وأنت أيضًا رجل عظيم
كثيرًا ما نقرأ عن جريمة فظيعة يرتكبها شاب في والده وهو في سورة غضب، فنشمئز ونتأفف من هذه الطبيعة البشرية التي تتسرع إلى الشر، وكثيرًا ما نسمع عن جناية فظيعة تقع بأحد الناس من مجرم باغ يرمي إلى غاية سافلة، فنعجب من هذه الطبيعة التي تنزل بالإنسان إلى أحط دركاته، وقد نشعر بعواطفنا تتفزز للشر أو للشهوة الأثيمة، أو تنزع بنا نحو الشراهة للطعام الكثير أو الشراب الكثير أو تميل بنا إلى إيثار الخمول على العمل أو نحو ذلك، فنعود إلى هذه الطبيعة البشرية ونقول إنها تحتاج إلى التأديب، وأن الإنسان مفطور على الشر وأن سوء الظن من حسن الفطن.
ولكن يجب أن نذكر جميعًا أن هذا التأديب الذي نطلبه لقمع الشر وكبح الغضب إنما نطلبه لما في هذه الطبيعة البشرية المنغرسة في نفوسنا من الخير، فكما أن نفوسنا قد طبعت على شيء من الشر والغضب والدناءة فهي قد طبعت أيضًا على شيء كبير من الأنفة والبر والخير، فإلى جانب المشنقة والسجن، وما فيهما من روح الانتقام والغيظ والحقد على المجرم، قد اخترع الإنسان أيضًا المدرسة والمستشفى لما في نفسه من روح البر والخير.
وهنا أذكر قصة قرأتها في سيرة الأمير كروبتكين الفوضوي الروسي الشهير، ولا أذكرها إلا ويرتفع الإنسان في نظري، فأكبر له وأرفع من مقام هذه الطبيعة البشرية المجرمة البارة، فقد حكي أن أحد الفوضويين ألقى قنبلة أمام المركبة الملوكية في بطرسبرج فانفجرت، وأجفلت الخيل وجمحت، وبينما هو يريد الفرار إذا به يرى طفلًا لقيطًا قد تركته أمه في زاوية من الشارع، فنسي الفوضوي جريمته ونسي المشنقة التي تنتظره وثابت إليه نفسه البارة فنظر إلى الطفل وتذكر خيل المركبة وهي جامحة شاردة فخشى على الطفل منها وانحنى عليه في تؤدة وحمله وعدا به.
فالخير والشر متلازمان في الطبيعة البشرية، ولكن الخير أغلب، وليس الرياء أو النفاق إلا إقرارًا بذلك؛ لأن المنافق يمارس الرذيلة ويتقنع بالفضيلة إذ هو يعرف أن العالم يرغب في الفضيلة، وليس من الحق أن نسلب الطبيعة البشرية فضائلها ولا نذكر سوى رذائلها، فإنك لا تجد بالوردة أشواكًا فقط بل تشم عطرًا ذكيًّا أيضًا، والفراشة الزاهية التي تعلو العين بهجتها كانت يومًا ما دودة قذرة.
والإنسان مجموعة من الصفات الحسنة والسيئة، ولكن الحسن يغلب فيه السيء، وإنما تحتاج الصفات إلى تنشئة وتربية، وكما أن كل إنسان تقريبًا قد فكر في جريمة ما — إن لم يكن قد ارتكبها — فكل إنسان أيضًا قد فكر في البر والخير ومارسهما، وفي نفس كل منا جذوة من ذلك الوحي السامي الذي ينبت في صدور الأنبياء والعلماء والمصلحين والأبرار والخيرين في كل أمة، ولكن هذه الجذوة تحتاج إلى الترويح وإلا بقيت هامدة.
فأنت أيها القارئ رجل بار أيضًا لأنك تنتمي إلى تلك الإنسانية التي نبت منها العظماء في الدين والعلم والأدب والسياسة. بل أنت تمت إلى هؤلاء الرجال بعرق، ولو عدت إلى عشرين أو ثلاثين جيلًا لوجدت أنك أنت وأبطاله تنتميان إلى جد واحد، وإنما يجب عليك أن تربي هذه الكفايات الحسنة في نفسك حتى تلتهب تلك الجذوة المقدسة في قلبك، فأنت عظيم ولا تدري أنك عظيم، وأنت رجل بار ولا تدري أنك بار، وأنت تحب الخير للعالم ولكنك تجهل ذلك.