سوط الاحتقار
يعمل الاحتقار في الناس أكثر مما يعمله الخوف، ومعنى هذا بكلام آخر أن الناس يحسبون للرأي العام ويستحيون من الناس أكثر مما يخافون من القوانين، بل نحن خاف القوانين لا لأننا نتألم من السجن بل لأننا نخشى احتقار الناس لنا إذا عرفوا أننا قد سجنا.
فإصلاح الأمة يرجع في الأكثر إلى قوة الرأي العام أكثر مما يرجع إلى القوانين؛ لأن للرأي العام سوطًا شديد الوقع غائر الأثر، نستطيع به أن نؤدب الناس ونعلمهم ونوجه نشاطهم إلى وجهات نافعة.
ولكن إذا اختل الرأي العام وساءت أحكامه صارت القوانين كلها في حكم العدم أو ما يقارب ذلك، فشرائع بلادنا مثلًا تعاقب المتجرين بالحشيش، ولكن الحشيش سيبقى والحشاشون سينعمون بهذا السم ما شاءوا لأن الرأي العام لا يحتقرهم، فلو أن حشاشًا وجد رجلًا يبصق في وجهه مرة، أو يطلب إليه ألا يعرفه، أو منعه من دخول منزله، لما تجاسر في القطر المصري كله حشاش واحد على اقتناء هذا السم الذي يزود مارستاناتنا بنصف مرضاها.
ولو أن ضابط الشرطة الذي يعتدي على الناخبين يرى من الناس عين الاحتقار والاشمئزاز من هذه السفالة لما استطاع مهما كانت المكافأة المالية التي ينتظرها أن يرتكب هذا الجرم؛ لأنه إنما يقصد من الترقي في المناصب ومن الحصول على المال تلك الوجاهة التي يتوخاها بين أهل بلاده، فإذا وجد منهم مقاطعة واشمئزازًا واحتقارًا لما تجرأ على ضرب ناخب.
وقل مثل ذلك في الجرائم التي ترتكب في الريف وتنفي الأمن منه، فإن المرتكبين الحقيقيين هم سكان الريف أنفسهم؛ لأنهم لا يحتقرون هؤلاء المجرمين، بل يروون حكايات سطوهم وانتهابهم بالإعجاب، كأنهم أبطال، حتى إن المجرم ليسجن وهو مرفوع الرأس كأنه بطل.
وقد كانت الرشوة إلى عهد قريب يتسامح فيها الجمهور ولا يعدها جريمة، فكانت لذلك كثيرة الشيوع لأن مرتكبها كان يعتقد أنه لن يفقد كرامته أمام بني وطنه إذا تلبس وثبتت عليه، وهو إلى حد ما لا يزال كذلك، وفي هذا فساد كبير للإدارة، ولن تصلح هذه الإدارة حتى يسلط الجمهور سوط احتقاره على جميع من ينهبون الحكومة بأية صورة.
ولقد كتبت الصحف كثيرًا عن ضرورة إقبال الشباب على الأعمال الحرة، ولكننا نعتقد أن أكبر ما يمنع إقبال الشباب عليها هو احتقار الجمهور لها، فلو أن الشاب وجد أن كرامته، إذا كان صاحب قهوة أو حانة أو مطعم، محفوظة مصونة في عين الجمهور كما تصان إذا توظف في الحكومة لما أحجم عن مثل هذه الأعمال الحرة، ولكن أكبر ما يجعله يحجم عنها هو احتقار الرأي العام لها، فإننا ما زلنا نجري على طبائع الاستبداد القديمة في إكبار كل ما يتصل بالحكومة واحتقار ما عداها، وقد نزل إلينا هذا الاعتقاد من السلف الذي كان يرى في الحكومة سلطانًا أي سلطان للاستبداد بالأفراد والنهب والتسخير، وسنعيش مدة طويلة وشبابنا عالة على الحكومة حتى يتربى الجمهور ويعرف للعمل الحر قيمته، ويحترم القهوجي الشريف كما لا يحترم المأمور السافل الذي يضرب الناخبين لكي يترقى، ويكرم صانع الأحذية كما يكرم المحامي الذي يشكو الآن من قلة الأعمال ويطلب منع دخول محامين جدد في مهنته.
إن للجمهور سوطًا قويًّا هو سوط الاحتقار الذي يستطيع أن يسلطه على الخامل والسكير والمجرم والزاني والمرتشي والمتزلف فيصلح بذلك أخلاق الأمة بما لا تستطيع الشرائع المكتوبة أن تصلحها؛ لأن حياء الناس أكبر من خوفهم، فهم إذا رأوا عين الاحتقار انزووا أو تصاغروا وساروا على النهج القويم.