إقامة نهار واحد

«لقد كان هذا أروع تهافت للتنقيب عن الذهب رأيتُه في حياتي. انطلقت آلافٌ من فرق الكلاب على الجليد. لم يكن في وُسع المرء رؤيتهم من شدة الدخان. تجمَّد رجلان أبيضان ورجل سويدي حتى الموت في تلك الليلة، وتضرَّرت رئات العشرات منهم تضرُّرًا بالغًا. لكن ألم أرَ بأمِّ عيني قاع حفرة الماء؟ لقد كانت صفراء اللون من كثرة الذهب مثل لصقة خردل. لهذا السبب غرستُ أعمدة في منطقة اليوكون لتأطير حدود الأرض للمُطالبة الرسمية بالتنقيب. كان التنقيب عن الذهب هو سبب تهافت أعداد كبيرة من الناس. ولكن لم يسفر الأمر عن شيء. هذا ما قلتُه، لم يسفر الأمر عن شيء. ولكنني لم أتوقَّف بعدُ عن التفكير في الأمر.» هذا ما سرده شورتي.

تشبَّث جون ميسنر بيده ذات القُفَّاز بعمود التوجيه المُهتز المتأرجِح، وحافظ على الزلَّاجة من الانحراف عن المسار. وحَكَّ بيدِه الأخرى خدَّيه وأنفه. كان يحك خدَّيه وأنفه كل فينةٍ وأخرى. وفي الواقع، كان نادرًا ما يتوقَّف عن حكِّهم؛ وأحيانًا، مع زيادة خدَرهم، كان يحكُّهم بقوة. كانت جبهته مُغطَّاة بمقدمة قبَّعته المصنوعة من الفرو التي كانت أغطيتُها الجانبية الواقية تُغطي أذنَيه. أما باقي وجهه فقد كان محميًّا بلحيةٍ كثيفة، ذات لونٍ بُني ذهبي، غطَّتها طبقة من الصقيع.

كانت تُسْحَب خلفه زلَّاجة يوكون مُحمَّلة بحمولةٍ ثقيلة محدثةً صوت رجرجة مرتفعًا، وأمامه سلسلة من خمسة كلاب تجرُّها بكَد. احتكَّ الحبل الذي سحبت الكلاب به الزلَّاجة بجانب ساق ميسنر. وعندما تأرجحت الكلاب عند منعطفٍ في الطريق، مرَّر قدمَيه من فوق الحبل. كانت هناك العديد من المنعطفات، وكان يُضطر إلى تمرير قدمَيه فوق الحبل كثيرًا. في بعض الأحيان كان يتعثَّر فيه، أو يفقد توازنه، وفي جميع الأوقات كان يشعر بإرهاق، ويبدو عليه تعبٌ شديد إلى درجة أن الزلاجة كانت تصطدم بكعبَيه بين الحين والآخر.

وعندما وصل إلى جزءٍ مستوٍ من المسار يمكن فيه للزلَّاجة أن تسير لحظةً دون توجيه، ترك العمود وضرب يده اليمنى بحدَّة على الخشب الصلب. وجد صعوبةً في الحفاظ على الدورة الدموية في تلك اليد. ولكن بينما كان يضرب يده اليُمنى، لم يتوقَّف قَطُّ عن فرك أنفِه وخدَّيه باليد الأخرى.

وقال: «الجو بارد للغاية إلى درجةٍ لا تسمح بالسفر على أي حال.» تكلَّم بصوتٍ عالٍ على غرار طريقة الرجال الذين يقضون وقتًا طويلًا في عزلة. «الأحمق وحدَه هو الذي يُسافر في درجة حرارة كهذه. إذا لم تكن ثمانين درجة تحت الصفر، فذلك لأنها تسعة وسبعون درجة.»

أخرج ساعته، وبعد بعض التحسُّس أعادها إلى جيب صدر سُترته الصوفية السميكة. ثم تفقَّد السماء وتتبَّع خط السماء الأبيض بطوله المُمتد إلى الجنوب.

تمتم قائلًا: «إنها الساعة الثانية عشرة، والسماء صافية بلا شمس.»

واصل طريقه في صمتٍ لمدة عشر دقائق، ثم أضاف، كما لو لم يكن قد توقَّف مطلقًا عن الحديث:

«كما أنني غير قادرٍ على إحراز أي تقدُّمٍ كبير من حيث المسافة المقطوعة، والجو بارد جدًّا بحيث يتعذَّر السفر.»

فجأة صاح في الكلاب، فتوقَّفت. بدا كأنه في حالة ذعرٍ شديدٍ على ما حلَّ بيده اليُمنى، وشرع في ضربها بعنفٍ على عمود التوجيه.

خاطب الكلاب، التي سقطت بشدة على الجليد لتستريح: «يا لكم من مساكين.» كان كلامه مُتقطعًا ومرتعشًا، بسبب العنف الذي ضرب به الخشب بيدِه الخدِرة. «ماذا فعلتم على أي حالٍ حتى يأتي حيوان آخر يمشي على قدمَين ليُذلَّكم بلجام، ويقمع كل نزعاتكم الطبيعية، ويجعل منكم حيوانات مُستعبَدة؟»

فرك أنفه، ليس بطريقةٍ تأمُّلية، وإنما بوحشية، لكي يُحرك الدماء فيها، واستحثَّ الكلاب على مواصلة عملها مرة أخرى. ارتحل على السطح المُتجمِّد للنهر العظيم الذي امتدَّ خلفه في منحنًى هائل لأميالٍ عديدة حتى اختفى وسط خليطٍ رائعٍ من الجبال الساكنة، والمُغطاة بالثلوج. أمامه، انقسم النهر إلى عدة قنواتٍ لاستيعاب حمولة الجزر التي يَحملها على صدره. كانت هذه الجزُر ساكنة وبيضاء. لم تكسر أي حيوانات أو حشرات طنانة الصمت. ولم تُحَلِّق أي طيور في الهواء البارد. لم يُسْمَع صوت إنسان، ولم يُرَ أثرٌ لعملٍ بشري. كان العالَم نائمًا، وكان نومًا مثل رقاد الموت.

