مقدمة
حوالي عام ١٩٢٣ كنت أحرر الصفحة الافتتاحية لإحدى المجلات الأسبوعية، وبقيت على ذلك إلى أواخر عام ١٩٢٩، وكنت أتوخى فيها مخاطبة الشباب وأنبههم إلى حقائق الحضارة ومعاني الثقافة.
وكان استعدادي لهذا الموقف، موقف الإرشاد للشباب، أني أقمت في أوروبا نحو خمس سنوات أتأمل وأفكر في الأسباب والعوامل التي رفعت الأوربيين حتى حصلوا على الثراء والقوة والعلم في حين تأخرنا نحن عن كل ذلك، فكنت أكتب هذه الفصول في شرح ما فهمت من الحضارة الأوربية، وفي ١٩٣٠ جمعت بعض هذه الفصول وأصدرتها كتابًا بعنوان «في الحياة والأدب»، وفي هذا العام (١٩٥٦) طلبت إلى «دار النشر المصرية» أن تعيد طبع هذا الكتاب، فعدت إليه لكي أتصفحه وأحذف منه ما تغيرت قيمته أو سقطت بمرور هذه السنين.
وحين أتأمل الكتاب أجد أن وحدة الهدف واضحة في جميع فصوله. إذ هي تنوير وتبصير بالحضارة والثقافة ودعوة إلى التغيير والتطور.
وأول ما التفت إليه، حين كنت في أوروبا، أن هذه القارة إنما سادت سائر القارات بحضارة الصناعة التي تغذوها ثقافة العلم، وأنه ليس هناك من فروق بين مصر وبريطانيا. أو مصر وفرنسا، سوى هذا الفرق، وهو أننا نعيش على الزراعة في الأكثر بينما يعيش الإنجليز والفرنسيون على الصناعة، فهم أثرياء ونحن فقراء، وهم يعرفون العلوم ونحن نجهلها، وهم أقوياء ونحن ضعفاء، وإذا نحن أخذنا بالصناعة فإننا نصير مثلهم سواء في القوة والثراء والعلم.
وكانت «نظرية التطور» بجميع مركباتها المادية والاجتماعية قد لابست تفكيري منذ شبابي، فوجدت فيها إلهامًا ونورًا، ودعوت إليها في حرارة، خاصة وأني وجدت بلادنا تستمسك بتقاليد خانقة تعوق تقدمنا وارتقاءنا وتجرنا إلى الماضي بينما الأمم الناهضة تثب إلى المستقبل.
والمستقبل حياة والماضي موت.
وكانت للمرأة مقام أمامي في كل تفكيري الارتقائي لبلادنا؛ ولذلك كتبت وألفت الكتب في ضرورة مساواتها بالرجل، ليس في الحقوق فقط بل في الواجبات، حتى تختبر الدنيا وتعيش إنسانًا مجربًا عارفًا حكيمًا كالرجل سواء؛ ولذلك يجب أن تزامل الرجل في المدرسة والمصنع والمتجر والمكتب.
ووجدت أن مكافحتنا للاستعمار الأجنبي لن تكون ناجحة كاملة إلا إذا كافحنا الرجعية المصرية الخانقة؛ ولذلك لم أهمل الدعوة إلى الآراء المصرية في الأخلاق والعقائد.
ومنذ شبابي وأنا على يقين بأن الحضارة الأوربية ليست هي الكلمة الأخيرة في تاريخ الحضارات، وإنما هي فترة انتقال من الانفرادية البغيضة إلى الاشتراكية السخية، ولم أنكر يومًا ما هذا المذهب الذي جلب علي كثيرًا من المتاعب من دعاة الظلام من الرجعيين المصريين والمستعمرين الإنجليز.
والقارئ لهذا الكتاب يجد آرائي مبسطة موجزة، فإذا شاء التعمق فليقرأ مؤلفاتي الأخرى.