قلب الماء. كان المكان مظلمًا وجَوف الماء شديد البرودة … ولم يكن مع «أحمد» بطارية يُنير بها قلبَ الماء المظلم … ولكنه راح يتحسَّس قاع النهر قربَ ضفتِه اليُمنى باحثًا عن بُغْيته، وأخيرًا عثرَت أصابعُه على كيسٍ بلاستيكيٍّ كبيرٍ أشبهَ بالجوال في حجمه … وعلى الفور بدأَت أصابعُ «أحمد» تعمل في إحداثِ ثقبٍ صغير في الكيس كان كافيًا ليتسرَّبَ الماءُ من خلاله، ويُفسد محتوياتِه، وبحيث يبدو التمزيق كما لو كان بفعل الصخور.
وأحسَّ «أحمد» بنَفَسِه يضيق … واستعدَّ للصعود إلى أعلى … وفجأةً أحسَّ بحركة خلفه، فاستدار بسرعة … ولمح ضوءَ بطارية يقترب منه كاشفًا عنه … ولم يكن «أحمد» بحاجة إلى رؤية صاحب البطارية ليعرف أنه غواصٌ في ملابس غوص، كما لم يكن بحاجة إلى ذكاء شديد ليستنتجَ أن ذلك الغواص لا بد وأن يكون عدوًّا … وبمعنًى أدق … أحد أفراد الخلايا الساكنة … ولعله كان يقوم بحراسة الأسلحة لحين التقاط منظمة «الأصابع الدموية» لها.
مرَّت الخواطر السابقة في ذهن «أحمد» بسرعة … وأدرك أنه في موقف صعب جدًّا بلا سلاح أو أوكسجين … وبقية الشياطين بأعلى لا يدرون أيَّ خطر مميت يُواجهه في قلب الماء.
واتخذ «أحمد» قرارَه في نفس اللحظة … لم يكن لديه وقتٌ للتراجع ولا أوكسجين كافٍ يُتيح له المناورة والاختفاء، وصدرُه يكاد يختنق لقلة الأوكسجين … وفي جرأةٍ اندفع إلى الإمام مهاجمًا عدوَّه …
وفوجئ الغواص بهجوم «أحمد» الذي لم يتوقَّعه، وقبل أن يصوِّبَ بندقيَّتَه المائية نحوه، اندفعَت ذراع «أحمد» في حركة سريعة لتجذبَ خرطومَ الأوكسجين من أنبوبة الغواص، فانتزعه من مكانه، وبضربةٍ هائلة صوَّبَها إلى الغواص، فتراجع في ألمٍ شديد، وأفلتَت البندقية من بين أصابعه وتهاوَت إلى قلب الماء المعتم.
وكان هذا أقصى ما يمكن ﻟ «أحمد» أن يقوم به، وشعر كأنَّ حريقًا قد شبَّ في صدره، وأنه يكاد يختنق لقلة الأوكسجين، فترك عدوَّه واندفع يصعد لأعلى بأقصى سرعته … وشعر أنه يكاد يموت … وكاد يستسلم، ولكن في اللحظة الأخيرة برزَ رأسُه فوق سطح الماء، فتنفَّس في عمقٍ وهو لا يصدِّق بنجاته، وسبح إلى الشاطئ … وأسرع يتسلَّق صخور السور الحجري باتجاه الشياطين … وهو يلهث، ولمحَت «إلهام» بعضَ الخدوش فوق ذراعَي «أحمد»، فسألَته في قلقٍ وخوف: ماذا حدث يا «أحمد»؟
فأجابها وهو يتنفَّس بسرعة: لقد خُضتُ معركة في قلب الماء مع غواص مجهول، ليس هناك شكٌّ أنه أحد الخلايا الساكنة.
خالد: وكيس الأسلحة … هل وجدتَه في مكانه؟
أحمد: مزَّقتُه فأغرقَته المياه، وراح يرتدي ملابسَه مرةً أخرى.
قيس: هيَّا بنا نبتعد عن هذا المكان … فلعل هناك مزيدًا من أفراد الخلايا الساكنة حولنا دون أن نراهم … وقد يكونون مسلَّحين …
ولم يكَد «قيس» ينتهي من عبارته حتى دوَّى صوتُ اصطدامِ شيءٍ مكتوم بسور الكورنيش الحجري خلفهم …
صاحَت «إلهام»: إنهم يُطلقون علينا الرصاص من مسدسات كاتمة للصوت … فلنُلقِ بأنفسنا على الأرض.