بدا أن جون ميسنر كان يستسلِم شيئًا فشيئًا لفتور كل شيءٍ حوله. كان الصقيع يُخدِّر روحه. واصل طريقه برأسٍ منحنٍ، غير مُنتبه، وهو يفرك أنفه وخدَّيه بطريقةٍ آلية، ويضرب بيدِه على عمود التوجيه في الامتدادات المستوية للمسار.

ولكن الكلاب كانت مُنتبهة، وفجأة توقفت، وأدارت رءوسها ونظرت إلى سيدِها بأعينٍ توَّاقة حزينة ومُتسائلة. كانت رموشها وخطومها بيضاء مُغطاة بالثلج، وبدت عليها كل مظاهر الشيخوخة العاجزة بسبب الصقيع الذي كساهم والإرهاق الذي أضناهم.

كان الرجل على وشك أن يستحثَّهم على المواصلة، عندما تفحَّص نفسه، ونهض بشقِّ الأنفس، ونظر حوله. كانت الكلاب قد توقفت بجوار بركة مياه، لم تكن شقًّا مائيًّا، بل حفرةً من صنع الإنسان، قُطِعَت بمشقةٍ بفأسٍ بعُمق ثلاث أقدام ونصف من الجليد. دلَّلت طبقة جديدة سميكة من الجليد أن البركة لم تُستخدَم لبعض الوقت. نظر ميسنر حوله. كانت الكلاب تُوَلِّي وجهها صوب الطريق بالفعل، وخطومها التوَّاقة الشيباء تتَّجِه نحو المسار الثلجي القاتم الذي تفرَّع من المسار الرئيسي للنهر مُمتدًّا إلى أعلى بحذاء شاطئ الجزيرة.

قال: «حسنًا أيتها الوحوش ذات الأرجل المُتألِّمة. سأتفحص المكان. لستم أكثر حرصًا على التوقُّف والراحة مني.»

صعد إلى الضفة واختفى. لم تستلقِ الكلاب، بل ظلَّت واقفةً تنتظِر عودته بفارغ الصبر. عاد إليها، وأخذ حبل السحب من مقدمة الزلاجة، ووضعه حول كتفَيه. ثم وجَّه الكلاب إلى اليمين، ووضعهم على مسار ضفة النهر. لقد كانت عملية سحبٍ قاسية، ولكنهم نسوا تعبهم وهم يجثمون على الثلج، وينوحون بلهفةٍ وسعادة وهم يُصارعون للصعود حتى آخر ذرة من جهدٍ مُتبقية في أجسادهم. عندما كان ينزلِق أحدُهم أو يتعثَّر، يعضُّه الكلب الذي خلفه في ردفه. صاح الرجل بالتشجيع تارة والتهديد تارة، وألقى بكل وزنه وثقله على حبل السحب.

تجاوزوا الضفة بسرعة بالِغة، وتأرجحوا مُتجهين يسارًا، ثم اندفعوا بسرعةٍ نحو كوخٍ خشبي صغير. كان كوخًا مهجورًا مكونًا من غرفةٍ واحدة، مساحته من الداخل ثماني أقدامٍ في عشرة. فك ميسنر لجام الكلاب وأفرغ زلاجته واستحوذ على الكوخ. ترك آخر مسافر أقام في هذا الكوخ مخزونًا من الحطب. أعدَّ ميسنر موقده الخفيف، وهو عبارة عن صاجٍ من الحديد، وأشعل النار. وضع خمس قطعٍ من أسماك السلمون المُجمدة في الفرن لتدفئتها لإطعام الكلاب، ومن فتحة الماء ملأ وعاء القهوة ودلو الطبخ.

وبينما كان ينتظر غليان الماء، وجَّه وجهَه إلى أعلى الموقد. تجمَّعت رطوبة أنفاسه على لحيته، وتجمَّدت في كتلة كبيرة من الثلج شرع في إذابتها. وعندما ذابت وسقطت على الموقد، أطلق أزيزًا وتصاعد البخار من حوله. ساعد في تسريع العملية بتفتيت قِطَع الثلج الصغيرة بأصابعه، فسقطت تُطقطق على الأرض.

لم تُحَيِّده صرخة وحشية آتية من الكلاب في الخارج عن مهمَّته. سمع صوتَ زمجرة متوحشة وعواء كلاب غريبة وأصواتًا بشرية، ثم طَرْقًا على الباب.

«ادخل»، هكذا صاح ميسنر بصوتٍ مكتومٍ لأنه كان في تلك اللحظة يمصُّ قطعة من الثلج ملتصقة بشدة بشفته العلوية.

فُتِحَ الباب، ونظر من وسط سحابة البخار، ورأى رجلًا وامرأة توقَّفا على العتبة.

قال بحزم: «ادخُلا، وأغلقا الباب!»

نظر عبر البخار، ولكنه لم يتمكَّن من تمييز سوى القليل من مظهرهما الخارجي. فمن بين حزام الأنف والخد الذي ترتديه المرأة والأغطية التي تلفُّ رأسها، لم يرَ منها سوى زوجٍ من الأعين السوداء. أما الرجل فقد كان ذا عينين داكنتين وحليق الذقن باستثناء شاربه الذي كان مُتجمدًا تمامًا حتى أخفى فمه.

وقال وهو يلقي نظرة على الغرفة غير المفروشة: «أردنا فقط أن نعرف ما إذا كان هناك أي كوخ آخر هنا. كنا نظن أن هذا الكوخ فارغ.»

أجاب ميسنر: «إنه ليس كوخي. لقد عثرتُ عليه منذ بضع دقائق فحسب. تفضَّل بالدخول والإقامة. هناك مساحة كبيرة تكفينا، ولن تحتاج إلى استخدام مَوقدك. توجد مساحة تكفي الجميع.»

عند سماع صوته نظرت إليه المرأة سريعًا بفضول.

