من هو العظيم
حدث مرة أن جريدة «الماتن» استفتت قراءها عن أعظم رجل فرنسي خدم فرنسا؟ فجاءتها الخطابات تترى من جميع الأنحاء وجميع كاتبيها غيورون على أن يكون عظيمهم عظيم الأمة بأجمعها، وكان من المنتظر أن نابليون سيفوز بأكبر عدد من الأصوات، ولكن جاءت النتيجة عكس هذا المنتظر وظهر على قمة العظماء شخص قد لا تكون قد سمعت به وهو باستور.
ومن باستور هذا الذي أربت أصواته على الأصوات التي نالها نابليون؟
باستور رجل وضيع الأصل، اشتغل بالعلم فعرف الميكروب، وأوجد مصلًا لمرض الكلب، وعالج كروم فرنسا من وباء كان يفتك بها، واهتدى إلى طريقة لتطهير اللبن، وهذه الأشياء الوضيعة أدرك الشعب الفرنسي أنها أكبر من المعارك العظيمة التي خاضها نابليون ورفع بها شأن فرنسا الحربي؛ ولذلك حكم لباستور بالتفوق في العظمة.
فالشعب الفرنسي يقول بصريح القول: إن العظمة هي الفائدة التي تعود على الأمة من العظيم الذي ينشأ بينها، وعظمة نابليون ليست طبلًا أجوف رنانًا لا فائدة فيه، فإن فرنسا كانت في بداية تسلمه مقاليدها أكبر مما كانت عليه عندما انهزم، وأسره الإنجليز، ونفوه، بعد أن كبد الفرنسيين نحو مليون قتيل، وأما باستور فإنه أنقذ ثروة الوطن ووقى الأطفال من الموت أو خفض آلام المرضى وفتح للطب فتحًا عظيمًا، وإذا كان الأطفال يستهويهم ذكر نابليون ويتغنون بمدحه ويصلصلون بسيفه فإن الرجل الذكي لا يرى مندوحة من أن يحكم بالعظمة الحقيقية لباستور دون نابليون.
وما أحرانا في مصر أن نراجع أنفسنا ونعيد النظر في تقدير عظمائنا، ومقدار الفائدة التي عادت من كل منهم على بلادنا، ولكن كيف نقيس هذه الفائدة؟
إن العظيم يجب أن يكون هو الرجل الذي كسب للأمة حقوقًا لم تكن لها من قبل، وهو الرجل الذي وجه العقول إلى وجهة وطنية مصرية بعد أن كانت قوميتها متلاشية في فوضى الأفكار التي ورثناها عن المماليك، وهو الذي رفع التعليم، وهو الذي نظم للبلاد طرق الري والصرف ورفع مستوى الصحة.
ولسنا نعين شخص هذا العظيم الآن وإنما يجب أن نقيسه بمقدار الفائدة التي عادت من وجوده على البلاد، فإذا قيل لك إن هذا الرجل أو ذاك عظيم فاسأل ماذا فعل للبلاد وما هو الربح الحقيقي الذي جنته منه؟ ولو سئلت أنا هذا السؤال لأجبت بأن العظيم في مصر هو الذي ينجي الفلاحين من البلهارسيا والإنكلستوما، وهو الذي يعمم التعليم الحقيقي لا تعليم القرون الوسطى، وهو الذي يخترع لنا طريقة لعمل الأسمدة الكيمياوية.
وأخيرًا هو الذي يوجه الأمة نحو الحضارة الأوربية، وبعبارة أخرى نقول إن العظيم هو من أشبه باستور بتواضعه ومثابرته على خدمة أمته في الشئون الصغيرة، وليس هو نابليون بجميع ما فيه من طبل أجوف رنان، فبلادنا مثلًا مفتقرة إلى الصناعة، نبيع قطننا كل عام بأبخس الأثمان، ثم نعود فنشتري بعضه بأرفع الأثمان، فالعظيم حق العظمة هو ذلك الذي يستطيع أن يعلم الفلاح كيفية غزل القطن ونسجه ويوجد في البلاد حركة صناعية تضمن لنا حياتنا الاقتصادية.