وألقى الشياطين بأنفسهم فوق الأرض … وزحفوا مبتعدين يحميهم الظلام … واحتمَوا خلف شجرة قريبة، وراحوا يتطلَّعون حولهم، ولكن … كان الظلام يُخفي تفاصيلَ المكان.
وغمغمَت «إلهام» في سخط: من المؤسف أننا لا نحمل أية أسلحة.
قيس: وإلى مَن سنوجِّه أسلحتَنا، حتى لو كنَّا نملكها … إننا في موقع مكشوف لأعدائنا.
قال «أحمد» في قلق: إن ما حدث سيكشف لأفراد هذه الخلايا الساكنة وللإرهابيِّين الأربعة أن هناك مَن يُطاردهم.
إلهام: هذا صحيح، وهو ما يزيد من صعوبة مهمتنا.
قيس: هل تظنون أن هؤلاء الإرهابيِّين الأربعة سيتراجعون عن القيام بعملياتهم الإرهابية بعد أن ظهرنا في الصورة؟
أحمد: إن الساعات القادمة هي الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال … وإن كنتُ لا أظن أنهم سيتراجعون عن مهمتهم … بل سيحاولون تنفيذَها بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
ومرَّ الوقت … وتجاوزَت الساعة التاسعة مساءً دون أن يظهرَ أعضاء منظمة «الأصابع الدموية» الأربعة … وترامق الشياطين في قلقٍ، وهمسَت «إلهام»: يبدو أن هناك مَن أبلغ هؤلاء المجرمين بما حدَث، وطلب منهم عدمَ المجيء إلى هنا، وأن مهمَّتَهم قد اكتُشفَت، وأن هناك مَن يُطاردهم.
قيس: إذن، فلنُسرع إلى مكانهم … فلا شك أنهم سيبادرون إلى الفرار بأقصى سرعة.
هتفَت «إلهام»: انتظر يا «قيس» … قد يكون هناك مَن يصوِّب المسدسات الكاتمة للصوت إلينا في الظلام.
لمعَت عينَا «أحمد» في الظلام، وقال: لا أظن ذلك … فإن هؤلاء المجرمين لا يُكرِّرون نفسَ الشيء مرتين.
وغادر مكانَه وسار باتجاه سيارة الشياطين الصغيرة، فتَبِعه الباقون واندفع «خالد» إلى السيارة قائلًا: فلنُسرع بمغادرة هذا المكان …
ولكنه لم يكَدْ يُكمِل عبارتَه؛ فقد جذبه «أحمد» من يده قائلًا في تحذير: لا تلمس السيارة يا «خالد» …
تساءل «خالد» في دهشة: ماذا هناك؟
هتف «أحمد» في «إلهام»: أعطني بطاريتك الصغيرة يا «إلهام».
ناولَت «إلهام» «أحمد» بطاريتَها في دهشة … ووجَّهَ «أحمد» ضوءَ بطاريته إلى مقدمة السيارة، وفتح غطاء السيارة في حذر … وما كاد يُصوِّب ضوءَ بطاريته إلى موتور السيارة، حتى كشف الضوءُ عن كتلة سوداء من مادة شديدة الانفجار، متصلة بأسلاك ولمبات صغيرة حمراء، وتمتدُّ الأسلاك المتصلة بها إلى محرِّك السيارة.
هتف «خالد» غير مصدِّق: إنها قنبلة شديدة الانفجار.
أحمد: وهي مجهزة، بحيث تنفجر حالما يدور محرك السيارة.
إلهام: هؤلاء المجرمون الأوغاد … لقد توقَّفوا عن إطلاق الرصاص علينا، وقاموا بزرع قنبلة في سيارتنا.
أحمد: وسوف أنتزع القنبلة من مكانها.
قالت «إلهام» في فزع: حاذر يا «أحمد».
أحمد: لا تخشَي شيئًا … لقد تدرَّبتُ على مثل هذه العملية عشرات المرات من قبل.
وفي مهارةٍ راح يُعالج الأسلاك الموصلة إلى محرك السيارة، حتى قام بفصلها … ثم انتزعها من المادة المتفجرة أيضًا … وأخيرًا أزاح المادة المتفجرة من مكانها، وأمسكها بيده، وهو يقول: لم يَعُد منها الآن أيُّ خطر.
قيس: فلنُسرع للحاق بهؤلاء المجرمين … وسنكون حسنِي الحظِّ لو كان هناك بعضُ أفراد هذه الخلايا الساكنة مع أفراد عصابة «الأصابع الدموية»، فيسقط الجميع بين أيدينا.