قال لها رفيقها: «أخرجي أغراضكِ. سأفكُّ الأغراض وأُحضر الماء لنبدأ الطهي.»

أخذ ميسنر سمك السلمون المُذاب إلى الخارج وأطعم كلابه. كان عليه أن يحرسهم من فريق الكلاب الثاني، وعندما عاد إلى الكوخ كان الرجل قد أفرغ الأغراض من الزلَّاجة وأحضر الماء. كان وعاء ميسنر يغلي. صبَّ القهوة، وأضاف إليها نصف كوبٍ من الماء البارد، وأخرج الوعاء من الموقد. أذاب بعض البسكويت المُخمَّر في الفرن، وفي الوقت نفسه سخن وعاء من الفاصوليا كان قد غلاها في الليلة السابقة، وظلَّت مُجمَّدة على المزلجة طوال الصباح.

أخرج أوانيه من الموقد ليُعطي الوافدَين الجديدَين فرصة لطهي طعامهما، وشرع في تناول وجبته من على صندوق تخزين الطعام الخاص به، وهو جالس على كيس نومه. وما بين قضمةٍ وأخرى كان يتحدث مع الرجل، الذي كان يجلس حانيًا رأسه فوق الموقد، يذيب الجليد عن شاربه، عن الطريق والكلاب. كان هناك سريران في الكوخ، ألقى الغريب في أحدهما كيس نومه بعدما أزال الثلج عن شفته.

وقال: «سننام هنا، إلا إذا كنتَ تُفضِّل هذا السرير. لقد أتيتَ أولًا وأنت من ستختار أولًا، كما تعلم.»

أجاب ميسنر: «لا بأس. كلاهما سيان.»

فرش كيس نومه على السرير الثاني، وجلس على حافته. وضع الغريب حقيبة سفرٍ صغيرة خاصة بالأطباء تحت بطانيته عند أحد طرفيها لتكون بمنزلة وسادة.

سأله ميسنر: «أطبيب أنت؟»

أجاب: «أجل، ولكني أؤكد لك أنني لم آتِ إلى كلوندايك لممارسة الطب.»

شغلت المرأة نفسها بالطهي، بينما قَطَّع الرجل لحم الخنزير المقدد إلى شرائح وأشعل الموقد. كان الضوء في الكوخ خافتًا، يتسلَّل عبر نافذة صغيرة مصنوعة من ورق الكتابة الشفاف المدهون بدهن الخنزير، فلم يتمكَّن جون ميسنر من رؤية ملامح المرأة جيدًا. ولم يكن يُحاول رؤيتها. بدا غير مُهتمٍّ بها. لكنها كانت تُلقي نظرات خاطفة بفضولٍ من وقتٍ إلى آخر إلى الزاوية المُظلمة حيث كان يجلس.

أعلن الطبيب بحماس، وهو يتوقف عن شحذ سكينه على الموقد: «أوه، إنها حياة رائعة. ما يُعجبني فيها هو الكفاح، والسعي الذي يبذله المرء بيدَيه بكل بدائيته، وواقعيته.»

ضحك ميسنر قائلًا: «إن درجة الحرارة واقعية بما فيه الكفاية.»

سأله الطبيب: «هل تعرف كم تبلُغ درجة البرودة فعلًا؟»

هزَّ الآخر رأسه نفيًا.

«حسنًا، سأُخبرك. إنها أربعة وسبعون درجة تحت الصفر وفقًا لمقياس الحرارة الكحولي الموجود على الزلاجة.»

«هذه درجة حرارة أقل من نقطة التجمُّد بمقدار مائة وست درجات، إنها شديدة البرودة بحيث لا تسمح بالسفر، أليس كذلك؟»

«إنه عمليًّا انتحار»، هكذا كان حكم الطبيب على السفر في تلك الأجواء. «يجهد المرء نفسه إجهادًا شديدًا. يتنفَّس بقوة، ويستنشِق الصقيع نفسه داخل رئتَيه. يُبَرِّد الصقيع رئتَيه، ويُجمِّد حواف الأنسجة. فيُصاب بسعالٍ جاف على نوبات متقطعة بينما تأخُذ الأنسجة الميتة في الذبول، ويموت في الصيف التالي بالالتهاب الرئوي، مُتسائلًا عن السبب وراء ذلك. سأبقى في هذا الكوخ أسبوعًا حتى يرتفع مقياس الحرارة إلى خمسين درجة تحت الصفر على الأقل.»

ثم أردف قائلًا: «تيس، ألا تظنين أن القهوة قد غُلِيَت فترة كافية؟!»

انتبه جون ميسنر فجأة عندما سمع اسمها. فنظر إليها بسرعة، وارتسم على وجهه تعبيرٌ مُخيف، كأن شبح بؤس دفين قد بُعِثَ من جديدٍ فجأة. لكن في اللحظة التالية، وبجهدٍ نابع من إرادته، عاد الشبح إلى مخبئه مرةً أخرى. عاد وجهه هادئًا كما كان من قبل، على الرغم من أنه كان لا يزال مُنتبهًا، وممتعضًا مما أظهره له الضوء الضعيف من وجه المرأة.

كان أول ما فعلتْه تلقائيًّا هو إعادة وعاء القهوة إلى مكانه. لم تنظر إلى ميسنر إلا بعد أن فعلت ذلك. ولكنه كان بالفعل قد تمالك نفسه. لم ترَ سوى رجلٍ يجلس على حافة السرير ويفحص دون فضول مُقدمة حذائه المُقسين عند الأصابع. ولكن عندما استدارت عفويًّا لتبدأ في الطهي، ألقى عليها نظرةً سريعة أخرى، ونظرت هي أيضًا بسرعةٍ إلى الوراء، ولمحت نظرته. تجاوزَها ونظر إلى الطبيب، ومع ذلك ارتسم شبح ابتسامةٍ على شفته تقديرًا للطريقة التي أوقعته بها في شركها.

