الشيخ الشاب
يعيش في أيامنا هذه شيخ شاب يبلغ الثمانين في عدد السنين، ولكنه في الجراءة والنشاط وفي حرارة القلب وهمة النفس. شاب جدير بأن يكون طرازًا للشباب.
هذا الشيخ الشاب هو كليمنصو وزير فرنسا ومن رجالات الدول العظام، فإنه بعد أن عقد إكليل الغار على رأس وطنه، وأتم الصلح مع ألمانيا، ونال من الشرف والمجد أكبر ما يطمح إليه فرنسي، قصد إلى بيته في الريف لا ليقضي فيه أيامه الأخيرة، أيام الشيخوخة الورعة إلى جانب المدفأة والمسبحة، بل ليجدد فيه حياة جديدة هي حياة الجهد والتفكير والتأمل بعد حياة الجهد بالعمل السياسي.
فكليمنصو لا يشيخ بل يتطور في خدمة بلاده، فقد ناداه صوت الوطن مدة الحرب، فلبى نداءه وصرف مجهوده إلى خدمة الحرب، وها هو ذا يناديه الوطن أيضًا، بل يناديه العالم، إلى الخدمة المفروضة على كل حي فهو الآن يخدمه بذكائه. أما الشيخوخة فلا يذكرها ولا يتعلل بها للراحة. بل هو لا يؤمن بأنه شيخ، فإن ثقته بنفسه وقوة رجولته تلهمانه نشاط الشباب، وتذكر عنه حكاية بهذا الصدد مؤداها أن الدكتور فورنوف عرض عليه أن يجري له عملية استرداد الشباب التي تعمل للشيوخ فأجاب على الفور: لست شيخًا.
ثم هو — وهو في هذه السن — يعمد إلى كتب الإغريق، وينفض عنها غبار ألفي سنة كي يدرس حياة الخطيب ديموستينيس يستخرج منها موعظة نافعة لبلاده وللعالم.
وهو الآن يكتب مقالات متتابعة في إحدى الصحف الفرنسية يضمنها آراءه التي اختمرت بالتجارب العديدة التي مرت به في حياته، وماذا يقول فيها؟
يقول هذا الشيخ الذي بلغ الثمانين ما يجب أن يفقهه كل شاب من الثقة بالنفس، والكبرياء، والرغبة في الانتفاع والتجدد. يقول مثلًا: «يجب أن نلقى مرساتنا ونستقر على صخرة المعرفة.»
وأيضًا «كل يوم يمر بي هو برهان لي على أني أجدد نفسي بنشاط عقلي … ولست أعرف شيئًا كثيرًا ولكني أتقبل ما أعرفه بكبرياء كما أتقبل نتيجة معرفتي …»
فهاك إذن رجلًا لا يحمل المسبحة خائفًا مذعورًا وهو في سن الثمانين، بل يعتمد على نفسه ويدرس العالم ويرضى بنتائج درسه ويسكن إليها.
ثم هو ينصح للشباب، لك أيها القارئ، بقوله: «كي لا تحصل على دون ما ترمي إليه يجب أن تسمو إلى أكثر مما تستطيع.»
وليست حياة كليمنصو خلوًا من النقائص، وقد تكون وطنيته الحادة أكبر نقائصه، ولكن فيما نقلناه من أقواله ما يصور للقارئ تلك الشخصية القوية التي تبدو من حياته وأعماله وتثبت إخلاصه لنفسه ولوطنه ومحاولته في أن يعيش إنسانًا مستقلًّا ينفع العالم وينتفع به، وحسبه شرفًا قضية دريفوس التي واجه فيها الرأي العام وناضل فيها العصبة الفرنسية لمصلحة الحق، فقد كان دريفوس ضابطًا يهوديًّا بالجيش اتهم بالجاسوسية وسجن من أجلها، وكان كليمنصو يجاري الرأي العام في بداية التحقيق ثم تبين له أن الرجل مظلوم وأن التهم مزورة عليه، وكان في ذلك الوقت يحرر صحيفة الأورو، فانقلب يدافع عنه بكل قواه، وينشر في صحيفته خطاب زولا المشهور بعنوانه «اتهم»، وكان كليمنصو هو صاحب هذا العنوان المثير.
فما أمجد هذه الحياة التي يعيشها الإنسان في الدفاع عن الحق ومكافحة التعصب ثم الدفاع عن الوطن، وخلال هذه الأعمال لا يكف عن اكتساب المعارف التي يسكن إليها راضيًا بنتائجها، له من كبريائه الإنشائي ما يجعله يستقر إلى ما يبديه إليه عقله دون ما يسأم من الأساطير القديمة، ويعيش طول حياته نشيطًا مجاهدًا يلعب الألعاب الرياضية في شيخوخته كأنه شاب، ويقاطع الخمر والنبيذ لأنه يراهما دون رجولته وسيطرته على نفسه.
إن مثل هذا الشيخ يجب أن يكون قدوة للشباب والشيوخ. يجب أن نعيش طول حياتنا في جهاد ضد الرذائل، وفي اكتساب للمعارف والعادات الحسنة، وفي خدمة لا تنقطع للوطن والعالم، وكل ذلك في كبرياء يجعلنا نعرف كرامتنا، ونؤثر الموت الشريف على الحياة الدنيئة والإيمان الذي يمليه علينا ذهننا وقلبنا على التالد الموروث من عقائد تهتك أعراض الضمائر.