الصغائر العظيمة
قلما نتأمل في أخلاق بعض الناجحين في الحياة، الفائزين بغنائم الدنيان إلا ونجد أنهم يعنون بأشياء تعد صغيرة تافهة ولكنها بتراكمها وتجمعها تعد كبيرة عظيمة.
فقد ننظر مثلًا إلى رجل غني قد جمع ثروة طائلة يحسده عليها زملاؤه ومنافسوه فنتساءل عن علة غناه، فيقال لنا: إنه الحرص والبخل، وتبحث أنت فيما هو هذا الحرص وهذا البخل فلا تجدهما سوى العناية المفرطة بالصغائر أي بالمليم والقرش، ونحن نحسد البخلاء الحريصين لسبب واضح وهو أننا نعجز عن العناية بالصغائر مثلهم ولا نطيق هذا المثل الإنجليزي اللعين الذي يقول: ابحث عن القرش تأتك الجنيهات.
وقد ننظر مثلًا إلى رجل سياسي قد نجح وصارت له كلمة الزعامة فنتبين أسرار هذا النجاح في أخلاقه فلا نجدها إلا في العناية بصغائر الأمور التي لا يأبه لها معظم الناس، فتراه يعني بلفظة جميلة يختزنها لخطبة شائقة يهيئها لاقتناص خصم. أو تراه يتعرف وجوه الناس وأخلاقهم وسيرهم بما لا تبالي به أنت. أو تراه يدخل في تفاصيل تظن أنها لا تهم أحدًا سوى صغار الكتاب.
ومما اشتهر به أكثر العظماء ميلهم لبحث التفاصيل الصغيرة ودخولهم في أشياء يسهل على الكاتب الصغير القيام بها، فقد كان نابليون مثلًا لا يغادر صغيرة في الجيش إلا ويعرفها، فبينما كان مثلًا يعد الجيش للغارة بعد ساعة أو ساعتين كان يكتب الخطابات بشأن الجوارب للجنود، وكذلك كان حال سائر عظماء الرجال.
وهناك من الصغائر ما تكون له أكبر النتائج، فقد يقتل الجراح مريضه إذا لم يعن بصغائر العملية، وقد يشيد أحد المهندسين جسرًا عظيمًا سرعان ما ينهدم لأنه أهمل النظر في شيء كان يبدو في غاية التفاهة، ولا بد أنك سمعت عن النار تشب من مستصغر الشرر، ولكنك لو أردت لسمعت عن ناس مرضوا أو ماتوا لأنهم دعوا إلى وليمة وكان الطباخ قد أهمل الآنية وطبخ وبها مقدار صغير من زنجارة النحاس، ولو أردت أيضًا لسمعت عن خراب عائلات يرجع إلى عوائد صغيرة اعتادها رب البيت أو ربة البيت ما كان يظن أحدهما أنها كبيرة الأثر إلى هذا الحد.
وقيمة الصغائر العظيمة تبدو في الأعمال الفنية أكثر مما تبدو في غيرها، فالنجار الدقي إنما يتفوق ويمتاز بمقدار ما فيه من العناية بالدقائق التي إذا ما تجمعت صارت جلائل، والمصور الذي يتقن عمله يمتاز عن غيره أحيانًا كثيرة بعنايته بالصغائر التي لا يعنى بها غيره.
وقل مثل ذلك في سائر الأشياء والأعمال التي يقرن النجاح فيها إلى العناية بالصغائر، فالأجانب مثلًا يحتكرون إدارة الفنادق والقهوات في مصر ويربحون منها أرباحًا جزيلة ما كان أحرانا نحن بأن نربحها لولا أننا لا نعني بالصغائر مثلهم، فإن النظافة التي يتسمون بها ليست في الواقع سوى عناية زائدة بصغائر لو نظرنا إلى كل واحدة منها على حدة لما وجدنا فيها كبير طائل، ولكنها إذا تجمعت وتراكمت صار لها قوة تجذبنا وتحببنا في الفندق أو القهوة أو المطعم.
والسيجارة الأولى التي يدخلها الشاب ليؤكد بها بلوغه طور الرجولة تبدو صغيرة غاية في التفاهة، ولكنها إذا صارت عادة تملكت صاحبها في سن الشيخوخة حتى لو حسب بعد ذلك ما أنفقه في التدخين لبلغ آلاف الجنيهات، والكأس الأولى التي يشربها الشاب مجاراة لإخوانه وإثباتًا لرجولته وتمدينه قد تكون سببًا بعد ذلك لخراب عائلته إذا تملكته عادة الإدمان، وكلتا العادتين تبدو صغيرة في أول نشوئها ولكنها عظيمة الأثر في النهاية، والإنسان حزمة عادات والعادة عمل نتهاون فنكرره فيتملكنا.
فاحرص إذن أيها القارئ على أن تكون عاداتك حسنة، واعلم أن ما من شيء تعمله وتظنه صغيرًا إلا وله أثر في نفسك وفي مقدار نجاحك في العالم، فعود نفسك إذن على العناية بالصغائر سواء في الوقت أو المال أو العمل.