سحبَت شمعةً من صندوق الطعام وأشعلتها. نظرة واحدة على وجهها المُضاء كانت كافية لميسنر. كان عرض الكوخ الصغير لا يزيد على بضع خطوات، وفي اللحظة التالية وجدَها بجانبه. تعمَّدت أن تُقرِّب الشمعة من وجهه، وحدَّقت إليه بخوفٍ بعد أن تعرَّفت عليه. ابتسم لها بهدوء.

سألها الطبيب: «ما الذي تبحثين عنه يا تيس؟»

أجابت وهي تواصِل السير وتفتِّش في كيس ملابس على السرير: «دبابيس الشعر.»

وضَعا وجبتَهما على صندوق طعامهما، وجلسا على صندوق طعام ميسنر وواجهاه. كان مُتمددًا على سريره ليستريح، مُستلقيًا على جنبه، ومسندًا رأسه إلى ذراعه. في هذا الكوخ الصغير، بدا الأمر كما لو أن ثلاثتهم يجلسون معًا على الطاولة.

سأل ميسنر: «من أي جزءٍ من الولايات المتحدة أنت؟»

أجاب الطبيب: «سان فرانسيسكو. لكنني هنا منذ عامَين.»

قال ميسنر: «أنا من كاليفورنيا.»

نظرت إليه المرأة باهتمام، لكنه ابتسم وتابع:

«في الواقع، من بيركلي.»

بدأ الطبيب يشعر بالاهتمام.

وسأله: «جامعة كاليفورنيا؟»

«أجل، دفعة ٨٦.»

أوضح الطبيب قائلًا: «كنت أقصد أعضاء هيئة التدريس. أنت تُذكِّرني بهم.»

ابتسم ميسنر: «يؤسِفني سماعك تقول ذلك. أُفَضِّل أن يَحسبني الناس مُنَقِّبًا أو قائد كلاب جرِّ الزلاجات.»

اقتحمت المرأة الحديث قائلةً: «لا أظن أنه يُشبه الصورة النمطية للأساتذة الجامعيِّين مِثلما لا تُشبه أنت الأطباء.»

قال ميسنر: «أشكركِ.» ثم التفتَ إلى رفيقها قائلًا: «بالمناسبة يا دكتور، ما اسمُك، إن سمحت لي أن أسألك؟»

«هايثورن، إذا كنتَ ستُصدقني. لقد تخليتُ عن بطاقات التعريف عندما تخليتُ عن المدنية.»

ابتسم ميسنر وانحنى قائلًا: «والسيدة هايثورن.»

رمقته بنظرةٍ كانت تنطوي على الغضب أكثر من الاعتراض.

كان هايثورن على وشك السؤال عن اسم ميسنر. كان فمُه مفتوحًا ليطرح السؤال عندما قاطعه ميسنر.

«خَطَر على بالي شيء الآن يا دكتور، ربما تكون قادرًا على إرضاء فضولي بشأنه. كانت هناك فضيحة في دوائر أعضاء هيئة التدريس منذ نحو عامَين أو ثلاثة أعوام. لقد اختفت زوجة أحد أساتذة اللغة الإنجليزية، عذرًا يا سيدة هايثورن، مع طبيبٍ ما من سان فرانسيسكو، كما فهمت، لكنَّ اسمَه ليس حاضرًا في ذهني الآن. هل تتذكَّر هذه الواقعة؟»

أومأ هايثورن رأسه، وقال: «لقد أثارت ضجةً كبيرة في ذلك الوقت. كان اسمه وومبل … جراهام وومبل. كان طبيبًا شديد المهارة. كنتُ أعرفه إلى حدٍّ ما.»

«حسنًا، ما كنتُ أحاول أن أُلمِّح إليه هو ما ألَمَّ بهما. كنت أتساءل عما إذا كنتَ قد سمعت شيئًا. فلم يتركا أي أثرٍ خلفهما، اختفيا تمامًا.»

تنحنح هايثورن قائلًا: «لقد أخفى آثاره بمكر. كانت هناك شائعات مفادها أنهما ذهبا إلى البحار الجنوبية وفُقِدا على متن سفينة شراعية تجارية في إعصار، أو شيء من هذا القبيل.»

قال ميسنر: «لم أسمع بذلك قَطُّ. هل تتذكَّرين هذه القضية يا سيدة هايثورن؟»

«أجل، تمامًا»، هكذا أجابت بصوتٍ كان ضبط النفس فيه متناقضًا بشكلٍ مذهلٍ مع الغضب المُحتدِم في وجهها الذي أدارته جانبًا حتى لا يراه هايثورن.

كان هايثورن على وشك السؤال عن اسم ميسنر مرةً أخرى، عندما قال ميسنر:

«سمعتُ أن الدكتور وومبل هذا كان وسيمًا جدًّا، وناجحًا جدًّا، إن جاز التعبير، مع السيدات.»

أجاب هايثورن بتذمُّر: «حسنًا، إن كان كذلك، فقد قضى على نفسه بتلك العلاقة.»

«والمرأة كانت مُتعجرفة؛ على الأقل هذا ما قيل لي. كان هناك إجماع عام في بيركلي أنها لم تجعل حياة زوجها بالضبط جنَّة.»

قال هايثورن: «لم أسمع ذلك قَطُّ. في سان فرانسيسكو كان الحديث على النقيض تمامًا من ذلك.»

«إنها امرأة مُضحية نوعًا ما، أليس كذلك؟ عُذِّبَت على صليب الزواج، صحيح؟»

أومأ الطبيب. ارتسمت نظرة فضولية بعض الشيء في عينَي ميسنر الرماديَّتين وهو يتابع:

«كان هذا متوقعًا، روايتان مختلفتان لنفس الواقعة. في أثناء إقامتي في بيركلي، سمعت الرواية من جانبٍ واحدٍ فقط. لقد كانت تتمتع بمكانة كبيرة في سان فرانسيسكو، على ما يبدو.»

قال هايثورن: «صُبِّي لي المزيدَ من القهوة من فضلكِ.»

ملأت المرأة كوبَه، وفي الوقت نفسه انفجرت في ضحكٍ خفيف.

وبَّختهما قائلةً: «إنكما تثرثران كعجوزين شمطاوَين.»