واندفعَت سيارةُ الشياطين تشقُّ طريقها عائدةً باتجاه الجيزة، وأخيرًا توقَّفت السيارة أمام العمارة التي يقطنها الإرهابيون الأربعة، وكانت سيارتهم الشيفورليه واقفةً مكانها، والبواب جالسًا يغطُّ في نومه أمام باب العمارة.
قفز الشياطين السلالم قفزًا نحو شقتهم المفروشة، وفحص «أحمد» بابها، ولكن … لم يكن به ما يريب، ففتحه … وأسرع الشياطين يضعون ميكروفونات للتصنُّت على الحائط … ولكنهم لم يسمعوا أيَّ صوت من داخل الشقة المغلقة.
همس «أحمد» في قلق: إنني أخشى أن يكون الإرهابيون قد غادروا المكان … وعلينا أن نكتشف الحقيقة.
إلهام: وماذا سنفعل؟
أحمد: سوف أتسلَّل إلى داخل شقتهم.
قيس: سآتي معك.
وأشار «أحمد» ﻟ «إلهام» و«خالد» قائلًا: ابقيَا أنتما هنا لمراقبة المكان.
وغادر «أحمد» الشقة … وصَعِد إلى سطح العمارة … ثم قفزَا بداخل شقة الإرهابيِّين دون أن يُثيرَ أيَّ جلبة.
وتقدَّم «أحمد» و«قيس» في حذرٍ نحو قلب الشقة … ولكنهما لم يسمعَا أيَّ صوت … وأسرعَا يفتِّشان المكان، ولكن الشقة كانت خاليةً من أيِّ إنسان … وفي حجرة النوم عثر «أحمد» على أربعة أقنعة جلدية تُستخدَم لتغيير الملامح … وكان كلُّ قناع يُشبه أحدَ الإرهابيِّين تمامَ الشَّبه … كما كانت هناك أربع باروكات شعر تُشبه شعرَ رءوس الإرهابيِّين تمامًا.
هتف «قيس» في دهشة: ما معنى ذلك؟
ضاقَت عينَا «أحمد»، وقال: تحقَّق ما ظننتُه من البداية … فإن وجوه الإرهابيِّين التي دخلوا بها إلى البلاد ليست وجوهًا حقيقية، بل مجرد أقنعة جلدية تُشبه الجلدَ البشريَّ تمامًا … وهذا ما استنتجتُه عندما عرفتُ أنهم قاموا بعمليتهم الإرهابية في إيطاليا دون أن يحاولوا إخفاء ملامحهم … وهذا معناه أنهم كانوا يرتدون أقنعة مطاطية بوجوهٍ مزيفة. وبعد أن قاموا بعمليتهم أسرعوا بنزع الوجوه الزائفة، فكان سهلًا عليهم مغادرة إيطاليا دون اكتشاف حقيقتهم.
هتف «قيس» في سخط: إن هذا معناه أن هؤلاء الإرهابيِّين الأربعة يمتلكون وجوهًا غير التي نعرفها. ونحن نجهل ملامحهم الجديدة، وسيستحيل علينا البحث عنهم، أو العثور عليهم بعد ذلك و…
قاطعه «أحمد» هاتفًا: انتظر يا «قيس»، أنصِت … ألَا تسمع شيئًا؟
أرهف «قيس» سمْعَه … كان هناك صوتٌ ضعيف يُشبه دقَّاتِ الساعة يأتي من أسفل الفراش في الحجرة … ولمعَت عينَا «قيس»، وقد أدرك معنى تلك الدقات … وفي نفس اللحظة أدرك لماذا غامر الإرهابيون بترك أقنعة وجوههم وباروكاتهم المستعارة … وذلك لأنهم تركوا أيضًا وراءهم قنبلة كانت كفيلةً بأن تُحيلَ المكان إلى جحيم وعشرات الضحايا.
وصاح «قيس»: فلنُسرع بإبطال مفعول هذه القنبلة قبل أن تنسف العمارة.
واندفع «أحمد» و«قيس» في مجهود محموم لإخراج القنبلة من أسفل الفراش، ورمقاها بذهول … كانت قنبلةً ضخمة من أكبر القنابل التي شاهداها في حياتهما … ووزنها أكثر من خمسين كيلوجرامًا … من مادة «تي. إن. تي» الشديدة الانفجار … كانت قادرةً على نسفِ العمارة بأكملها … ولم تكن لدى «أحمد» أو «قيس» خبرة بإبطال مفعول تلك القنبلة الكبيرة … ووقعَت عينَا «أحمد» على ساعة توقيت انفجار القنبلة.
كان باقيًا على انفجارها عشرُ ثوانٍ فقط.