المرأة أساس الحضارة
روت الصحف الإنجليزية هذا الشهر حادثين غريبين لكل منهما مغزى يجب أن يفقهه القارئ المصري ويطبعه في ذهنه طبعًا لا ينمحي، فالحادث الأول أن فتاة أميركية عبرت بحر المانش سباحة، وهذا البحر أو المضيق يبلغ عرضه ٣٦ كيلو مترًا وكان أبو الفتاة في زورق يشجع الفتاة على العبور، ونجحت الفتاة وانتصرت على الأمواج، وأخذت الصحف تنشر صورها معجبة بقوتها وجرأتها وثباتها.
هذا حادث، وذكرت أيضًا حادثًا آخر خلاصته أنه يموت في كلكتا — المدينة الشهيرة بالهند — نحو ١٠٠٠٠ شخص بالتدرن كل عام، وأن نسبة الوفيات بين الجنسين هي ست من النساء إلى واحد من الرجال، وبعبارة أخرى تقول هذه الصحف إنه يموت بالتدرن في تلك المدينة العظيمة في كل عام نحو ٨٥٠٠ امرأة و١٥٠٠ رجل، وعزت الصحف هذه الزيادة العظيمة في وفيات النساء إلى العادة المتبعة في الهند من حجاب المرأة ومنعها من الحركة والسعي واضطرارها إلى الانزواء في عقر دارها بعيدة عن ضوء الشمس، حيث تعيش في خمول ودعة لا تتحرك عضلاتها ولا ينشط دمها، ومثل هذه الحال داعية إلى تفشي مكروب التدرن في جسمها.
ومغزى هذين الحادثين هو مما يحزن له كل من يرغب في خير الشرقيين؛ لأن معناه أن الغرب يقول برياضة المرأة وأن الشرق يقول بخمولها، وأن نظرية الغرب هي نظرية الحياة والصحة والعافية والقوة وأن نظرية الشرق هي نظرية الموت بالتدرن والضعف والمرض.
وعبرة ذلك كله لي ولك أيها القارئ أن تعرف أن المرأة هي أساس الحضارة الآن، وأن الفرق بين إنجلترا السائدة والهند المسودة هو فرق بين المرأة الإنجليزية التي تمارس الرياضة وتقوى وبين المرأة الهندية التي تنزوي وتتحجب وتضعف، ولهذا الفرق صدى في جميع أحوال الأمة، في خلق الرجال وتعليم الأطفال، وفي نظام البيت ودستور الأمة وفي كل شيء آخر حتى في الآداب والفنون، ولم لا يكون كذلك؟ أليست المرأة هي الأم، وهي التي تربي أطفالها، فإذا كانت تكبر من شأن الصحة والقوة جعلتهم يكبرون من شأنهما أيضًا؟ أو ليست هي ربة البيت بها ينتظم وبها تنضبط أحواله من مال واقتصاد؟ فإذا كان البيت مهد الحضارة؛ لأنه المدرسة الأولى التي يتربى فيها المرء وهو أيضًا المملكة الصغيرة التي يتعلم فيها الصبي ضبط النفس وأدب المعاشرة وعادات النظافة والمواظبة والمثابرة، فإن المرأة التي هي محور هذا البيت هي أساس هذه الحضارة، وإذا اختل الأساس كما هو في ذلك المثال الذي ذكرناه عن الهند اختل البناء، وإذا صح شادت الأمة بناءها شامخًا مشمخرًا كما هو في بريطانيا أو أمريكا.
يؤيد رأينا الأبحاث الحديثة في النفسلوجية التي تثبت أن أعمق الآثار في نفوسنا هي تلك التي نتلقاها في طفولتنا وصبانا بالمنزل.
وبمعنى آخر هي تلك الآثار التي تنطبع في أذهاننا بالقدوة والحديث من أمهاتنا، وليس شيء نتعلمه في المدارس أو نتلقاه من العالم بعد خروجنا من المدارس له من الأثر ما للأم في النفس، وليس وسط يؤثر فينا إن شرًّا وإن خيرًا ما يؤثره المنزل في طباعنا وعاداتنا، وما المنزل سوى المرأة.
فالأمم النشيطة الجريئة العاملة الدائبة في العمل ترجع صفاتها الحسنة هذه إلى ما عندها من أمهات لهن هذه الصفات، والأمم الخاملة الناكصة المريضة ترجع صفاتها السيئة هذه إلى أمهاتها أيضًا.
وبعد فأيتهما أفضل وأحق بالحياة؟ أتلك الفتاة التي تسبح ٣٦ كيلو مترًا بين الأمواج المتلاطمة أم تلك التي تنزوي تتحجب وتخمل حتى تمرض بالسل؟