ابتسم لها ميسنر، قائلًا: «إنها قضية مُثيرة للاهتمام للغاية»، ثم عاد يُخاطب الطبيب. «يبدو أن الزوج لم يكن يتمتع بسمعةٍ جيدة في سان فرانسيسكو إذن، أليس كذلك؟»

قال هايثورن بحميةٍ بدت غير مُبررة: «على العكس، لقد كان متزمتًا أخلاقيًّا. لقد كان أكاديميًّا ضئيل الحجم يفتقر إلى الإحساس.»

«هل كنت تعرفه؟»

«لم أرَه قَطُّ. لم أتسكع قَطُّ في دوائر الجامعة.»

قال ميسنر بطريقةٍ توحي بأنه يزِن الأمر بدقة: «جانب واحد من الرواية مرة أخرى. صحيح أنه لم يكن كبيرًا، أقصد من الناحية الجسدية، لكني لا أستطيع أن أقول إنه كان سيئًا إلى هذا الحد أيضًا. لقد كان مُهتمًّا بشكلٍ مباشر بالرياضة البدنية الطلابية. وكان لدَيه قدرٌ من الموهبة. لقد كتب ذات مرةٍ مسرحية عن ميلاد المسيح جلبت له قدرًا كبيرًا من التقدير المحلي. وسمعتُ أيضًا أنه اختير رئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية، ولكنه استقال فور حدوث هذه الواقعة وغادر. لقد دمَّرت هذه العلاقة حياته المهنية، أو هكذا بدا الأمر. على أي حال، وفقًا للرواية المتداولة عندنا، كانت هذه الفضيحة بمنزلة ضربة قاضية له.»

همهم هايثورن بلا مبالاة وهو يفرغ من كوب قهوته، وأشعل غليونه.

تابع ميسنر قائلًا: «من حُسن الحظ أنهما لم يُنجِبا.»

لكن هايثورن، ارتدى قبَّعته وقفازَيه وهو يُلقي نظرة سريعة على الموقد.

قال: «سأخرج لأُحضر بعض الحطب. عندئذٍ سأتمكَّن من خلع حذائي والشعور بالراحة.»

أُغلِق الباب خلفه بقوة. ساد الصمت دقيقة كاملة. ظلَّ ميسنر على نفس وضعه على السرير. جلست المرأة على صندوق الطعام في مواجهته.

سألت فجأة: «ماذا ستفعل؟»

نظر إليها ميسنر بتردُّدٍ كسول وقال: «ما الذي ينبغي لي فعله في ظنكِ؟ آمُل ألا يكون شيئًا فاضحًا. أنا، كما ترين، مُتيبِّس ومُتقرح من مشاقِّ الطريق، وهذا السرير مريح للغاية.»

عضَّت على شفتِها السفلية، وغضبت في صمت.

شرعت في الكلام بحدَّة، قائلةً: «لكن …»، ثم أطبقت يدَيها وتوقفت.

قال بلطفٍ، كأنه يتوسَّل تقريبًا: «آمُل ألا تكوني تُريدين مني أن أقتل السيد … هايثورن. سيكون الأمر مزعجًا للغاية، وأؤكد لكِ أنه حقًّا غير ضروري.»

صاحت قائلة: «لكن عليك أن تفعل شيئًا.»

«على العكس، من المعقول تمامًا أن أكون غير مُضطرٍّ إلى فعل أي شيء.»

«هل ستبقى هنا؟»

أومأ إيجابًا.

نظرت بيأسٍ في أنحاء الكوخ وإلى كيس النوم غير المفروش على السرير الآخر. «الليل قادم. لا يُمكنكَ المكوث هنا. لا يمكنك! أقول لك، ببساطة لا يمكنك المكوث!»

«بالطبع يُمكنني. ربما أُذكِّركِ بأنني من وجدتُ هذا الكوخ أولًا وأنكما ضيفاي.»

ومرة أخرى تنقَّلت عيناها في أرجاء الغرفة، ودبَّ فيهما الرُّعب عندما رأت السرير الآخر.

قالت بحزم: «إذن سيتعيَّن علينا الذهاب.»

«مُستحيل. إنك تُعانين من نوبات سعال جاف، من النوع الذي وصفه السيد هايثورن ببراعة. لقد أصابت رئتَيك برودةٌ طفيفةٌ بالفعل. علاوةً على ذلك، هو طبيب ويعرف هذا. لن يسمح بهذا أبدًا.»

ألحَّت مرة أخرى، بطريقة حادَّة وهادئة تُنذر بانفجارٍ وشيك: «إذن ماذا ستفعل؟»

نظر إليها ميسنر بطريقةٍ تكاد تكون أبوية، مُتعمدًا أن تعكس نظرته شفقةً عميقة وصبرًا مُصطنعَين.

«عزيزتي تيريزا، كما أخبرتكِ من قبل، لا أعرف. أنا حقًّا لم أفكر في الأمر.»

«أوه! إنك تقودُني إلى الجنون!» هبَّت واقفة، واعتصرت يدَيها بغضبٍ عاجز. «لم تكن هكذا مطلقًا.»

أومأ برأسه موافقًا، وهو يقول: «كنتُ في غاية اللطف والوداعة. هل لهذا تركتِني؟»

«إنك مختلف جدًّا، وهادئ للغاية. إنك تُخيفني. أشعر أن لدَيك شيئًا فظيعًا تُخطط له طوال الوقت. لكن مهما كان ما ستفعله، لا تفعل أي شيءٍ مُتهور. لا تنفعل و…»

قاطعها قائلًا: «لم أعد أنفعل مُطلقًا. لم أعد أنفعل منذ رحلتِ.»

أجابت: «لقد تحسَّنت … بشكلٍ ملحوظ.»

ابتسم مُعترفًا. وقال: «بينما أفكر فيما سأفعله، سأُخبركِ بما يجِب عليكِ فعله؛ أخبري السيد هايثورن من أنا. قد يجعل ذلك إقامتنا معًا في هذا الكوخ أكثر … إن جاز لي أن أقول، ودًّا؟»

خرجت عن الموضوع، وسألته: «لماذا تبِعْتني إلى هذا البلد المُخيف؟»

«لا تظنِّي أنني أتيتُ إلى هنا بحثًا عنكِ يا تيريزا. لا تدَعي أي سوء فهمٍ من هذا القبيل يدغدغ غرورك. لقاؤنا محض صدفة. لقد تخليتُ عن الحياة الأكاديمية، وكان عليَّ الذهاب إلى مكانٍ ما. صدقًا، لقد جئتُ إلى كلوندايك لأنني حسبت أنه المكان الأقل احتمالًا أن تتواجدي فيه.»

سَمِعَا صوت شخصٍ يعبث بالقفل، ثم انفتح الباب ودخل هايثورن ومعه ملء ذراعَيه من الحطب. عند الإنذار الأول لصوت القفل، بدأت تيريزا تُزيل الأطباق بعفوية. خرج هايثورن مرةً أخرى بحثًا عن المزيد من الحطب.

تساءل ميسنر: «لماذا لم تُقَدِّمي أحدَنا للآخر؟»

أجابت وهي تهزُّ رأسها: «سأُخبره. لا تحسبني خائفة.»

«لم أعهدكِ تخافين كثيرًا من أي شيء.»

قالت بصوتٍ أرقَّ ووجهٍ ألطف: «ولا أخاف من الاعتراف أيضًا.»

«في حالتكِ، أخشى أن يكون الاعتراف استغلالًا عن طريق المُراوَغة، وجنيًا لمكسبٍ بالحيلة، والتلاعُب بالأمور الروحية لتحقيق منفعةٍ شخصية.»

قالت بعبوسٍ ونبرةٍ تشي بحنانٍ متزايد: «لا تكن حرفيًّا. لم أُحب مطلقًا المناقشات الحاذقة المُتكلَّفة. كما أنني لا أخشى أن أطلب منك أن تغفر لي.»

«ليس هناك ما أغفره يا تيريزا. حقًّا ينبغي أن أشكُركِ. صحيح أنني عانيتُ في البداية؛ ولكن بعد ذلك، مع كل ما في الربيع من لطف، اتضح لي أنني كنتُ سعيدًا، سعيدًا جدًّا. لقد كان بحقٍّ اكتشافًا مذهلًا للغاية.»

سألته: «ولكن ماذا لو عدتُ إليك؟»

نظر إليها بطريقةٍ غريبة، وقال: «سأضطرب بشدة.»

«أنا زوجتك. إنك لم تحصُل على الطلاق قَطُّ كما تعلم.»

قال وهو يُفكر مليًّا: «أجل، لقد كنتُ مُهمِلًا. سيكون من أوائل الأشياء التي سأهتمُّ بفِعلها.»

جلسَت إلى جانبه، ووضعت يدَها على ذراعِه. «ألا تُريدني يا جون؟»، كان صوتها ناعمًا ومُلاطِفًا، ويدُها تستقر على يده كشرَكٍ مُغرٍ. «ماذا إذا قلت لك إنني أخطأت؟ ماذا إذا قلتُ لك إنني تعيسة للغاية؟ وأنا كذلك فعلًا. ولقد ارتكبتُ خطأً بالفعل.»

بدأ الخوف يزحف على قلب ميسنر. شعر بنفسه يذبُل تحت يدِها الموضوعة بخفَّة. كان زمام الموقف يفلت من قبضته، ويختفي كل هدوئه الجميل. نظرت إليه بعينَين تذوبان بالمشاعر، وبدا هو أيضًا هشًّا وذائبًا. شعر بأنه على حافة الهاوية، عاجزًا عن الصمود في وجه القوة التي تشدُّه.

«سأعود إليكَ يا جون. سأعود اليوم … الآن.»

كأنه في كابوس، قاوَمَ تحت وطأة أثر يدِها. وبينما كانت تتحدَّث، بدا كأنه يسمع أغنية الحورية لوريلاي تموج بنعومة وتقوده إلى الهلاك. شعر كما لو أنه، في مكانٍ ما، كان هناك بيانو يُعْزَف، وكانت النغمات الفعلية تدق على طبلة أذنه.

هبَّ واقفًا فجأة، ودفعها عنه بينما كانت تُحاول الإمساك به بذراعَيها، ثم تراجع إلى الخلف نحو الباب. كان في حالة ذُعر.

صاح قائلًا: «سأفعل شيئًا يائسًا!»

«لقد حذَّرتك من ألا تتحمَّس.» ضحكت بسخرية، ومضت تغسل الأطباق. «أنا لا أُريدك. كنت أعبث معك فقط. إنني أسعد في وضعي الحالي.»

لكن ميسنر لم يُصدقها. لقد تذكَّر براعتها في تغيير سلوكها الخارجي. لقد غيَّرت موقفها الآن. لقد كان استغلالًا غير مباشر. ولم تكن سعيدة مع الرجل الآخر. لقد اكتشفت خطأها. ألهبت هذه الفكرة شعور ميسنر بذاته. لقد كانت ترغب في العودة إليه، وهو الشيء الوحيد الذي لم يكن يُريده. عبثت يدُه بقفل الباب بعفوية.

فضحكت قائلة: «لا تهرب. لن أعضَّك.»

أجاب بتحدٍّ طفولي، وهو يرتدي قفَّازه في الوقت نفسه: «أنا لا أهرب. سأذهب لإحضار بعض الماء فحسب.»

جمع الدِّلاء الفارغة وأواني الطبخ معًا وفتح الباب. واستدار ناظرًا إليها.

«لا تنسي أنكِ لا بد أن تُخبري السيد هايثورن من أنا.»

كسر ميسنر الطبقة التي تشكَّلت على فتحة الماء في غضون ساعة وملأ دلاءه. لكنه لم يعُد على الفور إلى الكوخ. ترك الدلاء في الطريق، ومشى جيئة وذهابًا بسرعةٍ حتى لا يتجمَّد، فقد كان الصقيع يخترق الجلد كالنار. صارت لحيته بيضاء بفعل زفير أنفاسه المُتجمِّدة، واسترخى حاجباه المُقطِّبان، وعاد يتمالك أعصابه. لقد اتخذ قراره بشأن ما سيفعله، وتشقَّق الثلج المُتجمِّع على شفتَيه وخدَّيه المُتجمِّدَين وهو يضحك في سرِّه. كانت الدلاء قد تغطَّت بالفعل بطبقة من الثلج الحديث عندما حملها وتوجَّه إلى الكوخ.

عندما دخل وجد الرجل الآخر ينتظر، واقفًا بالقرب من الموقد، وقد بدا عليه ارتباك شديد وتردُّد في سلوكه. وضع ميسنر دِلاء الماء الخاصة به.

قال بنبرةٍ تقليدية، كأنهما تعارَفا للتو: «سعيد بلقائك يا جراهام وومبل.»

لم يمد ميسنر يده. تحرك وومبل بتوتر، وهو يشعر تجاه ميسنر بالكراهية التي قد يشعر بها الإنسان تجاه من أخطأ بحقِّه.

قال ميسنر بلهجةٍ مُتعجبة: «إذن أنت الرجل. حسنًا، حسنًا. كما ترى، أنا سعيد حقًّا بلقائك. لقد كنتُ أشعر بفضولٍ لمعرفة ما وجدته تيريزا فيك؛ مَكمَن الانجذاب، إن جاز لي أن أقول. حسنًا، حسنًا.»

فحصه ميسنر من رأسه إلى أخمص قدمَيه كما يفحص شخصٌ حصانًا.

شرع وومبل في الحديث قائلًا: «أعرف ما لا بد وأنك تشعر به تجاهي.»

سارع ميسنر يقول بصوتٍ وأسلوبٍ وَدودَين بصورةٍ مُبالغ فيها: «لا بأس. لا تشغل بالك بذلك. ما أريد معرفته هو كيف تراها؟ هل ترقى إلى مستوى التوقُّعات؟ هل ما زالت تُحافظ على رونقها؟ هل أصبحت الحياة حلمًا سعيدًا منذ هروبكما؟»

قاطعته تيريزا قائلة: «لا تكن سخيفًا.»

اشتكى ميسنر قائلًا: «لا يسعني أن أكون طبيعيًّا.»

قال وومبل بحدة: «يُمكنك أن تركز على ما يُهم، وأن تكون عمليًّا في الوقت نفسه. ما نريد أن نعرفه هو ماذا ستفعل؟»

أشار ميسنر بإيماءة قلَّة حيلة زائفة. وقال: «أنا حقًّا لا أعرف. إنه واحد من تلك المواقف الشديدة الصعوبة التي يعجز المرء أمامها عن اتخاذ أي ترتيبات.»

«لا يُمكن لثلاثتنا المبيت في هذا الكوخ.»

أومأ ميسنر برأسه في إقرار.

«إذن فعلى شخص ما المُغادرة.»

وافقه ميسنر على ذلك قائلًا: «هذا أيضًا أمر لا جدال فيه. عندما لا يمكن لثلاثة أشخاص أن يشغلوا نفس المساحة في نفس الوقت، يجب على أحدِهم المغادرة.»

قال وومبل بتجهُّم: «وأنت ذلك الشخص. إنها مسافة عشرة أميال إلى معسكر التخييم التالي، ولكن يُمكنك فعل ذلك بسهولة.»

اعترض ميسنر قائلًا: «وهذا هو العيب الأول في طريقة تفكيرك. لماذا أنا بالضرورة من يجب عليه المغادرة؟ لقد وجدتُ هذا الكوخ أولًا.»

أوضح وومبل قائلًا: «لكن تيس لا تستطيع الخروج. لقد أصابت البرودة رئتَيها قليلًا بالفعل.»

«أتفق معك. إنها لا تستطيع المجازفة بتحمُّل عشرة أميال من الصقيع. لا بد أن تبقى لا محالة.»

قال وومبل بحسم: «إذن فهو كما قلتُ.»

تنحنح ميسنر. وأردف: «إن رئتَيك سليمتان، أليس كذلك؟»

«أجل، ولكن ماذا في ذلك؟»

تنحنح ميسنر مرة أخرى، وتحدَّث ببطءٍ شديدٍ وحصيف. «السبب، يُمكنني القول، إنه لا شيء وفقًا لمنطقك يمنعك من المغادرة، والتعرُّض للصقيع، إذا جاز التعبير، لمسافة عشرة أميال. يمكنك فعل ذلك بسهولة.»

نظر وومبل نظرةً خاطفةً بارتيابٍ إلى تيريزا، ولمح في عينَيها بريقًا من الدهشة والسرور.

حثَّها قائلًا: «ما قولكِ؟»

تردَّدت، فعبس وجه وومبل بدفقة غضبٍ شديد. ثم استدار إلى ميسنر.

«هذا يكفي. لا يمكنك المكوث هنا.»

«بل يُمكنني.»

«لن أسمح لك.» شدَّ وومبل قامته. «أنا من يُدير الأمور.»

أصرَّ ميسنر: «سأبقى على أي حال.»

«سأُخرجك عنوة.»

«سأعود.»

توقف وومبل لحظة ليتحكَّم في صوته ويتمالك نفسه. ثم تحدَّث ببطء وبصوتٍ منخفض ومتوتر.

«انظر يا ميسنر، إذا رفضتَ المغادرة، سأبرحك ضربًا. هذه ليست كاليفورنيا. سأضربك بقبضتَي حتى أسحقك.»

هزَّ ميسنر كتفَيه. وقال: «إذا فعلتَ ذلك، فسأدعو إلى اجتماعٍ لعمَّال المناجم، وسأحرص على أن يشنقوك على أقرب شجرة. كما قلت، هذه ليست كاليفورنيا. إنهم أُناس بسطاء — عمَّال المناجم هؤلاء — وكل ما عليَّ فعله هو أن أريهم آثار الضرب، وأخبرهم بحقيقتك، وأطالب بحقِّي في استعادة زوجتي.»

حاولت المرأة التحدُّث، لكن وومبل انقلب عليها بعنفٍ شديد.

صاح قائلًا: «لا تتدخَّلي في هذا!»

في تناقضٍ ملحوظٍ قال ميسنر بهدوء: «لا تتدخَّلي يا تيريزا من فضلك.»

لم يعُد غضب تيريزا ومشاعرها المكبوتة مُهمَّين أمام ألم رئتَيها المُتهيِّجتَين بسبب نوبة السعال الجاف التي أصابتها، ووجهها الذي احتقن بالدماء وهي تُمسك بصدرها بإحدى يدَيها في انتظار انتهاء النوبة.

نظر إليها وومبل بعبوسٍ وقد لاحظ سعالها.

وقال: «يجب فعل شيءٍ ما. ومع ذلك، فرئتاها لا يمكن أن تتحمَّلا التعرُّض للجو بالخارج. لن تستطيع السفر حتى ترتفع درجة الحرارة. ولن أتخلَّى عنها.»

تردَّد ميسنر في الكلام، وتنحنح، ثم تردَّد ثانيةً، وقال شِبه آسف: «أحتاج إلى بعض المال.»

على الفور ظهر الاحتقار على وجه وومبل. ففي نهاية المطاف، كان ميسنر قد فاقَه حقارة.

تابع ميسنر قائلًا: «لديك شوال كبير من غبار الذهب. لقد رأيتُك تُخرجه من الزلاجة.»

سأل وومبل بنبرة احتقارٍ تضاهي تعبير الاحتقار الذي ارتسم على وجهه: «كم تريد؟»

«لقد قدَّرت وزن الشوال، وأظن أنه يزن نحو عشرين رطلًا. ما رأيك في أربعة آلاف؟»

صرخ وومبل قائلًا: «ولكن هذا كل ما أملك يا رجل!»

قال الآخر بهدوء: «إنها لديك. لا بد أنها تستحقُّ التضحية. فَكِّر فيما سأضحي به. إنه سعر معقول بالتأكيد.»

«حسنًا.» اندفع وومبل نحو شوال الذهب. «أريد إتمام هذه الصفقة في أسرع وقت، أيُّها الحقير!»

عقَّب ميسنر سريعًا بابتسامة: «لقد أخطأتَ. من الناحية الأخلاقية، أليس مانح الرشوة سيئًا مثل مُتلقِّيها تمامًا؟ اللص ومتلقِّي الرشوة كلاهما سيئ، كما تعلم؛ لا تحتاج إلى مواساة نفسك بأي تفوقٍ أخلاقي وهْمي فيما يتعلق بهذه الصفقة الصغيرة.»

انفجر وومبل غضبًا، قائلًا: «لتذهب أخلاقُك إلى الجحيم! تعالَ هنا لتراني وأنا أزِن غبار الذهب هذا. فقد أخدعك.»

وكانت المرأة تتكئ على السرير، غاضبةً وعاجزة، وتُشاهد ثمنها يوزن بغبار الذهب وكُتل الذهب الخام على الميزان الموضوع على صندوق الطعام. كان الميزان صغيرًا، مما استلزم أن يزِنا مراتٍ عديدة، وكان ميسنر يتحقَّق من كل وزنٍ بعناية فائقة.

قال وهو يربط شوال الذهب: «يحتوي الغبار على الكثير من الفضة. لا أعتقد أن وزنه سيصِل إلى ست عشرة للأوقية. لقد تفوَّقْت عليَّ قليلًا يا وومبل.»

تعامل مع الشوال بلُطف، وبتقديرٍ مُستحَق لقيمته الثمينة، حملَه إلى زلَّاجته.

عند عودته، جمع أوعيتَه وأوانيه ومقاليه معًا، وحزم صندوق طعامه، وطوى كيس نومِه. وعندما أوثق ربط الزلاجة ووضع الألجمة على الكلاب المُشتكية، عاد إلى الكوخ ليأخُذ قفازه.

قال وهو يقف عند الباب المفتوح: «وداعًا يا تيس.»

استدارت، وهي تُصارع كي تتمكَّن من الكلام، ولكنها كانت منفعلةً حدَّ الهياج بحيث لم تستطع التعبير عن الغضب الذي يتأجَّج داخلها.

كرَّر بلطفٍ: «وداعًا يا تيس.»

تمكَّنت من أن تقول: «وحش!»

استدارت وترنَّحت إلى السرير، وألقت بنفسِها عليه دافنةً وجهها فيه، وقالت وهي تنتحِب: «أيها الوحوش! أيها الوحوش!»

أغلق جون ميسنر الباب خلفَه بهدوء، وبينما كان يُجهز الكلاب للانطلاق، نظر إلى الكوخ وعلى وجهه ارتياح كبير. أوقف ميسنر الزلَّاجة أسفل الضفة، بجوار حفرة الماء. أخرج شوال الذهب من بين أحزمة الزلاجة وحمله إلى حفرة الماء. كانت طبقة جديدة من الجليد قد تشكَّلت بالفعل. كسر هذه الطبقة بقبضته. وفكَّ الجزء العلوي المعقود بأسنانه، وأفرغ محتويات الكيس في الماء. كان النهر ضحلًا عند تلك النقطة، وعلى عُمق قدمَين تحت سطح الماء كان في إمكانه رؤية قاع النهر متلونًا باللون الأصفر الباهت في الضوء الخافت. وعندما رآه، بصق على الماء.

قاد الكلاب على طريق يوكون. كانت تتذمَّر دون حماس، ولا ترغب في الركض. مُتشبثًا بعمود التوجيه بيدِه اليمنى، وبالأخرى يحكُّ خدَّيه وأنفه، تعثَّر ميسنر فوق الحبل بينما كانت الكلاب تنحرف عند المنعطف.

صاح قائلًا: «انطلقي أيتها الوحوش ذات الأقدام المُتألِّمة! هيا، انطلِقي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